العرف الجديد في الشرق الأوسط

العرف الجديد في الشرق الأوسط

eeee

تظهر الحرب التي تشن على داعش كدولة أولية تسيطر على أراضٍ وتحكمها علامات على إحراز تقدم بالرغم من أن قبول أيديولوجية التنظيم ومقدرته على إلهام القيام بالأعمال الإرهابية يبدوان غير متضائلين.
ففي العراق وسورية ما تزال “داعش” تفقد أراضي بالرغم من أن ذلك يتم بوتيرة بطيئة وسط مقاومة كبيرة. ووفق الحكومة الأميركية فقد هذا التنظيم الجهادي 40 في المائة من الأراضي التي كان قد استولى عليها في العراق و20 في المائة من الأراضي التي كان قد استولى عليها في سورية. وفي الأثناء، استهلت العمليات ضد المعقلين الرئيسيين لداعش: الرقة في سورية والموصل في العراق بالرغم من أن تقدم العمليات يتسم بالبطء والتقطع.
وبالرغم من محدوديته فإن الدعم الذي تقدمه واشنطن للجيش العراقي وللمقاتلين الأكراد في العراق وسورية ما يزال يعتبر رئيسياً. فمن دون قصف مواقع داعش، ولمدى أقل التدريب والأسلحة المقدمين من جانب الولايات المتحدة فقد كان داعش ليكون أكثر قوة مما هو حاله راهناً.
فإلى أي مدى أفاد هذا التدخل الولايات المتحدة؟ سؤال مفتوح للإجابة عليه.
لقد رد التنظيم على خسارة الأراضي في شرقي البحر الأبيض المتوسط عبر تصعيد أوار الهجمات الإرهابية في بلدان أخرى، فبات الخطر يتهدد الأمن المحلي للولايات المتحدة. وفي الأثناء، أجبر التدخل في سورية والعراق أصلاً الولايات المتحدة على الدخول في تحالفات الأمر الواقع مع تنظيمات لا تريد دعمها—على سبيل المثال قوات الحشد الشعبي في العراق المدعومة من جانب إيران—ومع بلدان لا تشترك الولايات المتحدة معها في أهدافها وفي مقدمتها روسيا وإيران.
ولسوء الطالع، فإن هذه التحالفات غير المناسبة ليست نتيجة قرارات بائسة وثنائية الوجه اتخذتها إدارة الرئيس اوباما، وإنما بسبب تعقيد الحالة في المنطقة التي لا تستطيع الولايات المتحدة هندستها وفق هواها. فواشنطن ببساطة ليست في وضع يمكنها من بناء الشرق الأوسط الذي تفضل، وهي مجبرة نتيجة لذلك على قبول التسويات الصعبة وتفعيل السياسات المتناقضة. وبعيدة عن أن تكون انحرافاً مؤقتاً فهذا هو شكل الأشياء التي ستحدث في المنطقة.
العراق: عدو لكل حليف
في العراق تدعم الولايات المتحدة حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي والجيش العراقي في القتال ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وتقدم الأسلحة والتدريب لهم. وثمة أكثر من 4000 عسكري ومستشار أميركي في العراق. وهم منتشرون أكثر من ذي قبل في ميدان المعركة فقد بدأوا في تلقي خسائر. لكن دعم الحكومة ينطوي أيضاً على قبول تواجد الحالات القتالية للمليشيات الشيعية التي تحب الولايات المتحدة تحييدها مما يوحي بتعاون ضمني مع الجمهورية الإسلامية.
وكانت قد جلبت للتواجد في العام 2014 من جانب المرجع الشيعي العراقي الأعلى آية الله علي السيستاني الذي كان قد دعا العراقيين كافة للانخراط في التجنيد دفاعاً عن بلدهم بعد انهيار الجيش في الموصل. إن هذه المليشيات تعتبر شيعية تقريباً بشكل حصري. إلى ذلك، تضم قوات الحشد الشعبي العديد من المجموعات المختلفة التي تعمل بشكل مستقل عن بعضها بعضا على الرغم من أنها تخضع اسميا لسلطة رئيس الوزراء. وفي الواقع فإن بعض القادة مثل هادي العامري من منظمة بدر هم أقرب بكثير إلى الجنرال الإيراني قاسم سليماني وقوات القدس التي يتزعمها منهم إلى العبادي. كما أن المليشيات تعتبر نافذة من الناحية السياسية وحيث أعلن بعض قادتها بصراحة أن قوات الحشد الشعبي يجب أن تتحول إلى قوة رسمية على غرار الحرس الثوري الإيراني (تجدر الإشارة إلى أن العبادي أعلن مؤخراً أن قوات الحشد الشعبي هي جزء من الجيش العراقي). كما يجدر التنويه بأن أعضاء قوات الحشد الشعبي يتلقون رواتب ومعدات من الحكومة العراقية ويتلقى بعضهم على الأقل دعماً من قوات الحرس الثوري الإيراني.
