إيران دفعت سنة العراق إلى ابتداع أسطورة ضارة

إيران دفعت سنة العراق إلى ابتداع أسطورة ضارة

version4_IranIraq1

اليوم سألت صاحبي الكندي روب: لماذا نذهب إلى حفلات برأيك، فقال “لكي نشعر بالندم والحزن في اليوم التالي”، نظرت إلى صاحبي كيف يتحدث ويسكر ويهذر ويتألم. ما هي معاناة شاب وسيم كهذا؟ الضياع. فهذا شاب موهبته الحقيقية في الفكر ويعمل في إصلاح المصاعد لسبب بسيط هو أن معظم أصدقائه ليسوا مفكرين، لا أحد يساعده على العمل في السياسة أو الصحافة مثلا.

روب يتعذب لأنه لم يعثر على نفسه رغم أنه وصل إلى سن 35 سنة، ويشعر باغتراب كبير. لا النساء تملأ ضياعه ولا الخمر. إنه يتحدث مع أكبر قدر ممكن من الناس في الحفلات حين يسكر، وفي داخله طفل صغير يطلب منهم المساعدة، يريد أن يعثروا عليه فقد فشل هو في العثور على نفسه.

لولا حماية القانون والدولة الكندية من السهل على شخص قارئ لابن تيمية أن يؤثر على روب، يأخذه إلى المسجد، ويساعده على التخلص من الكحول. يقترح عليه التحول إلى داعية ويعطيه كتبا. روب ذكي وهذه موهبته الحقيقية “الأفكار والثقافة” سيشعر بأنه صاحب رسالة وأن حياته ممتلئة بالمعاني، وسيجد أنه محاط بأصدقاء يحبونه ويفتدونه بحياتهم. ومع الوقت يتحول “روب” الطيب إلى إرهابي. لحسن الحظ هذا غير ممكن بسبب حماية القانون والدولة، التي تحمي الحق العام وسلامة المجتمع.

داعش فكرة خطرة حقا، وابن تيمية الشيخ الذي أثر في علماني مثقف مثل الشاعر معروف الرصافي كما رأينا في نقده للشيعة ضمن الرسالة العراقية التي كتبها في الفلوجة، يستطيع أن يؤثر في الكثيرين. إنه في النهاية فكر (ملحد) ثوري وليس إيمانا بالمعنى الميت للكلمة.

لحماية شبابنا يجب على الدولة وجهاز الشرطة أن يكونا يقظين ومثقفين، نحتاج إلى إصلاحات في القوانين والوعي، طبعا هذا مستحيل في العراق، ويبقى داعش فكرة مقنعة جدا حين تكون الدولة طائفية إسلامية شيعية فاسدة وليست علمانية.

كثيرون تحدثوا عن انتماء أصحاب السوابق إلى داعش، معظم الناس لا يفهمون الأمر حقا. جوهر داعش أنه مشكلة فلسفية، تنظيم يمنحك اسما جديدا وحياة جديدة، حياة لا يعود لك فيها خيار بل الله يقودها، تصلي فيها خمس مرات في اليوم وتستمع إلى خطيب، وفي كل مشكلات حياتك تطبق شرع الله، حيـاة ليس فيها قلق ولا مسؤوليـة، لأنك تردّ فيها كل شيء إلى الله.

ومن أهم مشكلات الحياة المعاصرة بالغرب هي “الصداقة”. لا توجد صداقات لأن العزلة تقتل البشر، داعش يعرض عليك فكرة أن المؤمن أخو المؤمن، يقاتلان معا ويموتان يدا بيد، هذه مشكلة كبيرة عالمية. لو كل إنسان تطرده حبيبته وتأخذ منه أطفاله بالمحكمة في الغرب قبل أن ينتحر أو يتجه إلى الإدمان يذهب إلى داعش، لتكون له حياة جديدة وتمنحه اسما جديدا، ولما كانت هناك أزمة.

