العساكر إلى البيوت

العساكر إلى البيوت

afp-5a024b347d75c378979a27a8431db5af8befe636

في لحظةٍ تاريخيةٍ فارقة، تفجرت أفواه الأتراك الذين خرجوا الى الشوارع، استجابةً لنداء أردوغان بصيحةٍ واحدةٍ، عكست حجم الغضب الذي حملته النفوس ضد الانقلابيين: “العساكر إلى البيوت”، لم توفّر هذه الصيحة معنىً لحيثيات “المانيفستو” الذي أطلقه الانقلابيون ليلة الجمعة الدامية عن أن “الجمهورية التي ورثها الجيش عن أتاتورك أصبحت مهدّدة، وأن الجيش الذي حمى قيم العلمانية والديموقراطية مائة عام يتحرّك اليوم لحمايتها”. أدرك المحتشدون أنهم أمام تقرير مستقبلهم، وأن ما سمعوه في “المانيفستو” ليس سوى خدعةٍ يبرّر بها العساكر هجمتهم على الديموقراطية، وعلى قيم الجمهورية نفسها. عرفوا أن “الدولة العميقة” تحاول الردّ على سعي أردوغان إلى وضع المؤسسة العسكرية في حجمها الطبيعي، وتقليم أظفارها التي اعتادت أن تنشبها في مواجهة سلطات الدولة ومؤسساتها الدستورية، كلما شعرت بالخطر من اضمحلال نفوذها، وبالتالي، خسارتها امتيازاتها التي تراكمت عبر عقود.
صيحة الجموع “العساكر إلى البيوت” كانت إنذاراً بأن الوطن في خطر، وأن الجميع، علمانيين ودينيين ويساريين وغيرهم، مدعوون إلى دحر العساكر، وإعادتهم إلى أوكارهم، ووأد الفتنة قبل أن تستفحل، وتعبيراً عن وعي متقدم بأولوية الانتماء للوطن على ما عداه من انتماءات، وبخطورة توغل العسكر في الحياة السياسية للبلاد، فيما لو قدّر لهم أن يظفروا في مسعاهم الشرير. صيحة “العساكر إلى البيوت” كبرت، لتشمل شوارع ومدناً، وتعبر جسوراً وقناطر، واتسعت سماء الوطن التركي، لتشكل صدىً لصيحة الجموع الهادرة، وليفرّ العساكر المتمردّون مذعورين إلى أوكارهم، وفشل الانقلاب، وتجذّرت وحدة الوطن، على نحو لم يصدّقه الخصوم، وضمنت حرية المواطن الذي علمته التجارب المرّة أن سماء العساكر لا تمطر لا سمناً ولا عسلاً، وإنما تثقل البلاد بشرورها وآثامها، وتنهك العباد قتلاً ودماراً وفساداً!
لكن الالتفاف الشعبي حول أردوغان، في تلك اللحظة التاريخية الفارقة، لا يمكن حسابه تكريساً لشخصه في أي حال، إنما لكونه رمزاً للبلاد ولنظامها الديموقراطي، وهو أيضاً لا يمكن أن يحجب عن العيون الأخطاء والخطايا التي ارتكبها أردوغان، في أكثر من ميدان: تطبيعه
“لنا أن ندعو إلى استيعاب العبر مما حدث، وأن تتوفر الحكمة والبصيرة، لكي تصب تداعيات الانقلاب في منحىً إيجابي”
علاقات بلاده مع تل أبيب، ووعده بالسماح بتمرير أنبوب الغاز عبر أراضي تركيا دعماً للاقتصاد الإسرائيلي، ونسيانه مطلبه رفع الحصار الخانق على غزة، وتوافقه على التعاون في مجال الاستخبارات والأمن، وانتهاجه سياساتٍ ملتبسة في علاقاته بجيرانه، العرب خصوصاً، وتعاطفه مع تيارات إسلامية متطرفة، وصمته عن مواجهتها إلى لحظة اقتراب النار من بلاده على النحو الذي نعرف، جنوحه إلى التفرّد بالسلطة، والانفراد بالقرار، من دون استشارة معاونيه وقيادات حزبه، وتجاهله مراراً المؤسسات الدستورية، وقمعه الأحزاب والحركات المعارضة له، وسعيه إلى تقزيم وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي، وإلغاء دورها في النقد والتشخيص وإبداء الرأي المختلف، وتراجعه عن وعده بإيجاد حل سلمي للمسألة الكردية، يحفظ وحدة بلاده، ويعمق الرابطة التاريخية بين مكوّناتها، ويضمن حقوقها القومية، وقد جاءت سياساته هذه بنتائج سلبيةٍ، على صعيد الاقتصاد التركي الذي كان سجّل طفرةً كبرى في بدايات عهده، كما انعكست على دور تركيا قوة إقليمية نافذة، وأضعفت من تأثيرها.
لم يغفر أحد لأردوغان سيرته هذه. لكن، حسب له أنه رئيس منتخبٌ ديمقراطياً، رفعته صناديق الاقتراع إلى الموقع الأول، ومنحه الأتراك ثقتهم في أن يتولى شؤونهم على وفق الدستور، وضمن إطار العلاقة بينه وبين المؤسسات القائمة، وحسب لحزبه “العدالة والتنمية” كونه الخيار الوطني الذي اختاره الشعب التركي طريقاً له في مرحلةٍ صعبةٍ من تاريخ البلاد، وليس لنا، نحن الجيران والأصدقاء المتعاطفين مع تجربة تركيا الديموقراطية سوى أن نتمنّى أن تتعافى من أدوائها، وأن تبقى قوةً إقليميةً نافذةً، وسندا لنا نحن العرب، وبيننا وبينها أكثر من رابط وصلة.
أما وقد نجت من سطوة العساكر، ومن توغلهم المتوقع في شؤون الدولة، وخصوصيات الناس، أما وقد فشل الانقلاب الذي دبّر بليل، وانقلب السحر على الساحر، وعلى الحواة الذين أحاطوا به، فلنا أن ندعو إلى استيعاب العبر مما حدث، وأن تتوفر الحكمة والبصيرة، لكي تصب تداعيات الانقلاب في منحىً إيجابي، يرسخ القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، وليكن الانقلاب الموؤود درساً لأردوغان أولاً، ولحزب العدالة والتنمية ثانياً، ولأصدقاء تركيا وجيرانها، وكذا لأعدائها وخصومها ثالثاً ورابعاً.

عبد اللطيف السعدون
العربي الجديد