المسألة التركية من منظور غربي

المسألة التركية من منظور غربي

الاكراد-lebanon-daily-630x350

لستُ من المولعين بنظرية المؤامرة في تحليل الأمور وتطورات الأوضاع، خصوصاً في ما يتعلق بالأمور السياسية، لأن المسألة، بالنسبة لي، هي موازين قوى ومصالح، تقوم على أسس براغماتية، سعياً إلى الهيمنة، وهذا أصبح معروفاً في اللعبة السياسية، لا مكان للضعفاء أو أصحاب الأخلاق في هذا العالم، ولعل أزمة اللجوء نتيجة الحرب السورية كشفت كثيراً من ذلك.
… لم يهدأ السجال بين النظام التركي والأوروبيين، منذ اعتلى الأول السلطة. تطور الأمر، في السنوات الأخيرة، إلى عملية مواجهاتٍ سياسيةٍ وانتقاداتٍ حادّة بين الجانبين. الاتحاد الأوروبي يتعسّف في عملية انضمام تركيا إليه، والأتراك يرون أن هذا يعكس تحيّزاً وخللاً في القيم الأوروبية التي يزعم الاتحاد أنه يتبناها. ومن دون الدخول في شرح أسباب عدم انضمام تركيا، حتى الآن، للاتحاد الأوروبي، فمجاله ليس هنا. تركّزت المواجهة بين الأوروبيين والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل المحاولة الانقلابية، في الانتقادات التي وجهت لملف حقوق الإنسان وحرية الصحافة في تركيا، أو ما عبر عنه، في الصحافة الألمانية تحديداً (بالقمع الأردوغاني)، ثم تطوّرت، بعد الأزمة السورية، لتشمل اتهاماتٍ بدعم التنظيمات الجهادية، وتسهيل عبور اللاجئين عبر الحدود التركية الأوربية المشتركة. مع احتدام المواجهة، لوح الرئيس التركي باستخدام ورقة اللاجئين ضد الأوروبيين. في نهاية الأمر، تم التوصل إلى اتفاق بين الجانبين بخصوص تلك المسألة، كان طرفا التوافق فيه المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، ورئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو. على غراره، دفع الألمان مبالغ كبيرة للأتراك، للبدء في تنفيذ الاتفاق. على الرغم من ذلك، لم تتوقف المواجهة واستمرت، انتهاءً برفع الرئيس التركي دعوى قضايئة ضد فنانٍ ألماني سخر من أردوغان في أحد البرامج التلفزيونية. حاولت المستشارة الألمانية التدخل لإجبار الفنان الألماني على تقديم اعتذار للرئيس التركي، إلا أن محاولتها باءت بالفشل، بعد الضغوط والانتقادات الواسعة التي تعرضت لها من الصحافة والسياسيين، على حد سواء.
مع تناقل الأنباء حول نزول الجيش التركي في الشارع، وإذاعة بيانه الأول الذي يعلن فيه استيلاءه على السلطة، كنت مهتماً، في تلك اللحظة، برصد ردود الأفعال الأوروبية. وأدهشني كثيراً ذلك الصمت الذي كان في البداية، وكأن الجميع ينتظر ماذا سيحدث، ولمن ستكون الغلبة. لكن، في تلك الأثناء، راودتني أسئلةٌ كثيرة مثل: هل سيتعامل الاتحاد الأوروبي مع حكومةٍ

