بريطانيا وفك الارتباط مع الاتحاد الأوروبي

بريطانيا وفك الارتباط مع الاتحاد الأوروبي

بريطانيا-1
لم تكن هذه المملكة غير المتحدة مع نفسها جادة في الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي، فقد ظلت تتململ وكأنها مشدودة إلى سلاسل غير منظورة رغم اقتناع معظم قادتها وملايين غفيرة من الشعب البريطاني والأجيال الجديدة خاصة بأهمية الانتماء إلى تكتل إقليمي واسع يعطي للدولة المنغلقة على أفكارها التقليدية، فرصة لمواجهة احتمالات المستقبل، وتكسير النظرة المتعالية المتخلفة عن الفترة الاستعمارية وما تركته من شعور بالاستعلاء تجاه الآخرين بمن فيهم جيران الجغرافيا.
وربما يتذكر القارئ المتابع لدخول بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بعد تردد وتلكؤ شديدين أن بعض الكتّاب الأوروبيين ومن داخل بريطانيا نفسها كانوا يدركون أن بلداً عاش على تشجيع الانقسامات في الشعوب التي خضعت لاحتلاله ، ويسوّغ تقطيع أجزاء تلك الشعوب ابتداء من الهند العظمى وليس انتهاء بفلسطين وقبرص، إن بلداً كهذا تلك عقيدته وذلك نهجه ، لا يمكن أن يكون وحدوياً أو يقبل البقاء في ظل نظام وحدوي أو اتحادي، والأدلة كثيرة على انفصاليته ، منها أنه لم يرغب في إيجاد أي نوع من الاتحاد مع جيرانه الأقربين الذين يشكلون امتداداً لغوياً وثقافياً مثل إيرلندا الشمالية وحتى مع اسكتلندا التي لا تزال لندن تعتبرها تابعاً بالقوة. مرة أخرى، أقول إن من يتهرب من تسوية أوضاعه مع كيانه الجغرافي واللغوي والثقافي لا يمكن أن يكون سعيداً بالانتماء إلى كيانات أبعد ورؤى تخلصت من عقد الهيمنة الاستعمارية وتداعياتها.

لهذا كله لم يكن مفاجئاً أن تسارع هذه الدولة الاستعمارية العجوز الرافضة للتجدد والتطور إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وكل المحللين والمراقبين السياسيين يدركون أنه بعد وقت قصير من دخولها في هذا الاتحاد ، تأكد لها أنها لن تتمكن من الهيمنة وفرض أجندتها المتخلفة عن الحقبة الاستعمارية، وأن وجود دول كبرى ذات تقاليد ديمقراطية راسخة داخل الاتحاد يحول دون التفرد، وهكذا منذ البداية بدأ بعض ساستها المتحجّرين في التهيئة لفك الارتباط وتخريب المشاريع المشتركة وتخويف الجمهور التقليدي من المخاطر الضارة سياسياً واقتصادياً إلى أن جاءت مناسبة الاستفتاء المباغت ووضع الشعب البريطاني المنقسم في ولاءاته وتصوره أمام الأمر الواقع، وتحت شعار الاستقلال أو الخروج من التبعية اللذين لعبا دوراً حاسماً في كسب أكثر الأصوات التي ظلت رغم كل ذلك نسبية ولا تعبر عن إجماع مريح أو مقنع.

ومن يتابع ردود الأفعال في الطرف الآخر المتمسك بالاتحاد وأهميته الأوروبية والدولية ، يدرك أن القلق المؤقت الذي رافق إعلان فك الارتباط قد تلاشى وظهرت بعض الكتابات الواقعية المتوازنة تشير إلى أن انسحاب بريطانيا لن يترك أي أثر سلبي، وربما زاد الاتحاد قوة ورسوخاً ودفع بقادته إلى مزيد من الإنجازات وتلافي بعض الأخطاء الإجرائية التي تحول دون تحقيق بعض تلك المنجزات.

وبالمقابل فإن لقاءات كثيرة تجل عن الحصر ، ترى أن الخاسر الوحيد هو الدولة المنسحبة التي ستجد نفسها أمام ركام من المشكلات يصعب حلها على المدى المنظور وغير المنظور، وسيجد ساستها الجدد أو المخضرمون أن اتخاذ القرارات المنفردة بعيداً عن دولة الاتحاد يشكل مغامرة غير محسوبة العواقب سياسياً واقتصادياً، ولفترة غير قصيرة ستبقى المملكة (المتحدة) في مهب الريح.

د.عبدالعزيز المفالح

 صحيفة الخليج