أميركا.. من حدود سايكس بيكو إلى جدران الدم

أميركا.. من حدود سايكس بيكو إلى جدران الدم

580

الذين يرون أن الولايات المتحدة تنسحب تدريجيا من المنطقة (خصوصا المشرق العربي) مخطئون، والذين يسوقون باراك أوباما وسياسته في المنطقة كـ”بطة عرجاء” يجانبهم الصواب، والذين يصفون السياسة الأميركية في المنطقة بالضعف والترهل، يبدو أنهم استعجلوا في استنتاجاتهم غير الصحيحة.

ما تقوم به الولايات المتحدة في المنطقة لا يعبر بالضرورة عن فشل أو عجز أو ارتباك؛ وإن قراءة متأنية للسياسة الأميركية وعملية صناعة القرار فيها تشير إلى أن المصالح العليا لم تختلف، وتوجيه مسار الأحداث الكلية بما يخدم السياسة الأميركية لم يختلف، وأن محصلة تدخّل القوى الأخرى (بمن فيها الروس) لا تبعد في النهاية عن الصبّ في “الطاحونة الأميركية”!

كل ما فعله أوباما هو أنه غيَّر أسلوب التعامل الأميركي مع المنطقة من أسلوب التدخل الغليظ الدموي المباشر والمكلف إلى تحقيق المصالح نفسها من خلال أدوات القوة الناعمة، وبتكاليف أقل، وربما بنتائج أفضل.. وهو ما حاول تنفيذه من خلال “الإدارة الذكية للنزاع أو للصراع” أو بالإنجليزية Smart Management of Crisis.

هذا المقال يركز فقط على العراق نموذجا، ويحاول أن يحدد حقيقة المنظور الأميركي وممارساته تجاهها.. وهو يرى أن أميركا جاءت بعد نحو مائة عام على سايكس بيكو لتختط حدودا ليست على الخرائط، حدودا ترتفع فيها جدران الكراهية والدم، في مأساة وملهاة يشارك أبناء المنطقة أنفسهم في صناعتها!

المصالح الأميركية
تركز الإستراتيجية الأميركية الدولية على المحافظة على الهيمنة الأميركية على العالم، والبقاء كقوة عظمى وحيدة لأطول فترة ممكنة (عسكريا، واقتصاديا، وعلميا وتكنولوجيا..)، وإعادة تشكيل النظام الدولي وفقا للمصالح الأميركية. وهي بشكل عام إستراتيجية تتميز ببراغماتية ومرونة عالية، وقدرة كبيرة على التكيف.

وضمن هذه الإستراتيجية، وبعيدا عن الاستغراق في تصنيفات ومدارس السياسة الخارجية الأميركية (انعزالية، وليبرالية، ومحافظة.. بدرجاتها وتداخلاتها المختلفة)، فثمة خطان رئيسيان يتنازعان هذه السياسة. الأول يعطي وزنا أكبر للأمن والقوة، ويعّد نفسه ممثلا لقيم الحرية، ويميل لفاعلية أكبر في التدخل المباشر في النزاعات الخارجية ولو باستخدام القوة العسكرية، لفرض النُظم والمنظومات التي يراها متناسبة مع قيمه ومصالحه، وبما يليق مع الولايات المتحدة كقوة أولى عالميا.

أما الاتجاه الثاني فيعطي وزنا أكبر “للقوة الناعمة” في التغيير، ويسعى لإصلاح النظام العالمي، ويركز على آليات التفاوض والاتفاقات، ويُسوِّق اهتمامه بالتنمية وحقوق الإنسان، ويعطي اعتبارا للقوى المحلية وثقافاتها، ولاحترام الخصوصية والتعددية. ولا يميل للتدخل العسكري إلا إذا تعرضت المصالح الأميركية العليا للخطر.

وعادة ما يتركز أتباع الاتجاه الأول في الحزب الجمهوري، وأتباع الاتجاه الثاني في الحزب الديموقراطي.

وعلى هذ، فإن هناك تقلُّبا بين هذين الاتجاهين، خاصة عندما يحصل الفشل لدى أي منهما.. ومثال ذلك حلول رونالد ريغان “القوي” مكان كارتر الذي يركز على القوة الناعمة.. وحلول أوباما الذي يركز على القوة الناعمة مكان بوش الابن الذي لجأ للقوة في أفغانستان والعراق.. غير أن هاتين الثنائيتين لا تخرجان عن الغاية النهائية في خدمة المصالح الأميركية العليا.