ومن ناحيتها ترغب الولايات المتحدة في الحفاظ على المليشيات خارج القتال في المناطق السنية لكنها فشلت في ذلك. ويحتاج الجيش العراقي إلى دعم المليشيات، حيث يعتبر العبادي ضعيفا جداً من الناحية السياسية بحيث لا يقوى على تحدي قادة المليشيات الذين يتمتعون بقوة أكثر. ونتيجة لذلك خلصت الولايات المتحدة إلى دعم قوات الحشد الشعبي بالإضافة إلى دعم الجيش العراقي عند قصف أهداف داعش. ويعتبر هذا الدعم كريها وخطيراً من الناحية السياسية على حد سواء. وتميل المليشيات إلى أن تكون معادية لأميركا بقوة وفي عدد مزعج من الحالات نفذت أعمالاً انتقامية ضد المواطنين السنة في مناطق حررتها بعد أن شكّت في أنهم كانوا يدعمون داعش.
وثمة حليف أميركي آخر غير مناسب بعض الشيء في الحرب ضد داعش، هم قوات البشمرغة الكردية وهي القوات العسكرية لحكومة كردستان الإقليمية. وتلقى مشاركة هذه القوات ترحيباً كاملاً من جانب الولايات المتحدة لأنها متحفزة وتنصت للمدربين الأميركيين وتقوم بتنسيق عملياتها مع المستشارين الأميركيين. ولا يغيب عن البال ، في الأثناء، الإشارة إلى أن السياسة تعقّد العلاقات العسكرية الجيدة. ولا تخفي منطقة الحكم الذاتي في العراق حقيقة أن هدفها المطلق هو الاستقلال الأمر الذي تعارضه بغداد. ومن أجل تفادي اتساع رقعة التوتر تحول الولايات المتحدة الأسلحة التي ترسلها لقوات البيشمرغه عن طريق الحكومة العراقية والتي، وفق الأكراد، قد تمررها أو لا تمررها لهم. ومما يثير حفيظة الأكراد أكثر أن واشنطن ترفض فكرة الاستقلال الكردي وتتمسك بدلاً من ذلك بالمفهوم غير الواقعي القائم على عراق موحد تحت حكومة ديمقراطية شمولية. وطالما ظل داعش يشكل القوة المهيمنة فإن الخلافات بين الولايات المتحدة والأكراد ستتراكم ويخشى أن يكونا أكثر إثارة للمشاكل في المستقبل.
وستنجم المشكلة الرئيسية لما بعد داعش بسبب الغياب الفعلي للقوات السنية في المعركة. لكن الآمال الأميركية بإحياء المليشيات السنية القوية التي كانت قد ساعدت في إلحاق الهزيمة بتنظيم القاعدة في العامين 2008/2007 قد أثبتت أنها غير مؤسسة. وكان البرلمان العراقي قد رفض الفكرة بعد أن رأى أن وجود ميليشيات سنية ضخمة ينطوي لأن يكون تحالفات محتملة لداعش. وتجدر الإشارة إلى أن السنة لم يعودوا يثقون بالحكومة العراقية بعد أن نكثت بوعودها في الاستمرار بتمويل المليشيات السنية كما أنهم لا يثقون بالولايات المتحدة بسبب اعتقادهم بأنها خذلتهم في الماضي. ونتيجة لذلك وبينما تشارك بعض مليشيات العشائر في بعض المعارك فليس ثمة من دليل على أن هذه المليشيات ضخمة أو تلعب دوراً رئيسياً. وينطوي إلحاق الهزيمة بداعش على خطر ترك السنة بلا حول ولا قوة وأكثر استياء من ذي قبل.
إلى ذلك تجبر الحرب ضد داعش في العراق الولايات المتحدة على الدخول في حالات مربكة جداً: ولا تستطيع واشنطن دعم الحكومة من دون القبول بالمليشيات الشيعية التي تتلقى الدعم والمشورة أيضاً من إيران. وهي لا تستطيع تسليح البيشمرغه التي تعتبر قوة مقاتلة فعالة علناً بسبب الحساسيات السياسية للحكومة العراقية، وهذا ما يجعلهم قوة مقاتلة أقل فاعلية. وهي تريد تقوية الجيش وجلب مليشيات سنية موثوقة لكنها تواجه صعوبة في تحقيق ذلك لكنها إذا أرادت قتال داعش فيجب عليها القبول بكل التعقيدات والتناقضات المتأصلة مع الحالة.
