العراق: لا ديموقراطية من دون دولة مستقرة

العراق: لا ديموقراطية من دون دولة مستقرة

العراق

أول شرط من شروط رسوخ الديموقراطية هو وجود دولة متماسكة وألا يكون فيها شريحة كبيرة من السكان تشعر بالانتماء إلى دولة أو ثقافة أخرى غير تلك السائدة فيها، خصوصاً إن كانت تسعى للانفصال عن تلك الدولة. الديموقراطية بحاجة إلى دولة، فإن كانت دولنا مهلهلة ومجتمعاتنا منقسمة وتعصف بها رياح التعصب التاريخي والديني، فعلينا أن نبحث عن سبل بناء الدولة أولاً وأن نبلور هوية وطنية مشتركة قبل التفكير بإقامة نظام ديموقراطي، لأن الأخير لن ينجح إلا بتوافر الشرط أعلاه. وليس صدفة أن حوالى ثلثي سكان العالم لا يعيشون في ظل نظام ديموقراطي حتى مع وجود إجماع على أهمية الديموقراطية.

الديموقراطية الإسبانية لم تترسخ إلا بعد أن تمكنت الأحزاب السياسية من ترسيخ الدولة وحل مشكلتي الباسك وكاتالونيا، وسويسرا لم تستقر إلا بعد أن انقسمت إلى كانتونات جغرافية ثم تمكنت بمرور الزمن من تطوير هوية وطنية جامعة عبر إقامة دولة القانون التي أشعرت المواطنين المختلفين عرقياً وثقافياً بأنهم متساوون. بلجيكا هي الأخرى لم تستقر إلا بعد أن حلت المشكلة القومية لسكانها الفلاميين عندما أقامت دولة لكل البلجيكيين. الدول المتماسكة عرقياً ودينياً قليلة في العالم، وقد تكون فرنسا إحدى هذه الدول، لكنها مع ذلك لم تستقر إلا بعد أن بذل سياسيوها جهوداً كبيرة لدعم التماسك الوطني وبرز فيها زعيم بمواصفات استثنائية، وهو شارل ديغول، الذي أرسى دعائم استقرارها، وهي ميزة غير متوافرة في العراق وربما لن تتوافر مستقبلاً.

لو نظرنا إلى ما يجري في العراق، فإننا نرى أنه لا يتجه نحو ترسيخ النظام الديموقراطي. وإن تفهمنا سبب الانقسامات السياسية والإثنية والطائفية، فإن عسكرة المجتمع ستبقى عقبة في طريق استقرار الدولة. المشكلة الأكثر تعقيداً سوف تبرز بعد القضاء على داعش، خصوصاً مع شحة موارد الدولة وعدم تمكنها من تطوير بديل للنفط، ووجود عدد كبير من المليشيات التي انتعشت بعد سيطرة داعش على مساحات من العراق. كان تشكيل تلك المليشيات سهلاً مع وجود المبرر، وهو صد الخطر الإرهابي، وعدم قدرة الجيش على ذلك، لكن تفكيكها لن يكون سهلاً إن لم تتضافر الجهود السياسية والدينية لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 10 حزيران 2014.

موقف إقليم كردستان سيبقى عائقاً أمام تماسك الدولة العراقية، خصوصاً مع تصميم الكرد على إعلان الدولة في أول فرصة سانحة. لذلك يجب أن يكون حل المشكلة الكردية في أعلى سلم الأولويات بعد دحر داعش. لكن حلها لن يكون سهلاً وإن أراد العراقيون ذلك، بمن فيهم الأكراد، فالتوازنات الدولية والإقليمية قد تمنع قيام الدولة الكردية، ما يعني استمرار ضعف الدولة.