عسكرية، إذا نجح الانقلاب؟ وإذا ما كان كذلك ألا يعتبر هذا مخالفةً لمبادئه التي يدافع عنها وتأسّس عليها. هل سيغامر الاتحاد الأوروبي باتفاقياته السياسية، ويضع نفسه في مواجهة أزمة لجوءٍ أكبر من الأزمة الأولى، والتي كشفت خللاً كبيراً في بنيته، وضعف مؤسساته. والأهم عدم القدرة على الاتفاق في التعامل معها، إلى جانب التعرّض لموجة إرهابٍ جديدةٍ أشدّ وأشرس من الموجة التي تتعرّض لها الآن؟ هل سيكونون على استعدادٍ للتعامل مع حركاتٍ انفصاليةٍ متعدّدة يسعى كل منها إلى إقامة دولته؟ بصورة أخرى، هل هم على استعدادٍ للتعامل مع سورية جديدة. لكن، هذه المرة، على الحدود الأوروبية مباشرة؟ ثم تطرّق إلى ذهني هذا السؤال: هل من الممكن أن يكون هناك تورّط لبعض الحكومات الأوروبية فيما يحدث؟
لا تتوفر معلوماتٌ لأقول ذلك. لكن، ما سلكه الأوروبيون، في أثناء الثورة المصرية، هو الصمت حتى تتضح الأمور وتكون الغلبة لمن، إلا أن مصر بالنسبة للأوروبيين ليست تركيا. بعد ما يقرب من أربع ساعات من بداية الأحداث، جاءت أول إدانة أوروبية، على لسان المتحدث باسم المستشارة الألمانية، تعبر عن رفض ما يحدث، وتأييد الحكومة الشرعية المنتخبة، ثم تتابعت الإدانات الأوروبية على التوالي. مفهوم أن تكون الإدانة الأولى من ألمانيا، بوصفها زعيمة الاتحاد الأوروبي، وقد تمت، بعد اتصالاتٍ بين زعماء الاتحاد. لكن، يبقى السؤال: لماذا التأخّر في الإدانة؟ وماذا يعني هذا؟
بالتأكيد، تركيا قبل 15 يوليو/ تموز 2016 هي ليست تركيا بعد هذا التاريخ. كشف ما حدث أشياء كثيرة على مستويات متعدّدة، وخصوصاً على المستوى الخارجي، وانتهاءً بالمستوى الداخلي المعقد. من وجهة النظر الأوروبية، أعاد ما حدث التركيز، مرة أخرى، على دولةٍ تريد الانضمام للاتحاد الأوروبي. لكن، كيف ووضع جيشها بهذه الطريقة، خصوصاً وأنه ثاني أكبر جيش في حلف الناتو (وهذا يطرح مزيداً من علامات الاستفهام بشأن سلوك الجيش)؟ هذا يحتاج مزيداً من المراجعات. في الوقت نفسه، بدأت الانتقادات الغربية تجاه ما يحدث، وطالبت الحكومة التركية بالتزام القانون، في معاقبة من اتهمتهم بتدبير الانقلاب، وتقوم الآن بموجة اعتقالاتٍ واسعةٍ في جميع المؤسسات، قد تستمر أسابيع. في الوقت نفسه، ألمحت الحكومة التركية إلى إمكانية إعادة عقوبة الإعدام التي ألغتها في العام 2003، وهي أحد الشروط للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد بدأت الانتقادات الأوروبية تتصاعد في وجه الحكومة التركية، خصوصاً بعد الاعتقالات الواسعة في صفوف القضاء، وبدأ الحديث صراحةً عن رفض عمليات تسييس القضاء التي تمارسها الحكومة التركية، وكانت هذه القائمة مجهّزة سلفاً. وصل الأمر إلى أن يقول رئيس البرلمان الأوروبي، إن استمرار عملية تسييس القضاء، وإعادة عقوبة الإعدام، يعني انتهاء المفاوضات الخاصة بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
هناك، الآن، أسئلة عدة تطرح نفسها، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية التركية: هل أصبح النظام التركي غير مهتم بمسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ هل سيغيّر من سياسته الخارجية في ملفاتٍ عديدة؟ وهل يعني ذلك الانفتاح على الجميع، والعودة إلى استراتيجية “تصفير المشكلات”، أم سنشهد عزلةً مؤقتةً للنظام، وانكفاء على القضايا الداخلية؟

تقادم الخطيب

صحيفة العربي الجديد