هل تريد واشنطن أدلةً على تورّطها؟

هل تريد واشنطن أدلةً على تورّطها؟

الجيش-التركي-يعلن-تولي-السلطة-على-البلاد-ا-ف-ب-1

لم يكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يتوقع أن يكون نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، الشخصية السياسية الثانية بعد أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، التي تتصل به، لتعلن تضامنها مع تركيا في الساعات الأولى من عملية الانقلاب الفاشلة، كما قال، لكنه قال أيضا إن المواقف الغربية هي التي خيبت أمله، “ليس فقط بعدم الاتصال والتضامن معنا، بل بالمسارعة إلى تحريك أدواتها، وكأنها كانت تريد حدوث شيء آخر في تركيا”.
قد تكون حيادية بعضهم مقبولة، وكذلك فرحة آخرين، بسبب قطيعتهم مع تركيا، لكن خيبة الأمل كانت أميركية، وهي سرعان ما تحولت إلى صدمة ونقمة في تركيا، بسبب أكثر من موقف وتصريح أميركيين، ومعلومات تتناقلها وسائل الإعلام التركية عن تورط أميركي مباشر في المحاولة الانقلابية التي شهدتها البلاد منتصف الشهر الماضي.
توجهت أصابع الاتهام في محاولة الانقلاب الفاشل نحو تنظيم جماعة فتح الله غولن، لكن أصواتاً تركية كثيرة ترى أن الطرف الثاني في معادلة الانقلاب هو الولايات المتحدة الأميركية التي صمتت ليلة الانقلاب، لكنها عندما تأكّدت من فشله، بدأت تدعو إلى التعقل والروية واحترام الديمقراطية والشفافية في التعامل مع الانقلابيين.

مشكلة الأتراك مع واشنطن اليوم ليست في دفاعها المستميت عن غولن، وقيادات تنظيمه، بل تحركها للدخول في مواجهةٍ مباشرةٍ مع أنقرة، مهما كان ثمنها للذود عن الجماعة، حتى لو كان الثمن التقارير والمعلومات الأمنية والاستخباراتية التي تتناقلها وسائل الإعلام التركي عن تورّط أجهزة المخابرات الأميركية، بشكل مباشر، في الإعداد والتخطيط والتنفيذ وحماية الكيان الموازي داخل تركيا وخارجها، الأمر الذي أظهر، وبكل وضوح، عمق العلاقة بين الطرفين.
ـ ردة فعل وزير الخارجية، جون كيري، بعد يومين على المحاولة الانقلابية الفاشلة. يحض أنقرة على الحفاظ على الهدوء والاستقرار، وعلى احترام أعلى معايير الديمقراطية.
ـ تعليقات قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال جوزيف فوتيل، الذي يعرفه الأتراك جيدا من خلال زياراته إلى شمال سورية ولقاءاته بالقيادات الكردية هناك، وتصريحات رئيس الاستخبارات الأميركية، جيمس كلابر اللذين انتقدا حملة الاعتقالات التي قد تضعف استراتيجية الحرب ضد “داعش”، ما حدا أردوغان إلى الرد، بقوله إن “تطهير قواتنا من الانقلابيين أزعج الجيش والاستخبارات الأميركية. ينبري أحد الجنرالات أو الأميرالات في أميركا، وبالتزامن مع ما يجري (في تركيا) ليقول “شخصيات من مستويات عليا في القيادة، كنّا نتواصل معهم، باتوا خلف قضبان السجون”، على الإنسان أن يخجل قليلاً، عليك أن تقدّم الشكر باسم الديمقراطية، لهذه الدولة التي تمكّنت من دحر الانقلابيين، عوضاً عن الاصطفاف بجانبهم، لا سيما أن متزعم الانقلاب مقيمٌ في بلدك، ويتلقى الدعم منكم”. اللقاءات المعقودة بين ضباط أميركيين وأتراك قبل ثلاثة أشهر من المحاولة الانقلابية في قاعدة أنجرليك الجوية، باعترافات الجنرال بكير أرجان، أحد رموز الانقلاب الفاشل.
– تزويد المقاتلات التي استخدمها الانقلابيون خلال المحاولة بالوقود أكثر من 20 مرة، بواسطة ثلاث طائرات تزويد “جواً” انطلقت من قاعدة إنجرليك في جنوب تركيا، وهو ما لا يمكن أن يغفل عن القيادات العسكرية الأميركية الموجودة في إحدى أهم القواعد العسكرية التركية. نظم مئات من الأتراك أكثر من تظاهرة قرب قاعدة إنجرليك التي تستخدمها قوات التحالف لقصف مواقع “داعش”، وهتفوا من هناك “لتسقط أميركا”، وأحرق بعضهم العلم الأميركي.
– اختفاء الأستاذ المساعد في جامعة صقاريا التركية، عادل أوكسوز، الذي أوقف داخل قاعدة أكينجي الجوية في العاصمة أنقرة، مركز العمليات الحربية في المحاولة، بعد عملية استجواب سريعة معه، قال فيها إنه جاء يشتري قطعة أرض قريبة من الثكنة، ليثبت لاحقا أنه إمام الجماعة المدني داخل سلاح الجو التركي، وإنه عاد قبل يومين من المحاولة من أميركا التي زارها مرتين في الشهرين الأخيرين.
– توصيات غراهام فولر رجل المخابرات الأميركية، المعروف بدعوته إلى منح غولن بطاقة الإقامة الخضراء، في تقاريره التي رفعها إلى مسؤوليه، بسبب الحاجة إلى شخصية من هذا النوع، والخدمات التي قد يقدمها للإدارة الأميركية. على الرغم من فشل الجماعة في أكثر من تحرّك ضد الحكومة في العامين الماضيين.
– تساؤلات في الإعلام التركي بشأن المصادفة التي أوجدت رجل المخابرات الأميركية، هنري باركي، في جزيرة الأميرات المطلة على ساحل اسطنبول، قبل الانقلاب بيومين، ورحيله بعد يومين على المحاولة الانقلابية الفاشلة، والحديث عن اجتماعاتٍ سريةٍ، عقدها هناك في فندقٍ بلا كاميرات مراقبة.
– اتهامات توردها صحيفة يني شفق، التركية المقربة من الحكومة، أن تمويل المحاولة الانقلابية الفاشلة تم من خلال جهاز المخابرات الأميركية (سي آي إيه) عن طريق بنك “يو بي إيه” في نيجيريا، حيث تشير الصحيفة إلى أنه تم توزيع ما قيمته ملياري دولار أميركي على قادة الانقلاب في تركيا.
– اعتراف قائد كتيبة الصيانة في فوج طيران القوات البرية، المقدم مراد بولات، الذي شارك مع الانقلابيين في المحاولة، بأنه في حال فشل الانقلابيين في تحديد موقع أردوغان ومكانه في ليلة الانقلاب، فإن الأميركان كانوا سيساعدونهم في هذا الخصوص، حيث كانوا سيقدمون لهم معلومات دقيقة عن مكان وإحداثيات وجوده.
– شيفرة الدولارات الأميركية التي تحدثت عن عثور الشرطة التركية على أوراق نقدية من فئة دولار، ذكرت التحقيقات مع المتهمين أنها أوراق تُليت عليها أدعية، ووزّعت على متهمين بالتورط في المحاولة الانقلابية، موضحة أن الدولار يستخدم بين الانقلابيين شيفرة. لماذا الدولار الأميركي، وليس الليرة السورية أو الجنيه الإسترليني أو اليورو الأوروبي مثلاً؟
– التحقيقات الأولية مع ضباط في سلاح الجو التركي، أقروا بارتباطهم بالجماعة، وبأنهم شاركوا في عملية إسقاط المقاتلة الروسية، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بقرارٍ منفرد، من دون العودة إلى قياداتهم في مسألة حسّاسة من هذا النوع، وإسقاط المقاتلة التي كانت تستعد لمغادرة الأجواء التركية، وهم يعرفون أنها لم تكن تحمل أسلحة هجومية. هل لواشنطن مصلحة في توتر تركي – روسي من هذا النوع؟
قالها رئيس الحكومة التركية، بنعلي يلدريم، بوضوح، إنه إذا لم تسلم أميركا فتح الله غولن إلى بلاده، سوف تعتبر دولة معادية. وواشنطن تقول إنها مستعدة لتسليمه، في حال وجود أدلة قوية على ارتباطه بالمحاولة الانقلابية. لكن التصور الأقرب أن العلاقات التركية الأميركية المتوترة أصلاً، دخلت في مأزق الشك والتراجع المفتوح على أكثر من احتمال.
وأن واشنطن إذا لم تتحرك سريعا في مناورةٍ سياسيةٍ ودبلوماسيةٍ جديدة حيال تركيا، فهي ستدفعها أكثر فأكثر نحو روسيا التي تستعد لاستقبال أردوغان في التاسع من شهر أغسطس/ آب الحالي، وسط أنباء تقول إن روسيا قد تكون زودت أنقرة معلوماتٍ، حصلت عليها عن الانقلاب، قبل وقوعه بساعات.