المشكلة الأخرى هي الانقسام الطائفي العربي. وعلى رغم تراجع الاحتقان وتحسن الأجواء بين الطائفتين منذ تولي العبادي السلطة حتى الآن، وهذه تحسب لأسلوبه التصالحي في الحكم، فإن استمرار الجماعات الإرهابية في استهداف المدنيين الشيعة سيخلق أجواء غير ودية بين الطائفتين مع معرفة الناس جميعاً بالأهداف الكامنة وراء هذا الاستهداف. الجرح الذي خلفته محرقة الكرادة عشية العيد والتي راح ضحيتها أكثر من ثلاثمئة شاب وشابة، ما زال نازفاً، لكن تلك المحرقة البشعة قد جمعت العراقيين واستقطبت تعاطف الناس معهم وأثارت سخط جماهير السنة تحديداً ما زاد من التماسك الوطني، وهذا سيعجل في نهاية الجماعات الإرهابية. لكن المشكلة الطائفية تحتاج إلى معالجات جذرية، إجرائية ودينية وسياسية واجتماعية.

المعالجات الإجرائية تتعلق بواجب السلطات بعدم السماح بتعطيل الحياة لبقية العراقيين في المناسبات الشيعية الكثيرة، كما يحصل منذ 2003 حتى الآن. إغلاق الشوارع وتعطيل الدوام ونصب الخيم في الشوارع التجارية وإغلاق خطوط المواصلات العامة وإطلاق مكبرات الصوت ليل نهار في الشوارع والأحياء السكنية وإغلاق الحدائق والمتنزهات والنوادي وأماكن الترفيه والتضييق على الشباب وتعطيل الحياة بشكل عام يزيد سخط الناس ضد المتسببين بها وهذا يؤجج العداء والفرقة بين المواطنين ويجعل من الحياة شبه مستحيلة. الحرية يجب أن تكون لجميع شرائح المجتمع، وليس لشريحة واحدة، وهي لا تعني التعدي على حقوق وحريات الآخرين، فحرية الفرد أو الجماعة تتوقف عند حدود حرية الآخرين، لذلك يجب ألا تتعطل حياة الناس غير المعنيين بالطقوس والشعائر الشيعية كي لا تتطور لديهم مشاعر معادية للآخرين. وظيفة الدولة هي حماية مصالح وحريات المواطنين جميعاً وليس شريحة واحدة منهم.

المعالجات الدينية هي أن تتصدى المرجعيات الدينية المؤثرة لكل المتطرفين والمتاجرين بالدين والمتجاوزين على الآخرين وأن توضح للمؤمنين المعايير الأخلاقية والضوابط الدينية للسلوك الاجتماعي وضرورة عدم التجاوز على حريات الناس، لأن ذلك سيؤجج العداء بينهم وهذا لا يساعد على خلق الوئام الاجتماعي المطلوب لترسيخ دعائم الدولة والاستقرار الاقتصادي والسياسي. أما المعالجات السياسية فتحتم على الأحزاب أن تلفظ من صفوفها كل من يسعى إلى الاستفادة سياسياً من إثارة التفرقة الطائفية والعنصرية. يجب أن يرتقي الخطاب السياسي إلى مستوى بناء الدولة وإلا فإن الحرية السياسية المكتسبة حديثاً لن تدوم طويلاً إن لم يتحقق الاستقرار والوئام.

المعالجة الاجتماعية تتطلب أن تنشط منظمات المجتمع المدني في المجالات التي أهملتها الحكومة، وخصوصا توعية المجتمع حول قضايا الأمن والصحة والتعليم والبيئة وحقوق الإنسان ووضع المرأة في المجتمع. هناك دور مهم للدولة وهو دعم منظمات المجتمع المدني الفاعلة كي تتمكن من الاضطلاع بدورها في توعية الناس وحثهم على الانخراط في خدمة الصالح العام وليس الانكفاء على المصالح الخاصة فقط، فالمجتمع يحتاج لأن يتكامل مع الدولة من أجل خدمة أعضائه في الحقول التي تعجز الدولة عن رعايتها. قد يجد البعض مفاضلة بين الأولويات، ولكن كل المسائل أعلاه مهمة، ولا تتطلب معالجة مشكلة ما أن نتوقف عن العمل لحل الأخرى. هناك نزعة عامة في المجتمع وهي أن على الدولة أن تضطلع في كل شيء لكن على طلائع المجتمع أن تبادر للعمل من أجل استقرار الدولة وتماسكها لأن هذا هو أساس قيام نظام ديموقراطي يخدم الجميع.

حميد الكفائي

صحيفة الحياة اللندنية