الأزمات ومنطق القوة في عالم اليوم

الأزمات ومنطق القوة في عالم اليوم

pip_945011_large

رغم الدينامية التي طبعت أداء الأمم المتحدة ومجلس الأمن على مستوى تدبير الصراعات والأزمات الدولية، بعد عقود من الجمود بفعل تداعيات الحرب الباردة، فإن اللجوء إلى القوة بكل أشكالها ما زال قائماً، في عالم يتأرجح بين قوة القانون وما يحيل إليه ذلك من احترام للمواثيق والمعاهدات الدولية وتنسيق وتعاون وتدبير سلمي للمنازعات من جهة، و«قانون القوة» وما يتصل به من فوضى واستهتار بالقوانين والتشريعات الدولية.
يعد ظهور الأزمات والصراعات في الساحة الدولية أمراً طبيعياً بالنظر إلى تضارب المصالح بين الدول، وتنامي المخاطر غير «الدولاتية».. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى أي حد تمكن المجتمع الدولي من الموازنة بين تدبير الصراعات والأزمات الدولية وإقرار السلم من جهة وعقلنة استخدام القوة في الحدود المسموح بها قانونياً..
عادة ما تهدف إدارة الأزمات إلى السيطرة على الأحداث وعدم السماح لها بالخروج عن نطاق التحكم، وعلى الصعيد الدولي تهدف هذه التقنية إلى الحد من تفاقم الصراعات والمشاكل السياسية والاقتصادية والعسكرية..
يظل نجاح إدارة الأزمة متوقفاً على توافر مجموعة من العناصر، فعلاوة على ضرورة وجود أرضية متينة من المعلومات معززة بتقنيات متطورة للاتصال، يتطلب الأمر أيضاً مقومات شخصية مرتبطة كفاءة مديرها والطاقم المساعد له في هذا الشأن، إضافة إلى أخرى موضوعية في جوانبها التقنية والاقتصادية والعسكرية..
كان اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية قبل تأسيس هيئة الأمم المتحدة في سنة 1945 وسيلة عادية لتنفيذ سياسات الدول القومية وللحسم فيما يثور بينها من خلافات، رغم الجهود الدولية- المتواضعة – التي تمت في إطار اتفاقية (دراكو بورتر) لسنة 1907 التي أكدت تحريم استعمال القوة لاسترداد الديون المستحقة، وكذا عهد عصبة الأمم الذي ميز بين الحروب المشروعة والحروب غير المشروعة، ثم ميثاق (بريان كيلوج) لسنة 1928 الذي حاول – دون جدوى- التضييق بشكل كبير على استعمال القوة في العلاقات الدولية.

لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية كشف قصور وهشاشة هذه الجهود والمحاولات، ولعل هذا ما حدا بهيئة الأمم المتحدة لأن تجعل من أهم أولوياتها الملحة مكافحة وتحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية.
تنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية للميثاق الأممي على أنه: «يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة».
فبموجب هذه المادة يتبين أن الميثاق لم يكتف بتحريم اللجوء إلى القوة فقط، وإنما حرم حتى مجرد التهديد باستعمالها، كما أنه لم يهتم في ذلك بالأسباب المادية لهذا اللجوء للقوة، أو بوجود سبب عادل يبرر هذا الاستخدام.

ذلك أن تحريم اللجوء للقوة أو التهديد باستخدامها هو منع مطلق ولا يمكن أن يبرر بأي ذريعة من الذرائع، باستثناء حالتين أشار لهما الميثاق الأممي صراحة، أولاهما هي حالة الدفاع الشرعي الفردي أو الجماعي (المادة 51 من الميثاق) وثانيهما هي حالة تدخل الأمم المتحدة لمواجهة تهديد السلم والأمن الدوليين أو الإخلال بهما أو لرد أعمال العدوان (المادتين 41 و42 من الميثاق).
وتأكيد مبدأ عدم اللجوء إلى القوة أو التهديد باستعمالها في العلاقات الدولية يجد سنده في العديد من قرارات الجمعية العامة ومواثيق المنظمات الإقليمية وكذا المعاهدات الجماعية، هذا بالإضافة إلى الفقه والقضاء الدوليين.
والواقع أن استثمار القوة في إدارة الأزمات ينبغي أن يتم بنوع من الدقة وعدم المغالاة وعدم المجازفة أو الارتجال، بل يتطلب الأمر ترك باب التواصل السلمي مع الخصم قائماً، لأن اتخاذ قرارات متسرعة من جهة ما أو من قبل أحد أطراف الأزمة، يمكن أن يسهم في تدهور الأمور وخروجها عن نطاق التحكم والسيطرة.
ومعلوم أن عنصر الردع الذي يعرف بامتلاك عناصر القوة دون استخدامها فعلياً، أسهم بشكل كبير وفعال في إدارة العديد من الأزمات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، بل كان له الأثر الكبير في سيادة حالة السلم ومنع قيام حرب نووية لن يظل معها منتصر أو منهزم.

ويتحقق الردع بتوافر ثلاثة شروط أساسية، فمن جهة أولى، يتطلب الأمر امتلاك مقومات وآليات الردع، ومن جهة ثانية، يجب أن يستوعب الطرف أو الأطراف الأخرى بصورة لا تدع مجالاً للشك حجم وحقيقة هذه الإمكانيات والمقومات، أما من ناحية ثالثة، فيجب أن يصدق الخصم جدية الرسالة أو الرسائل الموجهة إليه بصدد الأزمة وخيارات تدبيرها.

إذا كان توظيف القوة بشكلها غير المباشر، قد أسهم بصورة كبيرة في إدارة العديد من الأزمات الدولية التي عرفتها الساحة الدولية في ظل الحرب الباردة في إطار ترتيبات انخرط فيها كل من الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة، عبر ما سمي بفرض السلام بواسطة الرعب (الردع)، فقد بدا واضحاً أن استخدام القوة حاليا في إدارة الأزمات الإقليمية والدولية أضحى أكثر سهولة ويسراً بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي.

د. إدريس لكريني
مركز الخليج للدراسات