سينقل رئيس هيئة الأركان الأميركية، الجنرال جوزيف دانفورد، في زيارته تركيا، للتباحث في أكثر من ملف أمني واستراتيجي ثنائي، وجهة نظر الأتراك في ملفات أساسية أدت إلى التباعد التركي الأميركي، وفي مقدمتها القراءات المتضاربة في الملف السوري، وتمسك واشنطن بورقة حزب الاتحاد الديمقراطي، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، وتجيير التوتر التركي الروسي لصالحها، متخلية عن تركيا بمفردها في قلب المواجهة، لكنه سيستمع أيضاً إلى مطالب الأتراك في مسألة جماعة الكيان الموازي، وبينها استرداد فتح الله غولن، وتصفية نفوذ جماعته في المدن الأميركية، والاعتذار رسمياً لتركيا على ما سببته واشنطن من أضرار، بسبب ملف غولن، والتعهد بعدم دعم الانقلابيين بعد الآن، وهي شروط في غاية البساطة، ستقبل بها الإدارة الأميركية على الفور، لحماية علاقاتها بأردوغان، رجل تركيا القوي في هذه المرحلة.
المؤكد أن الاستقلالية السياسية والإنمائية لتركيا، منذ قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، والتباعد الأميركي التركي في التعامل مع أكثر من ملف ثنائي وإقليمي، هما ما أغضبا البيت الأبيض، لكن هذا التباعد لم يكن ليصل، كما يرى كتاب ومفكّرون أتراك عديدون، إلى نقطة العمل باتجاه التخلص من القيادة السياسية التركية، بفتح الطريق أمام هذه المحاولة الانقلابية.
رأى خبير مركز الأمن الأميركي، أيان غولدنبرغ، في الانقلاب مبرّراً لزيادة قبضة أردوغان على الحكم بشكل مطلق. وقال إن هذا التحول سيزيد الغموض في علاقة تركيا بالولايات المتحدة. من المستحيل أن تستمر علاقاتنا مع أميركا بهذه الشكوك، وأميركا أمام خيارين، أن تستمر في الدفاع عن غولن قائد المنظمة الإرهابية أو أن تزيله نهائيا. ستختار أميركا، وتركيا سوف تختار أيضاً.

سمير صالحة

صحيفة العربي الجديد