مقاتلة عدوين في سورية
يجبر قتال داعش في سورية الولايات المتحدة على العمل مع حلفاء أكثر إثارة للمشاكل. والمعروف أن واشنطن تعارض حكومة الرئيس بشار الأسد كما أنها تعارض الدولة الإسلامية أيضاً ومعظم التنظيمات السنية التي تقاتل الأسد وداعش على حد سواء. وتشمل هذه التنظيمات السنية جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة وغيرها من المجموعات السنية الراديكالية المسلحة.
ونظراً لأنها لا تستطيع العمل مع الحكومة ولأنها لا تثق في معظم التنظيمات السنية فإن الولايات المتحدة تستطيع مساعدة الأكراد السوريين الذين يأتون بحمل ثقيل. وتدعم الولايات المتحدة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يسيطر الآن على مساحات شاسعة من الأراضي المحاذية لمعظم الحدود مع تركيا. لكن دعم الحزب الديمقراطي الكردي وميليشياته يضع الولايات المتحدة في خلاف مع تركيا التي تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي جزءاً من حزب العمال الكردستاني، حزب المعارضة الكردية الرئيسي في تركيا والذي تصنفه كل من أنقرة وواشنطن على أنه تنظيم إرهابي.
وينطوي دعم الحزب الديمقراطي الكردي على خطر تحييد العدد المحدود جداً من التنظيمات السنية التي تعبرها الولايات المتحدة معتدلة بشكل كاف للعمل معها: وتضم الأراضي التي يسيطر عليها حزب الوحدة الديمقراطي الكردي العديد من المناطق حيث السكان فيها من السنة في سوادهم الأعظم. وفي محاولة لعلاج المشكلة ساعدت الولايات المتحدة في تأسيس القوات الديمقراطية السورية المفترض بأنها تنظيم كردي-سني يتكون في الحقيقة من الأكراد بنسبة 80 في المائة. وبطريقة معاكسة قد يصب دعم الولايات المتحدة لحزب الوحدة الديمقرطي الكردي لصالح حكومة الأسد التي قبلت حتى الآن ضمناً السيطرة الكردية على شمالي سورية كبديل مفضل لسيطرة داعش.
إلى ذلك، يحظى الجيش السوري، الذي تعارضه الولايات المتحدة لكنها لا تقاتله، بدعم من إيران وحزب الله الذي كان له نحو 6000 رجل في سورية وتجشم خسائر جسيمة. ويقاتل الجيش السوري داعش وجبهة النصرة الذي يساويها بداعش كما تفعل الولايات المتحدة ، لكنه يقاتل أيضاً كل قوات المعارضة الأخرى بما فيها تلك التي قدمت لها الولايات المتحدة بعض الدعم على نحو متقطع. وبينما يقاتلان داعش فإن الولايات المتحدة والجيش السوري يتنافسان أيضاً على من سيستفيد من الانتصارات العسكرية. فمثلاً في منتصف شهر حزيران (يونيو) الماضي كانت قوتان عسكريتان تتجمعان على عاصمة داعش، الرقة، حيث كان حزب الوحدة الديقراطي الكردي مع حلفائه السنة في القوات الديمقراطية السورية يقومان بعمليات من الشمال بينما كان الجيش السوري يتحرك من الغرب ما أثار السؤال من سيصل إلى هناك أولاً وماذا سيحدث لاحقاً.
وبالرغم من إن تقدم الجيش السوري أوقف بسبب هجوم مضاد شنته داعش فإن القوات الديمقراطية السورية ما تزال تقاتل بهدف استعادة مدينة منبج قبل التقدم أكثر نحو الجنوب، وهي مسألة وقت قبل أن يبرز الموضوع مرة أخرى.
