“سيفو” في تركيا…السريان هذه المرة

“سيفو” في تركيا…السريان هذه المرة

349
يتساءل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وهو الذي ينتقد في الموضوع الأرمني محاولات بعضهم التلاعب بتركيبات المسألة الأرمنية وعناصرها ومعاييرها الحسّاسة: من أين يملك بعضهم الحق في أن ينصّب نفسه حكماً على تاريخ تركيا، من دون أن يملك الوثائق التي تثبت ما يقول؟ وكانت أنقرة قد أرادت تذكير الغاضبين بأن صفحات التاريخ ليست فقط باللونين الأبيض والأسود، فهناك صفحات رمادية أيضاً لا بد من قبولها والتفاهم حولها. ولكن، ستجد تركيا نفسها، مرة أخرى، وجها لوجه مع ملف مشابه للملف الأرمني، اسمه ملف السريان الذين ينشطون، منذ سنوات تحديداً، باتجاه نبش الركام لإخراج ما يصفونها مقتلة “سيفو” التي ذهب ضحيتها نصف مليون سرياني، كما تقول القيادات السياسية والدينية والفكرية في أوساطهم.
ففيما كانت أنقرة تستعد لإطلاق حملة الرد على البرلمان الألماني الذي قبل، بالإجماع تقريباً، وقوع المجازر ضد الأرمن في شرق الأناضول، كان يتزايد عدد الأصوات السريانية التي تطالب الحكومة التركية بتبني وقوع أحداث مشابهة قبل قرن، وذهب ضحيتها عشرات آلاف من السريان الذين قتلوا وهجروا وتشتّتوا في جغرافيا المنطقة التي فتحت أبوابها أمامهم في العراق وسورية ولبنان، قبل أن ينتقل كثيرون منهم إلى العواصم الغربية.
إذا كان الأرمن قد اتفقوا مع الروس، وتلقوا دعمهم للتحرك باتجاه الانفصال في شرق الأناضول، فإن سريان المنطقة، كما يقولون، لم يكونوا جزءاً من هذا التحرّك، ودفعوا الثمن الباهظ في أحداثٍ لم تكن تعنيهم مباشرة. تطالب القيادات السريانية تركيا بالاعتراف بالإبادة الجماعية ضدّ هذه الأقليات، وبنشر اعتذار رسمي، والقيام بخطواتٍ جديةٍ من أجل تعويض المتضرّرين، لكن طريقة تعامل معظم وسائل الإعلام التركية التي تناقلت خبر نجاة بطريرك أنطاكية للسريان الأرثوذكس، مار اغناطيوس أفرام الثاني كريم، من تفجير استهدف موكبه في أثناء زيارته مدينة القامشلي السورية الحدودية، تكاد تقول إن الأتراك لا يتابعون الا بعض ما تتناقله وسائل إعلامهم. لم تتوقف هذه الأخبار، مثلاً، عند ما أعلنته المصادر السريانية أن زيارة البطريرك السرياني كانت للمشاركة في تدشين إزاحة الستار عن النصب التذكاري لضحايا السريان الذين سقطوا قبل قرن في شرق الأناضول في مدينةٍ، يستعد أكراد سورية لإعلانها عاصمتهم للكيان الكردي في المشروع الفيدرالي لسورية الجديدة.
ترى القيادات السريانية أن خسارة الشرق مسيحييه لا تعوّض، وأنّ التهجير والهجرة هي أولى مصائب شعوبنا، وأن التحرّكات التي تلت السنة اليوبيلية، بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لضحايا الإبادة بحق السريان “سيفو ـ السوقيات” ستتواصل، بهدف إحقاق الحق. وهم يعتبرون أن أكثر من 20 دولة تقف، اليوم، إلى جانب السريان في مطالبهم والاعتراف بالحقيقة كاملة، والضغط على الحكومة التركية، وإجبارها على تحمل نتائجها. أما أنقرة فهي لا تعبأ بقرارات (ومواقف) بعض العواصم التي تبنت وجهة النظر السريانية حيال ما جرى في شرق الأناضول، وقبلته على أنه مجازر، وهي تتمسّك بوصف ما يدور على أنه محاولات بعضهم التلاعب والتأثير في رسم صفحات التاريخ، من دون أية إثباتات، وفي إطار حسابات ومصالح سياسية واقتصادية ودينية ضيقة. لكن ورطة تركيا ستكون، بعد الآن، وكما حدث مع البرلمان الألماني، هي تبني هذه الدول توصيف ما جرى في العام 1915 على أنه ارتكاب للمجازر ليس ضد الأرمن وحدهم، بل ضد غيرهم من الطوائف المسيحية في شرق الأناضول، والسريان طبعاً في مقدمتهم.
أعلنت قيادات حزب العدالة والتنمية أنها تحركّت، في السنوات الأخيرة لإطلاق جملة من

الخطوات القانونية والدينية والثقافية تجاه الأقلية السريانية، عبر إعادة قسمٍ من الأراضي إلى ملكية الديرين الرئيسيين في ماردين دير الزعفران ودير العمور. كما أن رئيس الحكومة السابق، أحمد داود أوغلو، فاجأهم العام المنصرم بقرار الحكومة في الموافقة على تشييد كنيسة للسريان في القسم الأوروبي من مدينة اسطنبول، بكلفة مليون ونصف مليون دولار لتأمين احتياجات حوالي 17 ألف سرياني يعيشون في المدينة، وهو القرار الأول من نوعه منذ إعلان الجمهورية التركية العلمانية، وأن أسراً سريانية مهاجرة عادت إلى ممتلكاتها وأرضها وقراها في جنوب شرق تركيا. لكن الأرقام التي يقدمها السريان تقول إن 80% من أصل 4 ملايين سرياني ينتشرون في العالم اليوم جاءوا من تركيا بين 1915 و1934، وإن عددهم في الوطن الأم تراجع إلى 20 ألفاً حيث يقطن غالبيتهم في اسطنبول، وإن اتفاقية لوزان الموقعة بين تركيا والدول الحليفة بعد الحرب العالمية الأولى تركت سريان المنطقة خارج تصنيف الأقليات المعترف بها في الدستور التركي، ما زاد في معاناتهم، وحرمهم امتيازاتٍ عديدة منحت للروم واليهود في تركيا في مسائل التعليم ودور العبادة والحقوق الثقافية والاجتماعية، وإن سريان تركيا يفتقدون المدارس والمؤسسات التعليمية واللغوية التي توفر لأبناء الجماعة فرص حماية أجيالها ثقافياً ولغوياً ودينياً.
محاولات حكومة “العدالة والتنمية” باتجاه تطبيق سياسة مد اليد، وانهاء خلافات تركيا التاريخية مع شعوب المنطقة، وأقلياتها من أكراد وأرمن وسريان وعلويين وقبارصة، لم تسفر عن الكثير، وهي تتمسّك في اعتبار ما يجري ملفاتٍ ساخنةً تحرك ضد أنقرة من لاعبين إقليميين ودوليين، في إطار تصفية الحسابات، كلما طاب لهم ذلك… لكن “سيفو” يتحرّك باتجاهٍ لا يمكن تجاهل ارتداداته التي لا تقل خطورةً عن الملف الأرمني.

سمير مصالحة
صحيفة العربي الجديد