الأتراك والعرب ما بين القيادة وتشكيل الوعي

الأتراك والعرب ما بين القيادة وتشكيل الوعي

erdogan_AP110913122054

عندما نزل الشعب التركي بمختلف الأعمار إلى الشوارع يوم 15 يوليو؛ لمواجهة دبابات الجيش والوقوف إلى جانب حكومتهم المنتخبة ديمقراطيًا، والجنود الأتراك عدا في حالات قليلة، رفضوا إطلاق النار عليهم واستسلموا في نهاية المطاف لهم ولأفراد من الشرطة، لأن لمفهومي “تركيا” و”الهوية التركية” مغزى حقيقي بالنسبة لشعب هذا البلد، ولأن التقدير لقيمة الديمقراطية يبدو أنه أصبح جزءًا أساسيًا من الوعي الشعبي.

وعلى الجانب الآخر في سوريا، عندما تمت الدعوة للقيام بذلك، كان الجيش على استعداد للتورط في أعمال عشوائية من إطلاق النار والقتل الجماعي من أجل إنقاذ زعيمهم، وفي البداية، وعلى مدار عدة أشهر بعد ذلك، أصبح هناك تحدي سلمي وشرعي بأغلبية ساحقة ضد الحكم الدكتاتوري الفاسد. وإن الطبيعة السلمية لمعظم التظاهرات لا تعني الكثير بالنسبة للجنود الذين أرسلوا لقمع الاحتجاجات.

وكان التزامهم بدعم النظام القائم قويًا جدًا، واصطف العديد منهم وكانوا على استعداد لفتح النار، ليس فقط على المتظاهرين العزل، ولكن أيضا على زملائهم من الجنود الذي رفضوا إطاعة الأوامر، والقرار بإطلاق النار أو التعرض للقتل على يد رفيقك بالسلاح، يعكس مدى الانقسام الطائفي في الجيش والدولة والمنطقة، كما يعكس أيضا انعدام الإيمان بمفهومي “سوريا” و”الهوية السورية”.

تجدر الإشارة إلى أن تركيا فيها انقسامات عرقية خاصة بها، ولكن في هذه المناسبة، تبدو وكأنها غير منطقية، حيث ترى أن حتى الأحزاب الكردية المعارضة وقادة الجماعات الدينية المختلفة كانوا على استعداد لإدانة محاولة الانقلاب، وليس فقط فيما بعد ولكن عندما اكتُشِفَت.

وفي سوريا، ومنذ بداية حملة القمع ضد المحتجين المؤيدين للديمقراطية في عام 2011، رفع الموالين للنظام من الجنود العلويين شعارات مؤيدة للزعيم الاستبدادي في البلاد، بشار الأسد، وكانوا على استعداد بفخر لحرق الوطن من أجله. وأعلنوا “إما بقاء الأسد أو سنحرق البلاد”. إن إيمانهم بالقائد وضورة بقائهم من أجل حياتهم المادية وإحساسهم بالهوية الطائفية الضيقة تفوق بكثير إيمانهم بالوطن وشعبه. وكان مسلمين بواجب الدفاع عن النظام وليس الوطن، على عكس ما توحي به شعارات ما قبل الثورة.

هذا الانفصام بين الثقافة الرسمية وغير الرسمية تسبب في خلط للخبراء الذين يسعون لفهم وتحليل الثقافة السياسية السائدة ليس فقط في سوريا بل في جميع أنحاء العالم ذو الأغلبية العربية، وإن الثقافة العربية غير الرسمية وشبكاتها الوهمية تكون أكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بخيارات الشعوب والسلوك على المستويين الفردي والجماعي، وذلك أكثر من الروايات الرسمية، بما في ذلك ما نقل من خلال وسائل الإعلام الرسمية أو ما تم تسجيلها في الكتب المدرسية الرسمية.

وفي تركيا، على النقيض من ذلك، هناك طابع مثير للجدل بين القوميين والمزيد من السياسيين ذوي التفكير الإسلامي، لكن تركيا توجد في الثقافة غير الرسمية بأذهان الناس كما هو الحال في الثقافة الرسمية للدولة.

والواقع أن هناك فارقًا واحدًا كبيرًا بين تركيا والدول العربية، ويكمن هذا الفارق في الثقافة النسبية التي يمتلكها الشعب، وفي حين أن الشعب التركي في هذه المرحلة يبدو وكأنه يتحرك بدافع الشعور القوي بالهوية والإيمان بأنفسهم ووطنهم، مع الالتزام بالقيم الديمقراطية، والتي أصبحت الآن جزءًا مهمًا من هذا الوطن.

أما العرب، وحتى عندما يظهرون شعورًا قويًا بالهوية، فهم يفتقرون إلى الثقة في بلدانهم ومؤسسات الدولة لديهم، وبالتالي، هم أكثر استعدادًا لاتخاذ القادة السياسيين والمسؤولين في السلطة وأولئك الساعين للسلطة كمنقذين لهم، وفي الواقع، وعلى مدار القرن الماضي، أنتجت الثقافة العربية العديد من المنقذين، لكن لا أحد منهم تمكن من إنقاذ أي شيء.