وثمة تعقيد آخر يتمثل في التورط الروسي الذي يعتبر ذا أهمية هامشية في العراق لكنها رئيسية في سورية. وفي أيلول (سبتمبر) من العام 2015 ، كما يجدر التنويه، تدخلت روسيا في الحرب الأهلية السورية دعماً للأسد. وانتقدت الولايات المتحدة روسيا لعدم تركيزها جهودها على داعش وتنبأت أيضاً بأن يجد بوتين نفسه في مستنقع خلال وقت قريب. لكن روسيا تفادت هذا المستنقع عندما عملت بالمثال الأميركي وقصرت جهودها غالباً على القصف. وساعد هذا الأسد في استعادة السيطرة في العديد من المناطق التي كان قد خسرها وسمح لموسكو في صب اهتمامها على الدولة الإسلامية. ونتيجة لذلك تجد الولايات المتحدة نفسها وعلى نحو متزايد تقاتل في نفس الجانب كروسيا، داعمة بشكل غير مباشر جهود الأسد للتشبث بالسيطرة وتتعاون مع روسيا في المحاولات الفاشلة حتى الآن للتفاوض على وقف لإطلاق النار والشروع في المفاوضات الموصلة لهذه الغاية.
القياس الجديد
في الحرب ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” نجد أن الولايات المتحدة تقاتل فوق كل شيء من أجل مصالحها الأمنية الخاصة، كما يجب لها أن تفعل. وثمة قلة تعتقد في هذه النقطة بأن الولايات المتحدة تستطيع تحويل المنطقة كما اعتقد العديدون عندما تدخلت الولايات المتحدة في العراق أول الأمر في العام 2003. وبالرغم من هبات من حين لآخر من خطاب حول بناء أمة يخرج من مفكرين حسني لنوايا ومن مقاولين ساعين لانتهاز الفرص ومن دون الإخلال بالالتزام بتقديم الإغاثة الإنسانية فإن الولايات المتحدة ماكثة في العراق وسورية لأنها تخشى من داعش ومن غيرها من المجموعات الإسلامية الراديكالية. وفي هذا القتال فهي تفتقر إلى حلفاء حقيقيين من حيث الحكومات أو التنظيمات الأخرى التي تشاركها أهدافها وقيمها. وحتى شراكات المصلحة التي تشكلها تأتي محملة بروابط غير مطلوبة.
من الطبيعي أن تحالفات وشراكات المصلحة لا تكون نقية أبداً ومحررة من عبء التعقيدات. ومثل باقي البلدان فإن للولايات المتحدة تاريخا طويلا من دعم الحكومات والتنظيمات التي لا تشاركها قيمها.
لكن سورية والعراق يعتبران حالتين مفرطتين. فتعقيد الحالة السياسية والعسكرية—والتي تقدم الورقة الحالية مسودة مبسطة لها- مفرط. لكن الأهم من كل شيء أن الولايات المتحدة لا تتوافر على أي شريك موثوق في كلا البلدين. وحتى العراق- حيث الحكومة التي تدعمها الولايات المتحدة والتي تحب لها أن تصبح أكثر ديمقراطية وشمولية- فإنه يتأثر بإيران.
ولسوء الطالع فإن الحالة التي تواجهها الولايات المتحدة في العراق وسورية من المرجح أن تصبح المقياس الجديد في الشرق الأوسط.
منطقة كانت ذات مرة مقسمة بين حلفاء الولايات المتحدة والسوفيات وحيث تمتعت الولايات المتحدة بنفوذ كبير أصبحت الآن تشهد نزاعات داخلية ومنافسات إقليمية لا تستطيع الولايات المتحة التأثير عليها. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الروابط الفعلية بين العربية السعودية والولايات المتحدة قد وهنت بشكل كبير وسيكون من الصعوبة بمكان استعادتها إلى سابق عهدها وحيث العربية السعودية تسعى الآن لتوفير الحماية ليس من الاتحاد السوفياتي وإنما من إيران التي تسعى الولايات المتحدة إلى تطبيع علاقاتها معها. إلى ذلك، أصبحت مصر تشكل إحراجاً سياسياً بالرغم من أن الاعتبارات الجيوسياسية قادت واشنطن إلى التظاهر بأن كل شيء على ما يرام. وحتى بلد صغير مثل البحرين حيث تحتفظ الولايات المتحدة بمنشآت عسكرية مهمة فيه فلا يشعر بأي حاجة لأخذ أفضليات واشنطن بعين الاعتبار قبل إعلانه الحرب أساساً على مواطنيه الشيعة. ومن الممكن ان تستمر هذه القائمة.
ويعتبر الشرق الأوسط منطقة تنطوي على خطر كبير يتهدد الولايات المتحدة إذا انسحبت منه لكنه معقد جداً بحيث لا تستطيع واشنطن استغلاله وتغييره. وسيجبر هذا الحال واشنطن على الاستمرار في العمل مع حلفاء غير مناسبين على المدى القصير ولمحصلات محدودة. وهذا سيكون المقياس الجديد في المنطقة.

مارينا أوتاري

صحيفة الغد