تنظيم الدولة واستهداف أوروبا

تنظيم الدولة واستهداف أوروبا

580

“الضربة القادمة ستكون قاصمة”.. بهذه الجملة أنهىتنظيم الدولة بيانه المرئي، الذي أعلن فيه المسؤولية عن هجوم “نيس”، وجاء البيان بالترتيب المعتاد؛ تصريحات لمسؤولين غربيين (في هذه الحالة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند) يتوعدون بقصف أراض يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق، ثم مقاطع مصورة لنتيجة القصف (مقتل وجرح أطفال ونساء ورضع)، ثم مقاطع لهجمات على مدن أوروبية (في هذه الحالة مدينة نيس)، مع أبيات شعرية ونصوص دينية وشعارات تنظيمية تمجد المهاجم.

وأظهر البيان بطاقة الإقامة الفرنسية للجاني، وكذلك صورا شخصية لإثبات علاقته بالتنظيم.
رأت أوروبا أسوأ من تلك الموجة الإرهابية بمراحل في سبعينيات القرن الماضي، وذلك من حيث عدد الهجمات وأعداد الضحايا، كما هو موضح في عدة دراسات إحصائية، قبل أن تنتصر أو تسوي في نهاية المطاف مع التنظيمات الثلاثة الأبرز التي قادت معظم تلك هجمات (الجيش الجمهوري الإيرلندي، تنظيم “بلاد الباسك والحرية” أو إيتا، والألوية الحمراء الإيطالية).

بيد  أن استمرارية موجة هجمات تنظيم الدولة، وبعدها الإقليمي، وضربها لأرجاء أوروبا دون تمييز -من إسطنبول شرقا إلى نيس غربا- بأساليب أكثر وحشية مما سبق رغم بساطة أدوات القتل، وضعت هدف مكافحة التنظيم على رأس أولويات المسئولين الأمنيين الأوربيين دون استثناء، وبتأييد شعبي كبير.

لماذا زادت الهجمات؟
ترتبط زيادة وتيرة الهجمات بعدة عوامل، أبرزها على المستوى الإقليمي حالة عدم الاستقرار في الجوار الأوروبي، كنتيجة مباشرة للديكتاتوريات القمعية التي حكمت طويلا، وإرثها السرطاني الذي مازال يعاني منه الجوار.

ويتجسد عدم الاستقرار في استمرارية الصراعات المسلحة في سوريا والعراق وليبيا، وشدة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي والتمرد المسلح فيمصر، والأوضاع الأمنية الهشة نسبيا في تونس والجزائر. وقد زادت محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا من مؤشرات عدم الاستقرار، وهي محاولة أدت لمقتل ٢٧٠ مواطن وجرح أكثر من ١٥٠٠ في غضون ساعات قليلة (أي أكثر من كل ضحايا هجمات تنظيم الدولة في تركيا خلال سنتين)، قبل أن تستعيد القوات الحكومية السيطرة.

أما على المستوى التنظيمي، فهناك عامل بارز آخر زاد من وتيرة الهجمات وتوقعته الدراسات الأمنية؛ فحين يفقد أية تنظيم مسلح كبير السيطرة على أراضيه أو “زخم التمدد،” فإن احتمال استخدامه لتكتيكات إرهابية يزداد. وهناك منطق عقلاني -وإن كان شريرا- لذلك؛ فمهاجمة الأهداف المدنية -وهي جوهر تكتيكات الإرهاب- أرخص في التكلفة، وأسهل في الضرب، وأعلى في الفعالية (السياسية وأحيانا السيكولوجية- الاجتماعية)، وأبرز في الإعلام. ومن ثم، فإن قيادة تنظيم الدولة ترى “فوائد” في الضرب المباشر داخل أوروبا، في الوقت الذي تفقد فيه العديد من مناطق سيطرتها في العراق وسوريا وليبيا.

أهداف الهجمات
أهداف مهاجمة التنظيم للداخل الأوروبي متعددة. أولها، أن قيادة التنظيم تعتقد أن في ذلك “ردعا” للغرب عن مهاجمة الأراضي التي تسيطر عليها، وهي بذلك لا تفهم محددات صناعة القرار الأمني والعسكري في الغرب، ولا الدروس المستفادة من تجارب صراعات الماضي التي بنيت عليها تلك المحددات.

ثاني أهداف التنظيم هي “الثأر” لأكثر من عشرين ألف قتيل في صفوفه -بحسب تقديرات البنتاغون– نتيجة للضربات الجوية لقوات التحالف. وأما الهدف الثالث للتنظيم فهو زيادة عزلة المسلمين الأوروبيين عن بلدانهم وحكوماتهم المنتخبة، وبالتالي الاستفادة من تلك العزلة عبر التجنيد أو التعبئة. كما يهدف التنظيم لزيادة التفكك الاجتماعي والاستقطاب بين المكونات الدينية الأوروبية، وحتى بين المكون الديني الواحد (الانقسام السني الشيعي داخل الجاليات الأوروبية المسلمة هو مثال واضح على ذلك).

استهداف تركيا وفرنسا
في حين أن أهداف هذه الإستراتيجية ليست بجديدة، فإن القدرة العملياتية على تنفيذ بعض بنودها من قبل تنظيم مسلح هو بحد ذاته تطور جديد. فقط أدار التنظيم عدة هجمات في أوروبا على الرغم من كونه تحت القصف المكثف منذ عام ٢٠١٤، وكانت فرنسا وتركيا لهما النصيب الأكبر من وحشية التنظيم. فقد شهدت الأولى مقتل أكثر من ٢٣٠ شخصا، وجرح ٧٠٠ في الهجمات المرتبطة بتنظيم الدولة. في حين عانت الثانية من هجمات راح ضحيتها أكثر من ٢٢٠ قتيلا وجرح ٩٠٠.