أما الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط فتتلخص في:
1- الحفاظ على “إسرائيل” وأمنها كقوة إقليمية عظمى، وباعتبارها حجر الزاوية في السياسة الأميركية في المنطقة.
2- الهيمنة على مناطق البترول لتأمين احتياجات أميركا وحلفائها، وكأداة ضغط في الإستراتيجية الدولية.

3- تأمين خطوط الملاحة والتجارة الدولية في المنطقة، بما في ذلك مضائق وممرات هرمز والسويس وباب المندب.
4- دعم النظم السياسية الموالية أو ذات العلاقة الجيدة معها.
5- ضبط وتحديد أدوار ونفوذ نظم المنطقة بما يخدم المصالح الأميركية، أو بما لا يتعارض معها على الأقل.

6- الاستفراد بالهيمنة على المنطقة ومنع أي قوة كبرى من المنافسة، إلا ضمن هامش لا يضر بالمصالح الأميركية الإستراتيجية (بما في ذلك روسيا).

مبررات احتلال العراق
بعد تولي بوش الابن الرئاسة الأميركية، حدثت نقلة نوعية في إستراتيجية التعاطي الأميركي مع المنطقة، فقام مدفوعا بمدرسة “الأمن والقوة”، ومحاطا بتيار المحافظين الجدد المهيمن على السياسة الخارجية، ومستغلا بطريقة فجة الأوضاع الناتجة عن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 ليطبق أجندات خاصة، ليس لها أي علاقة بالأحداث ذاتها. وكان احتلال العراق أكبر مثال على ذلك.

الحجتان الرئيسيتان اللتان سعت الإدارة الأميركية لتسويقهما لتبرير احتلال العراق كانتا:
1- حيازة العراق لأسلحة دمار شامل، أو على الأقل قيامه ببرنامج لحيازة هذه الأسلحة بما يخالف التزاماته الدولية، وبما يشكل تهديدا لدول المنطقة.

2- دعم النظام العراقي للإرهاب، وإيواء الإرهابيين.
في 6/7/2016، أعلنت نتائج تقرير جون تشيلكوت الخاص بالمسؤولية عن مشاركة بريطانيا في غزو العراق، والذي يؤكد على كذب الأسباب المعلنة لاحتلال العراق، وأنها واهية أو منعدمة. فكما كانت الشكوك تحوم ابتداء حول حقيقة النوايا الأميركية، فقد ثبت قطعا كذب الادعاءات الأميركية بشأن وجود أسلحة دمار شامل في العراق.

أما حكاية دعم الإرهاب فقد كان واضحا أنها مجرد فقاعة إعلامية؛ فالنظام العراقي لم يكن فيه أحد من تنظيمات القاعدة أو ما شابهها، وكان أحد أنجح الأنظمة في قمع تيارات “الإسلام السياسي”.. ولم يخرج منه شخص واحد ليشارك في هجمات 11 سبتمبر، أو في الاعتداء على المصالح الغربية. إذن، فالسؤال ببساطة إذا كان هذان السببان غير صحيحين، فلماذا قامت أميركا باحتلالها للعراق؟

تهاوي المبرر الاقتصادي
اتجهت معظم التحليلات التي رفضت المبررات الأميركية للاحتلال إلى أن الجانب الاقتصادي المتمثل في السيطرة على ثروات العراق وخصوصا النفط ونهب خيراته، هو السبب الحقيقي للاحتلال.. وما تزال هذه المدرسة هي الأكثر رواجا حتى أيامنا هذه.

غير أن قراءة متأنية لتكاليف الحرب الأميركية على العراق تكشف أن النفقات والخسائر المالية الأميركية كانت أكبر بكثير من حصول الأميركيين على النفط العراقي ولو بأسعار تفضيلية أو شبه مجانية؛ ومع ذلك فالإدارة الأميركية لم تنهب نفط العراق، كما لم تهبط أسعار النفط أثناء احتلال الأميركيين للعراق.