إن الإسلام الواقعي اليوم غير جذاب كداعش لأسباب كثيرة، منها أنه لا يمنح الجنسية ولا يقبل باندماج الغرباء، الإسلام الواقعي هو مجتمعات قديمة عنصرية من القبائل والبيوتات. ماذا يفعل شاب فرنسي بإسلام غير طموح؟ وبمجتمعات مسلمة متخلفة لا يتحرك فيها الزمن؟

الصلاة مرتبطة بقوة دافعة ابتكرها النبي لتكوين الأمة، هذه القوة الدافعة هي الخطر وليست صلاة التراويح، القوة الدافعة المبتكرة من قبل النبي محمد أراد سرقتها كل من الخميني والدواعش، وطبعا على الحياة والعصر الحديث والعالم أجمع أن يدافعوا عن أنفسهم.

لقد فهم الغربيون مبكرا معنى الدولة الإسلامية، عندهم مؤرخون يعرفون تماما كيف ظهر الإسلام، وكيف ظهرت الدولة العثمانية، والحركة الوهابية، والدولة الصفوية؛ يفهمون جيدا ما يجري. إسلام داعش فيه خطورة بسبب تذويب كل تلك العناصر في فكرة. صحيح أن الفكرة فاشية لكن هذا من العناصر التي جذبت الشباب.

الولايات المتحدة بحصارها وضرباتها النوعية ومرور الزمن، تعرف تماما ما تفعل. إنها تمنح الواقع فرصة لتهشيم الحلم، العالم الغربي خبير ويعرف جيدا مع مَن يتعامل، داعش فكرة خطرة تم احتواؤها والقضاء عليها.

هل ننسى الابتسامة على وجوه الانتحاريين، كيف بهذه السكينة ينتحر الشباب؟ إن الإنسان قد أشكل على الإنسان كما قال التوحيدي، وفي غياب العدل والمستقبل تظهر فكرة في الظلام وتشتعل وقد تؤدي إلى كوارث، أقرأ للشباب أحيانا وأرى معاناة الوعي عندهم، فأنت غير مدعو لشتم شيء لا تعرفه، القضية المؤثرة هي فهمه ونقضه في العمق. إن شتمك لشيء لا تستطيع فذاك دليل على خوفك منه، وضعفك أمامه.

أنت باختصار تشعر بخطر وتريد أن تعيش، ولا تريد حقا أن تخوض مغامرة الفهم والفكر. انظر إلى هذا الفضاء الذي تسيطر عليه كلماتي، انظر إلى القلق وانعدام الثقة اللذين أزرعهما في فكرة، انظر إلى فرار الناس وريبتهم، هذا كله ضريبة التفكير؛ وحشة مطلقة.

هي معاناة أقوم بها بدلا منكم، عندي شعور إذا عبرت تعبرون معي، يكون لكم جسرا من الجسور للنجاة. المعاناة الفكرية في العراق سنية وليست شيعية، هذه مشكلتنا وليست مشكلتهم. كلنا نتذكر معاناة الشيعة الوجدانية في الثمانينات من القرن الماضي، سنوات الغليان التي ظهر فيها الخميني، أُصيب الشيعة حينها بدوار حقيقي، بينما نحن السنة لم نفهم ولم نشعر بأي قلق.

القضية كانت واضحة جدا بالنسبة لنا، فالخميني مجرد رجل دين دجال مشعوذ، وكنا نندهش من خيانة البعض من الشيعة لوطنهم والولاء للخميني؟ لماذا هؤلاء خونة كنّا نتساءل؟ كما يتساءل قائد فيلق بدر والحشد الشعبي هادي العامري عن سبب خيانة البعض من السنة للوطن.

لقد كان الخميني واضحا بالنسبة لنا، ليس ذكاء منا بل لأننا سنة والخميني عاصفة شيعية لا علاقة لنا بها. نفس الشيء اليوم، تبدو الدولة الإسلامية قضية سخيفة بسيطة لدى الشيعي، لأنها لا تخصه ولا تعنيه في شيء. بينما بالنسبة للسني هناك ورطة متعلقة بالهوية.

