الأزمات الإقليمية‮ .. ‬حلول أم تدوير؟

الأزمات الإقليمية‮ .. ‬حلول أم تدوير؟

610

يمكن بسهولة لمن يتابع تطور الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط،‮ ‬علي مدي العامين الأخيرين، ملاحظة أن معظم‮ -‬إن لم يكن كل‮- ‬أزمات المنطقة تشهد تطورات كثيرة علي الأرض، سواء في المواجهات المسلحة،‮ ‬أو التداعيات الإنسانية للصراع‮. ‬بينما تشهد التطورات السياسية،‮ ‬خصوصا في اتجاه حل أو تسوية الأزمة، ضجيجا بلا طحن‮.‬

وتكفي مراجعة سريعة لقائمة أزمات وصراعات الشرق الأوسط، من سوريا شمالا إلي اليمن جنوبا،‮ ‬ومن ليبيا‮ ‬غربا إلي العراق شرقا، لإدراك أن‮ “‬الحركة في المكان‮” ‬عنوان كل المسارات السياسية لتلك الأزمات،‮ ‬حيث تنعقد مؤتمرات،‮ ‬وتطلق مبادرات سياسية،‮ ‬وتجري جولات من التفاوض، لكنها جميعا تفتقر لأسس النجاح،‮ ‬بل ومقومات الانعقاد أساسا‮.‬

كأن كل المبادرات والصيغ‮ ‬المطروحة تنطلق من فرضية أن التباحث واللقاءات المباشرة‮ ‬يكفيان وحدهما وتلقائيا لإيجاد حلول،‮ ‬وإنهاء الأزمات، فتكون النتيجة هي التفاوض لغرض التفاوض‮. ‬وتعد الأزمة السورية المثال الأكثر تجسيدا لهذا النمط‮. ‬فقد حرصت القوي الكبري في العالم علي تدشين مسار تفاوضي سياسي تجتمع فيه الأطراف الداخلية المعنية بالأزمة، وتحديدا النظام والمعارضة‮. ‬واستنفد هذا الهدف قدرا كبيرا من الجهد السياسي والدبلوماسي،‮ ‬بل والميداني أيضا‮. ‬فقد لعبت الأوضاع الميدانية،‮ ‬وتطور المواجهات المسلحة دورا محوريا في توجيه الأطراف ناحية المسار السياسي،‮ ‬وتحديد مواقفها المبدئية منه‮. ‬فمن حيث المبدأ،‮ ‬لم تكن المعارضة السورية لتقبل مجرد المشاركة في عملية تفاوضية،‮ ‬طرفها الآخر نظام بشار الأسد،‮ ‬لولا تحول ميزان القوة العسكرية علي الأرض لمصلحة النظام بفضل التدخل الروسي المباشر، والامتناع الأمريكي عن موازنة هذا التدخل،‮ ‬سواء بدعم مباشر لفصائل المعارضة بالسلاح،‮ ‬أو بالمعلومات الاستخبارية، أو حتي بالسماح لدول أخري بتقديم السلاح والمساندة العسكرية المطلوبة‮.‬

وفي ظل هذا الوضع‮ ‬غير المتوازن علي الأرض، واستمرار التناقضات الجوهرية بين مواقف الأطراف وحساباتها السياسية، كان من الطبيعي أن تئول كل محطات المسار السياسي إلي إخفاق ذريع، بدءا من المحطة الأولي في جنيف‮-‬1،‮ ‬وحتي الآن،‮ ‬حيث توالت جولات التفاوض علي مدي أكثر من ثلاث سنوات‮. ‬ولا فرق تقريبا بين هذه الجولات التفاوضية وبعضها،‮ ‬إذ تنطلق بلا أجندة واضحة،‮ ‬وبلا توافق بين أطرافها علي الهدف من اللقاء،‮ ‬أو الإطار العام الحاكم للعملية التفاوضية‮.‬

ولا يختلف الوضع كثيرا في اليمن،‮ ‬أو ليبيا،‮ ‬أو العراق،‮ ‬حيث لا‮ ‬يوجد تقدم فعلي في اتجاه إنهاء الحرب في اليمن،‮ ‬أو الخروج من الفراغ‮ ‬الأمني في ليبيا، أو المأزق الأمني السياسي في العراق‮. ‬ورغم اختلاف معطيات وخصائص كل حالة، فإنها تشترك في‮ ‬غياب مؤشرات حل بعيدا عن استخدام القوة،‮ ‬وعدم وجود إجراءات ملموسة لصياغة مخرج سياسي‮.‬

ثمة سبب مفصلي وراء استمرار هذه المعضلة، هو أن مختلف الأطراف تزعم قبول الحل السياسي،‮ ‬والحرص علي إنهاء المواجهات، بينما السلوك الفعلي علي الأرض يكشف بوضوح عن أن كل طرف يستهدف حلا يخدم مصالحه حصريا،‮ ‬ويتجاهل حسابات ومصالح الأطراف الأخري،‮ ‬بل وقوتها أيضا،‮ ‬الأمر الذي يعني بالضرورة أن تلك الحلول أو الأفكار لن تساعد سوي علي تأجيل الأزمة،‮ ‬أو بالأحري تمديدها، فضلا عن عدم قابلية تلك الحلول أو الأفكار المطروحة للتطبيق أصلا‮.‬