القدرة العملياتية لإرهاب تنظيم الدولة واستمراريته في أوروبا لها أسباب معقدة. فقد خلصت دراسة نشرتها مجلة العلوم السياسية الأميركية إلى أن أكثر من ٩٠٪ من المقاتلين الغربيين في مناطق الصراع لا يشكلون خطرا أمنيا عند عودتهم إلى الغرب، وأن أقل من ١٠٪ قد ينخرطون في عمل مسلح أو إرهابي (العينة اشتملت على ٩٤٥ مقاتل غربي انضووا تحت لواء تنظيمات إسلامية مسلحة أو جهادية في مناطق صراع وأتوا من أوروبا الغربية وأميركا الشمالية أو أستراليا).

ورغم ذلك فإن أعداد المقاتلين الأوربيين في سوريا قد تجاوزت الخمسة آلاف مقاتل (بناء على تقديرات أكتوبر/تشرين أول ٢٠١٥)، وبالتالي فإن نسبة الـ١٠٪ المحتملة للتهديد الأمني لا تزال عالية. ومن بين الآلاف الخمسة، هناك حوالي سبعمائة مواطن فرنسي يعتقد بأنهم قاتلوا تحت لواء تنظيم الدولة، من أصل ألف وثمانمائة فرنسي يعتقد أنهم قاتلوا في سوريا أو العراق.

ولايزال العدد الدقيق للأوروبيين الذين تدربوا في معسكرات تنظيم الدولة ثم عادوا مفقودا؛ فعبد الحميد أبو عود -المتهم بأنه العقل المدبر لهجمات باريس٢٠١٦- ادعى أنه عاد لأوروبا ومعه تسعون عضوا مدربا من تنظيم الدولة. وفي معاقل التنظيم، تشير بعض التقارير لتدريب ما بين أربعمائة إلى ستمائة عضو “للعمليات الخارجية.”

وفي أواخر عام٢٠١٥ -حين بدأ التنظيم يفقد السيطرة على بعض المناطق- بدا أن التدريب صار أكثر تنوعا وتعقيدا ولفترات أطول، ويشمل حرب المدن، وتصنيع العبوات الناسفة، ورصد ومراقبة الأهداف، والتصدي ومراوغة الإجراءات الأمنية، والتزوير، وهي كلها تدريبات تصب في تعزيز القدرات العملياتية لتنظيم الدولة.

ولكن لماذا كان التركيز على فرنسا وتركيا؟ النتائج الأولية لدراسة أجراها اثنان من الزملاء المختصين ونشرتها مجلة “الشئون الخارجية” الأميركية تظهر ردود فعل سلبية على “اللائكية” الفرنسية بين طبقات المراهقين والشباب السنة المهمشين والناطقين بالفرنسية، وهذا -بحسب الدراسة- يسهل الطريق نحو التطرف كرد فعل على “فرض الهوية” وبالتالي التجنيد من قبل الإرهابيين، وهو ما يعكس أعداد الفرنسيين في تنظيم الدولة (فرنسا الأولى أوربيا من حيث الأعداد). وقد يكون الأمر أكثر تعقيدا من ذلك بكثير، ولكنه يفسر جزئيا البعد الخاص بالسياسة الخارجية.

فقد تبنت فرنسا في الألفية الجديدة العديد من المظالم العربية والإسلامية؛ حيث عارضت الحرب على العراق في عام ٢٠٠٣، وتدخلت عسكريا ضد دكتاتور ليبيا، وهو ما ساهم في وقف جريمة محتملة ضد الإنسانية في بنغازي في مارس/آذار ٢٠١١، وأيدت الثورة السورية ضد مجازر نظام الأسد منذ ٢٠١١.
وبغض النظر عن نيات الحكومات الفرنسية المتعاقبة من تلك المواقف، وعن كيلها بمكيالين في مواقف أخرى، فإن هذه السياسات كان ينظر إليها بشكل إيجابي في معظم أرجاء المنطقة، ولكنها لم تمنع استقطاب تنظيم الدولة لمئات من الشبان الفرنسيين.

أما استهداف تركيا، فله أسباب أخرى؛ فتركيا تمثل النموذج والبديل الأكثر جاذبية لشرائح كبيرة من العرب والمسلمين مقابل نموذجي حكم المستبدين أو المتطرفين؛ فهي رغم التحديات الحالية ما زالت تمثل ديمقراطية ناجحة مع معدلات نمو اقتصادي وصلت إلى ٩٪ في عامي ٢٠١٠ و٢٠١١، وسميت “بالمعجزة التركية” ونتيجة لذلك النجاح، تم تخصيص الكثير من البروباغاندا الرسمية لتنظيم الدولة، عبر مجلة دابق وغيرها، لمهاجمة هذا النموذج وقيادته.

وفي مواجهة التحديات الأمنية المتواصلة من قبل تنظيم الدولة، فإن أوروبا ستحتاج إلى التوحد ما بين ديمقراطياتها ومن داخل ديمقراطيتها، بمعنى مكافحة الاستقطاب المجمعي ومكافحة تهميش وعزل مكوناتها المسلمة من ناحية. ومن ناحية أخرى فقد حان الوقت لرسم إستراتيجية أمنية أوربية مشتركة، توحد إجراءاتها وقواعد بيانتها، وتنبذ الفرقة والتشرذم بين مكوناتها المجتمعية المختلفة، وتتعهد بالدفاع عن الديمقراطيات ومبادئها.

عمر عاشور

الجزيرة