الكثير من التعقيد في هذا الموضوع، فنحن لا نعرف ماذا يريد الشيعة من هذه الحرب؟ هل يريدون هزيمة داعش، أم السنة وإلغاء مذهب؟ لقد عبروا عن رغبتهم، في نشوة نصرهم على الفلوجة، بإسقاط الحكم السعودي وأسسوا ميليشيا البقيع وأحرقوا الجوامع والمدينة.

أتفهم عدم رغبة السنة في الدخول في جدل مع الشيعة حول هذا الموضوع بالذات، لأن الأمر لا يعنيهم حقا، رغم أنهم مستهدفون من خطره. الإشكال والتعقيد في هذه المسألة موجود عند السنة، لأنه يمس هويتهم في الصميم، وعليهم إبداع ردود مقنعة للتطرف، تجعلهم في حالة توازن مع أنفسهم. يقولون لا يسمحون لنا بالحوار والكتابة فمعظم مفكريهم يتعرضون للاغتيال.

نحتاج أولا إلى حرية في الكشف عن أفكارنا ومشاعرنا، معظم الناس لا يمتلكون هذه الحرية، لهذا يقول لي الكثيرون أنت تصرح بما في داخلنا. وهذا ليس عبقرية، بل مجرد امتلاك للحرية في التعبير، والحريّة لا تعني الشرطة والدولة والعقاب الاجتماعي، وإنما ينبغي أن تكون هناك تجربة وفلسفة تتحمل الحرية.

لاحظت نفور الناس من الحرية فهي قلق، الناس يحبون الألفة والتعاهد على الأمان، الأمان العقلي خصوصا، الامتنان الشديد لبعضهم البعض حين لا يقول أحدهم ما يدعو إلى القلق. إن الحب والسعادة الإنسانية كل هذه أشياء تحتم علينا الغباء أحيانا. أعتقد جازما أنه لهذا السبب هاجم الفيلسوف الألماني نيتشه النزعة الإنسانية المفرطة لأنها تقاوم التغيير، وكل جديد لا يظهر بطريقة إنسانية، إنه تمزق في النهاية.

لقد أوجعتنا الفلوجة إلى درجة غير معقولة، أكثر حتى من مصيبتنا في الكرادة، لأنه تم منعنا من التعبير عن الحزن. لا ثأر للكرادة في الفلوجة؛ خمسون ألف نازح، ومدينة تاريخية احترقت، وقتلى بالآلاف، وأطفال في العراء تعرضوا للعطش ولدغات العقارب والديدان وأمراض جلدية ومخاطر الأتربة في المخيمات.

شتان بين قتلانا الذين نبكيهم في العلن، وبين قتلانا الذين نبكيهم في الخفاء. كانت السيدة نجلاء عام 1985 قد فقدت مصطفى في الحرب (عمره 21 عاما)، وفقدت عادل (أُعدمَ في حزب الدعوة – طالب جامعة عمره 22 عاما). تقول للجميع بكيت عادل في عزاء مصطفى، ولأبكينه الدهر كله لأنهم منعوني من بكائه في العلن.

بناتنا الحافيات، شيوخنا في المعتقلات، اختبار الذل والقهر، حرق البيوت والمساجد والذكريات. الفلوجة هي عجز العرب عن مساعدة النازحين، خوف الإسلام من التصريح باسمه، الفلوجة كتف الجنود العرب المخلوع من المحيط إلى الخليج، قلبنا الذي قفز من الصدور وسقط على أرض خشنة حتى رأيناه ينبض في التراب، غصة عمر بن الخطاب، ومقاتل العرب، ومصارع العشاق.

لا نريد لهذا العذاب أن يتكرر في الموصل ولا بد من السماح للناس بالتعبير الصادق عن مشاعرهم وأفكارهم. هل نقضي على داعش بذبح الأطفال وحرق البيوت وتهديد السعودية؟ أم هناك طريقة أخرى للقضاء على الإرهاب؟

أسعد البصري

نقلا عن العرب اللندنية