دروس انقلاب تركيا

دروس انقلاب تركيا

160716084100_turkey_640x360_gettyimages_nocredit
على الرغم من إعلان فشل الانقلاب العسكري في تركيا، وتنفس الجميع الصعداء، إلا أن مخاطره ما زالت قائمة، أما خلفياته فما زالت غير معروفة، وستكون الأيام المقبلة حُبلى بالمفاجآت التي ستكشف أبعاد هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، ومن يقف خلفها، ومن دعمها، ومن كان سيصير المستفيد من نجاحها، وكيف سيستثمر المستفيد من فشلها ثمارها. فالاعتقالات الواسعة التي طاولت، حتى الآن، كثيرين في الجيش والقضاة والشرطة، تكشف عن شيئين مهمين: الأول حجم الخطر الذي كان محدقا بالبلاد التي كان يُعتقد أنها قطعت مع المغامرات الانقلابية، ودخلت إلى نادي الديموقراطيات المستقرة. والثاني، فشل السلطات التركية في التنبؤ به قبل وقوعه، على الرغم من وجود شبه تورط هذا العدد الهائل من الأشخاص، وعلى أعلى مستويات هرم الدولة، وفي أكثر من جهاز وقطاع حسّاس داخل الدولة.
بدأت من الآن أصوات، بينها أصوات مسؤولين غربيين ومنظمات حقوقية دولية، ينبهون إلى عدم الانزلاق نحو ردة فعل “انتقامية” واسعة، قد تفرضها عمليات “التطهير” التي باتت السلطات التركية تعتبرها ضروريةً للتخلص من كل خلايا “الانقلابيين” داخل أجهزة الدولة، ناهيك عن الأصوات “المشكّكة” في وجود “مؤامرةٍ” تم تدبيرها بليل، للقيام بعملة “التطهير” الحالية التي تقودها السلطات التركية في صفوف الجيش والقضاء والشرطة، وربما قد تطاول غدا قطاعات أخرى.
وفي انتظار أن تنجلي الصورة كاملةً بكل أبعادها وخلفياتها، يعلمنا “الانقلاب التركي” عدة دروسٍ، يمكن استنتاجها مما حدث في أطول ليلة رعب عاشها الأتراك.
الأول، أن الاستقرار ليس معطىً مسلماً به، ولا وجود لضمانات لتأمينه. ففي السياسة، كما يقال، لا وجود لشركات تأمين، قادرة على ضمان الاستقرار والحدّ من حجم المخاطر أو وضع حدّ للتهديدات. كشفت هذه المحاولة الانقلابية أن الديموقراطية تبقى عاجزةً عن حصانة البلد من الانزلاق عن سكّتها، والتنمية الاقتصادية، كيفما كان مستواها، ليست صمام أمانٍ ضد كل محاولات تهديد استقرار الدول.
الثاني، أن الاستثمار في الشعوب أحسن وأجدى وأنفع للدول، ولأنظمتها الديموقراطية، فوعي الشعب التركي هو الذي أسقط الانقلاب وأفشله. وليس هذا الوعي وصفةً جاهزة، وإنما هو سيرورة تاريخية، تتعلم من خلالها الشعوب، بتجاربها، الوعي بذاتها، وبالقيم المشتركة التي تجمعها وتحميها، ويستفيد الجميع على حد سواء من ثمارها.
الثالث، الوعي من جديد بالثورة الكبيرة والصامتة التي باتت تحدثها يومياً وسائل التواصل الحديثة، وخصوصاً المواقع الاجتماعية الكبيرة في سلوك الناس، وقدرتها الكبيرة على الـتأثير السريع في تشكيل وعيهم الجماعي، في لحظات فارقة وحاسمة، وقدرة هذه الوسائل على مواجهة كل أنواع الأسلحة الفتاكة، وعلى إلحاق الهزائم النكراء بأقوى الأنظمة، وأعتى الجيوش. ومن بين مفارقات هذه المحاولة الانقلابية أن وسائل التواصل الحديثة والمواقع الاجتماعية التي كانت تعتبر من أكثر المتضرّرين من السياسات القمعية للسلطات التركية، في السنوات الأخيرة، هي التي أنقذتها من محاولة انقلاب محقّق!
الدرس الرابع يتجلى في وضع نهايةٍ لكل محاولات الانقلابات العسكرية التقليدية مستقبلاً، فصور المواطنين العزّل، وهم يتحدّون الدبابات ويتصدّون لها بصدور عارية في شوارع إسطنبول، ستجعل كل “عسكري” يفكّر أكثر من مرة، قبل أن يفكّر في مغامرة مماثلة.
الدرس الخامس، ولعله الأهم، عودة الثقة إلى الشعوب المغلوبة على أمرها، فقد أظهر الشعب التركي أن إرادته قادرةٌ على هزم واحدٍ من أقوى الجيوش في العالم، وعلى تحدّي الدبابات وقصف الطائرات. يأتي هذا في وقتٍ تسود فيه موجة تشكيك عارمة، في ظل انتصار الثورات المضادة في المنطقة العربية، في قدرة الشعوب على إمساك إرادتها بأيديها.
مقابل كل هذه الدروس التي علمنا إياها الشعب التركي، تنتصب عدة مخاوف، يمكن أن تحولها