ويتضح هذا التناقض الجوهري في المرات القليلة التي تم التوصل فيها بصعوبة إلي حلول أو صيغ‮ ‬سياسية معينة‮. ‬مثال ذلك اتفاق الصخيرات،‮ ‬الذي أبرم بين الفرقاء الليبيين برعاية أممية‮. ‬فبعد أشهر من توقيعه، لا يزال تطبيقه يواجه عثرات،‮ ‬وعراقيل قوية‮. ‬بل إن حكومة التوافق التي تشكلت،‮ ‬استنادا إلي ذلك الاتفاق، سيطرتها أقرب إلي الافتراضية منها إلي الإمساك بزمام الحكم بالفعل في ليبيا‮.‬

والأمر مشابه في اليمن،‮ ‬حيث لا تفرض الحكومة سيادتها إلا بشكل نسبي،‮ ‬وفي مناطق متفرقة‮. ‬بينما الحوثيون مستمرون في استهلاك الوقت والمناورة إزاء الحلول السياسية،‮ ‬والاستغراق في نقاط تفصيلية كثيرة ومتشعبة‮. ‬والنتيجة النهائية أن إنهاء الحرب باتفاق أو تسوية سياسية يظل أملا بعيدا، لا يقربه التوصل إلي اتفاق أو خطة عمل سياسية،‮ ‬حيث التنفيذ الفعلي،‮ ‬وإرادة التفعيل لا‮ ‬يزالان‮ ‬غائبين‮.‬

ورغم أن الصراع العربي‮ – ‬الإسرائيلي‮ -‬تحديدا المسار الفلسطيني منه‮- ‬له خصوصية مختلفة عن بقية قضايا المنطقة،‮ ‬ونزاعاتها المستجدة، فإنه انضم أيضا إلي حزمة الملفات التي تشهد ضجيجا سياسيا بلا أساس واقعي‮. ‬فعلي نحو مفاجئ،‮ ‬وغير مفهوم، بادرت فرنسا إلي تنظيم ما سمته مؤتمرا للسلام في الشرق الأوسط،‮ ‬يضم إسرائيل،‮ ‬والفلسطينيين،‮ ‬والأطراف الأخري المعنية بالقضية،‮ ‬وتأثيرها في الوضع في الشرق الأوسط‮. ‬وانعقد المؤتمر وانفض دون اتضاح هدف انعقاده سوي العنوان العريض التقليدي‮ “‬استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين‮”‬،‮ ‬مما لا يكفي بالمرة لتوافر،‮ ‬ولو بعض أسس ومتطلبات النجاح،‮ ‬أو حتي التمهيد لخطوات أخري لاحقة‮.‬

إذن اجتمع العاملان الإقليمي والدولي ليضعا منطقة الشرق الأوسط في هذه الحالة من الدوران في دائرة مغلقة من التفاوض،‮ ‬ثم التفاوض،‮ ‬ثم التفاوض‮. ‬بينما الوضع الميداني داخل تلك الدائرة هو الأساس،‮ ‬وهو الذي يوجه بوصلة الأزمة،‮ ‬وهو المستوي الذي تقوم فيه الأطراف المعنية بتحركات جادة لتحقيق نتائج،‮ ‬وليس لتمرير الوقت،‮ ‬كما في المستوي السياسي‮. ‬لكن مع تعقد الأمور علي الأرض في بعض الملفات، يتم اللجوء إلي التظاهر بالبحث عن حل سياسي، كغطاء لنقص القدرة،‮ ‬أو لعدم الرغبة في تحمل تكلفة الحسم العسكري،‮ ‬خصوصا في فترة تعد حرجة لبعض الفاعلين الأساسيين في العالم، تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬التي تمر بعام انتخابات رئاسية،‮ ‬مما يجعل الإقدام علي أي خطوة مهمة في السياسة الخارجية أمرا مستبعدا‮. ‬كما أن حسم الخيارات في ملفات الشرق الأوسط، سواء كان سياسيا أو عسكريا، سيعني الدخول في مواجهة مع أطراف إقليمية لحساب أطراف أخري‮. ‬وإن كانت بعض القوي الكبري،‮ ‬مثل روسيا،‮ ‬لديها موقف محدد ومحسوم في هذه المصفوفة الشرق أوسطية المعقدة، فإن واشنطن،‮ ‬وربما أيضا بعض العواصم الأوروبية، ليس لديها هذا الحسم،‮ ‬وتعاني ترددا والتباسا في الحسابات والاتجاهات الحركة‮. ‬لذا،‮ ‬فسواء كان تدوير الأزمات،‮ ‬والعمل علي‮ “‬إدارتها‮”‬،‮ ‬وليس حلها، خيارا متعمدا،‮ ‬أو اضطراريا،‮ ‬فإن النتيجة بالنسبة لشعوب ودول المنطقة واحدة،‮ ‬هي أن تلك الأزمات ليست مرشحة للحل سريعا،‮ ‬وأن آفاق التسوية السياسية لا تزال‮ ‬غير واضحة في الأفق القريب‮.‬

سامح راشد
نقلا عن مجلة السياسة الدولية