من جهة أخرى، فقد اعترفت وزارة الدفاع الأميركية أن نفقاتها المباشرة على الحرب في الفترة 2003-2010 بلغت نحو 758 مليار دولار. أما الدراسة التي أعدها معهد واتسون للدراسات الدولية في جامعة براون (وهي جامعة أميركية) فقد أظهرت أن تكاليف الحرب للفترة نفسها تزيد عن 1100 مليار دولار، أي بما معدله ملياران و640 مليون دولار أسبوعيا. وأشارت وحدة البحوث في الكونغرس الأميركي إلى أن تكاليف الحرب على العراق ستصل إلى نحو تريليون و700 مليار دولار في سنة 2017، بما في ذلك جوانب الرعاية الصحية للجرحى والمصابين من الجنود الأميركيين وفوائد القروض.. وغيرها.

الحصول على النفط العراقي بأسعار تفضيلية، وعقود إعادة الإعمار في العراق، وحتى دفع دول المنطقة لشراء الأسلحة الأميركية، وربما ساعدت في خدمة الاقتصاد الأميركي.. ولكنها ليست كافية لتبرير احتلال العراق، ودفع تلك الأثمان الهائلة.. فيما يبدو استثمارا خاسرا.

إذن، لا مكاسب اقتصادية من الحرب على العراق، بل تكاليف هائلة أسهمت بشكل أو بآخر في الإضرار بالاقتصاد الأميركي، وصرفت الناخب الأميركي لاختيار المرشح الديموقراطي أوباما.

أبعاد وخلفيات دينية وثقافية
ما هو أقرب للصحة أن الخلفية الدينية والثقافية للمحافظين الجدد الذين أحاطوا بالرئيس بوش الابن، والرغبة في الاستفادة من البيئة العالمية المعادية لـ”الإرهاب” والتي نشأت وجرى تعزيزها بعد أحداث 11 سبتمبر، قد دفعت صانع القرار الأميركي لتبني رؤى إعادة تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية، بما يسهل مزيدا من الهيمنة الأميركية عليها، وبما يخدم الكيان الإسرائيلي. وللعلم، فقد كان المؤرخ اليهودي الصهيوني المشهور برنارد لويس، والذي كان له تأثير مهم على مدرسة المحافظين الجدد، وعلى الرئيس جورج بوش الابن نفسه، من أبرز من دعا إلى تفتيت العالم العربي، معترضا على أخطاء سايكس بيكو التي لم تراع الأسس الطائفية والعرقية.

وقد بنى الكاتب الأميركي رالف بيترز على دراسات لويس ودعا إلى تقسيم الشرق الأوسط في مقاله “حدود الدم”، التي نشرها في مجلة الجيش الأميركي في يونيو/حزيران 2006. ولذلك كانت ثمة رغبة في ضرب العراق وتفتيته داخليا، بغض النظر عن أي مبررات حقيقية أو مسوغات تمس الأمن القومي الأميركي.

معالم السلوك الأميركي المعاصر
بعد أن تبنى الرئيس كلينتون سياسة إضعاف العراق وإنهاكه بالحصار والعقوبات، فقد دشن الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003 في عهد بوش الابن مرحلة جديدة في الانغماس الأميركي المباشر في إعادة تشكيل أو تطويع النظم السياسية في المنطقة، ثم جاء أوباما ليتابع خط كلينتون في الإضعاف بالوسائل الناعمة. غير أن السلوك الأميركي ظل يسير ضمن عدد من المحددات والمعالم أبرزها:

1- إضعاف أنظمة المنطقة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، بحيث يسهل إخضاعها، ولا تشكل أي خطر على الكيان الإسرائيلي وعلى المصالح الأميركية.

2- لم يكن المطلوب بالضرورة رسم حدود سياسية جديدة، ولكن تأجيج الصراع الطائفي والعرقي بشكل يمزق النسيج الاجتماعي؛ داخل الدولة الواحدة، وبما يرفع جدران الحقد والكراهية بين الناس.

3- إيجاد بيئات لتزايد الحساسيات والعداوات الإقليمية بين دول وشعوب المنطقة، على أسس طائفية ومذهبية وعرقية (سنة وشيعة، عرب وفرس وأتراك وأكراد..) بحيث تُستهلك في عداوات كهذه، بعيدا عن العدو المشترك “إسرائيل”.

4- قطع الطريق على أي مشروع نهضوي وحدوي في المنطقة، يمكن أن يمثل تهديدا للمصالح الأميركية أو للكيان الإسرائيلي.