كان مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، ديكتاتورًا، وعلى المؤرخين، بما في ذلك المؤرخين التركيين في العلم الحديث من جميع النواحي الإيديولوجية، أن يوافقوا على ذلك، وكان أحد المؤمنين المتحمسين تجاه تركيا والهوية التركية، ورأى في التطوير والتحديث المستقبلي لتركيا قضية أكبر منه، وبعبارة أخرى، كانت له ميول استبدادية ليست لمصالح ذاتية، ولم ينووا تحويل البلاد إلى إقطاعية خاصة به كمكافأة له على قدرته على القيادة.

وفي الواقع، كانت الديمقراطية وليس فقط الحداثة والعلمنة، جزءًا لا يتجزأ من الفكر الكمالي، وكان هذا هو السبب في أن تطور تركيا لم يتوقف مع مرور أتاتورك، واستمر لعدة عقود وحتى الوقت الحالي.

ولعب الجيش دورًا خاصًا في تطورات القيادة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بحماية الطبيعة العلمانية للدولة، لكن التطورات التي جرت خلال اليومين الماضيين أظهرت أنه لم يعد هناك حاجة لهذا الدور أو لم يعد مطلوبًا، وأن الشعب التركي نضج بما يكفي كي يطمح في السماح للعمليات الديمقراطية بترتيب الأمور محليًا.

ووصل الشعب التركية إلى هذه المرحلة، ويبدو أنه صنع لنفسه الحق في الاختيار، ولعب حزب العدالة والتنمية دورًا في هذه المسألة على مدى العقدين الماضيين من خلال التركيز على التطورات الاجتماعية والاقتصادية، بدلًا من سياسات الهوية، وتعلموا أيضا من التجارب السابقة للأحزاب ذات الميول الإسلامية.

ويرى البعض، أن الرئيس أردوغان نسي بعض تلك الدروس، وربما قد يثبت أنه سيتعلم الدروس الصحيحة من محاولة الانقلاب الفاشلة، ولكن الشرعية التي اكتسبتها الأحزاب المعارضة لنفسها أتت من معارضة الانقلاب منذ البداية وهي التي ستمكنهم من مواصلة كفاحهم من أجل كبح طموحات أردوغان.

ومن ناحية أخرى، في العالم العربي، كان الزعماء دائمًا ما يعتقدون أنهم المنقذ حيث تمت معاملتهم على هذا الأساس، وفي كثير من الأحيان أصبحت تلك الشخصيات ملاحم وطنية لبلادهم، ولكن دون أن يقدموا لشعبهم أي شيء أكثر مما مضى.

وحتى الملك فيصل، قائد الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين في عام 1916، كان لا يختلف كثيرا. وكانت ركائز مشروعه السياسي لإنقاذ العرب من براثن العنصرية العثمانية تكونت من لا شيء أكثر من تأكيده على ان العثمانيين كانوا سيئين، وأن العرب بحاجة إلى أن يحكموا أنفسهم، وانه كعربي بخلفية هاشمية، وسليل مزعوم للنبي، فيجب ان يكون ملكا.

وكان صدام حسين وحافظ الأسد وحسني مبارك ومعمر القذافي لا يختلفون، وهذا هو السبب في أنهم جميعا تطلعوا إلى توريث أبنائهم كما فعل خلفاؤهم في نهاية المطاف، وإنهم يعتبرون أنفسهم الحقيقة والضوء الذي على الطرق، ولكن بدلًا من العمل لإثبات ذلك، وتركوا الأمر لشعوبهم، والمشكلة هي أن العديد منهم تبدو مستويات تعليمهم تسمح بقبول ما يحدث وفقًا لغريزتهم حتى ولو بدت عقولهم متمردة ضد ذلك.

وحتى العديد من السوريين الذين اختاروا الأنتفاض ضد الأسد فشلوا في نهاية المطاف في إنتاج عقلية بديلة، كالتي في الصفوف المختلفة للجماعات السياسية والعسكرية، والناس الذين يسعون لإنقاذ سوريا من الخطة الرئيسية للأسد يحاولون وضع أنفسهم في السلطة، وعدم قدرة المعارضة على الالتفاف حول أي شخص تبدو أنها تعكس تلك العقلية، ولا يمكن لأحد أن يثق بأي أحد؛ لأن جميعهم يقبل بنفس التعريف للقيادة، فالقائد يجب أن يتصرف كشخص منقذ، وبالتالي، يجب أن يصبح مستبدًا، ويرى البعض أنهم بشكل سري يطمع جميعهم في وظيفة الأسد.

والدروس التي يجب على العرب أن يتعلموها من المأساة السورية ومحاولة الانقلاب الفاشل، هي ابتكار أنظمة للحكم تركز على المناهج والقوانين، وليس الرموز؛ ليكونوا أقل تركيزًا على وسيلة الخلاص وأكثر تركيزًا على تقدم سوريا، فهم يريدون نظامًا تتحول فيه الناس إلى الشوارع لدعم رئيسهم المنتخب ديمقراطيا، أو التصويت لإزاحته من منصبه، ولكن ليس لكونه المنقذ، وهذا النهج في السياسة يركز على مسألة التقدم التي تسمح لمتبني التجربة بالعمل الجدي نحو التغيير التدريجي. والتركيز على الخلاص غالبًا ما يتلخص في وضع الثقة العمياء للقادة الذين يتوقعون القلق من ردود الفعل الشعبية، حتى لو أرادو ذلك لا يفعلوا.

 لوفار – التقرير