إلى كوابيس، يستغلها أعداء إرادة الشعوب، للطعن في وعيها، والتشكيك في بلوغها مرحلة الرشد، والسعي إلى فرض وصايتهم عليها. أصبح بعض هذه المخاوف أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه، أو السكوت عنه، وهو المتمثل في ردة الفعل العنيفة التي أظهرها بعض المواطنين الأتراك تجاه بعض المجندّين المشاركين في المحاولة الانقلابية، ولا نعرف إن كان ذلك برغبةٍ أو علمٍ منهم، فالصور المهينة التي تتداولها وسائل التواصل الاجتماعية لمواطنين يعنّفون بطريقة مهينة، وأحياناً وحشية، أفراداً من الجيش بزيهم النظامي، فيها كثير من الخدش والمسّ بكرامة واحدةٍ من أهم المؤسسات التي تبنى عليها الأوطان. والسكوت أو التغاضي عن أصحاب هذه الأفعال التي لا تشّرف الشعب التركي لن تزيد سوى من جو الاحتقان والرغبة في الانتقام لدى منتسبي تلك المؤسسة من مواطنيهم. للتذكير فقط، سبق للسلطات التركية، في شهر إبريل/ نيسان الماضي، أن قرّرت حجب مواقع عديدة للتواصل الاجتماعي ، لمنع رواد الشبكة من تداول صور المدّعي العام الذي قتل في إسطنبول في تلك الفترة، بحجة أن الصور كانت تتضمن إهانةً للقتيل ولمؤسسة القضاء التي كان ينتمي إليها.
أما أكبر المخاوف على مستقبل تركيا فيتمثل في أمرين: الأول، بروز المؤسسة الأمنية لاعباً قوياً على الساحة السياسية والأمنية للبلاد، بعد أن نجحت في التصدّي لانقلاب العسكر، وتتولى اليوم الاعتقالات والتحقيق مع المتورطين فيه. وبدأ من الآن الحديث عن “دولة الشرطة” التي نجح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في تطهيرها وإعادة بنائها خلال سنوات حكمه الطويلة، وهو ما يهدّد ببروز “دولة المخابرات” داخل تركيا، بكل ما يحمله هذا التعبير من إحالاتٍ على أنظمةٍ استبداديةٍ شرقية، الكل يعرف مآلاتها المأساوية.
التخوف الثاني، وهو أكثر جديةً، فيتمثل في ردة فعل القيادة التركية الرسمية على المحاولة الانقلابية، وطريقة تعاطيها مستقبلا مع ما حدث. فقد شنت السلطات التركية، حتى كتابة هذه السطور، حملة اعتقالات واسعة في صفوف الجيش والقضاء والشرطة، وتم استعمال تعابير حمّالة لكل الأوجه لوصف طريقة التعامل مع تداعيات هذا الانقلاب الفاشل، من قبيل “عمليات تطهير” ووصف الانقلاب بأنه “هدية من السماء” لـ “تنقية” صفوف المؤسسة العسكرية من “الخونة” و”الانقلابيين”.. إن سياسة “الانتقام” التي بدأت قوى وهيئات دولية تحذّر منها لن تخدم سوى الانقلابيين، وستكون حتماً ضد إعادة بناء “النموذج التركي” الذي ضُرب في العمق.
كتبت قبل سنتين أن التجربة “الأردوغانية” في طريقها إلى استنفاد كل قواها، بسبب أخطاء أردوغان نفسه، وأمامها اليوم فرصةٌ تاريخية للمراجعة وممارسة النقد الذاتي، لإعادة الاعتبار للتجربة التركية الديموقراطية على حساب التجربة “الأردوغانية” التي يجب أن تكون عند مستوى اللحظة التاريخية الحالية، ويتحلى صاحبها بالشجاعة، لتقديم الحساب من موقع المنتصر، حفاظاً على الإنجازات التنموية والديموقراطية التركية التي هي ملك للشعب الذي خرج ليلاً، أعزل، لحمايتها.