ولم يكن هذا السلوك الأميركي ليجد لنفسه سوقا، لولا أن الأنظمة الفاسدة والمستبدة والقمعية في المنطقة فشلت في مشاريعها النهضوية والوحدوية، كما فشلت في بناء الدولة القطرية الحديثة، وفي تقوية البنى الاجتماعية وتنمية الشعور بالمواطنة والولاء لدى شعوبها، بعيدا عن العصبيات الدينية والعرقية.

السلوك الأميركي كان معنيا بإيجاد البيئات المناسبة لتصاعد التوتر الطائفي والعرقي، دون أن يقوم بدور فظ مباشر في هذا الإطار، لأن ذلك قد يفسد عليه خطته، وسيوجه أسهم الاتهام إليه. كان عليه فقط أن “يكشف الغطاء عن الطنجرة”، ليجد ما يكفي من تيارات واتجاهات وقوى في الساحة العراقية مستعدة لصبِّ الزيت على النار الطائفية والعرقية.

ومن أمثلة الإجراءات والسياسات التي اتبعها الأميركيون:
1- القيام بحل الجيش العراقي بطريقة كيفية؛ والسماح بإنشاء جيش جديد هيمنت على الكثير من مفاصله قوى طائفية.

2- توفير الغطاء للأكراد في شمال العراق لتعزيز حكمهم الذاتي، وتكريس البنى التحتية للابتعاد عن الدولة المركزية والانفصال.

– السكوت عن تشكيل مليشيات عسكرية طائفية، مارست التحريض، وكانت جزءا أساسيا من صراعات دموية طائفية تحت سمع الأميركيين وبصرهم.

4- ترك مظاهر الفساد الإداري والمالي والسياسي تتفشى في كل مفاصل الدولة، وتكريس المحاصصات الطائفية والعرقية في البنى التحتية.. وإغماض العين عن سرقة جهات وشخصيات عراقية متنفذة للمليارات من ثروات العراق وشعبها. فحسب عادل عبد المهدي، وزير النفط العراقي السابق، فإن الفساد أفقد البلاد 450 مليار دولار منذ 2003 وحتى 2015.

كما أن الناطق باسم هيئة النزاهة في العراق عادل نوري أبلغ البرلمان العراقي عن اختفاء نحو 500 مليار دولار من الخزينة العراقية خلال فترة حكم المالكي 2006-2014. أما رئيس هيئة النزاهة الأسبق رحيم العكيلي فقد قال إنه قد تمّ عمل 6 آلاف عقد وهمي بـ 227 مليار دولار.. كل ذلك وضع العراق خلال “العهد الأميركي” ضمن قائمة أكثر الدول فسادا في العالم، وضمن آخر خمسة دول في العالم في مؤشر الشفافية.

5- السياسة الأميركية والغربية التي بنت وكرست خطابا إعلاميا يتحدث بشكل متواصل وبكافة الوسائل المؤثرة عن الجنوب الشيعي والوسط السني والشمال الكردي.. بحيث أصبح ذلك أمرا عاديا منطبعا في الوعي واللاوعي العراقي والعربي والدولي.

6- هناك علامات استفهام حقيقية عن ترعرع الظواهر المتطرفة وانتشارها تحت الاحتلال الأميركي.. وتزايد أعداد المنتمين إلى الجماعات بالآلاف بعد أن لم يكن لهم وجود تحت حكم صدام حسين. أي أن نمو قوى “التطرف” حدث فعلا تحت الاحتلال الأميركي؛ ليس بالضرورة لأن أميركا هي التي تصنعهم، وإنما لأن الاحتلال نفسه يؤجج المشاعر ضدها بكافة الأشكال المنضبطة وغير المنضبطة. وقس على ذلك ظاهرة صعود داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، والتراخي النسبي في التعامل معها.

7- التقصير المتعمد أو غير المبرر في حماية التراث والآثار والتاريخ العراقي والهوية الوطنية العراقية، بما في ذلك السكوت عن نهب المتحف الوطني.

لقد تسبب الاحتلال الأميركي وسياساته خلال عشر سنوات في مقتل نحو 134 ألف مدني، وربما تسبب بوفاة أربعة أضعاف هذا العدد (بحسب تقديرات “معتدلة” لجامعة براون)؛ بالإضافة إلى ملايين المهجَّرين، والأهم من ذلك ارتفاع جدران الدم بين مكونات المجتمع العراقي.
نواصل الحديث في مقال قادم حول السياسة الأميركية في سوريا.

محسن صالح

الجزيرة