لعلّها القمة الأخيرة

لعلّها القمة الأخيرة

349_12

أخذ العرب قمتهم إلى موريتانيا. رفضها المغرب لأنه لا يريد خواءات لفظية أخرى. قبلتها نواكشوط المحرومة سمعة القمم، والتائقة إلى شهادة عروبية في جغرافيتها الافريقية. ثلاث دول من خارج الدائرة طلبت عضوية الجامعة، هي، وجزر القمر والصومال. كان ذلك في زمن السعد. لكن أول عرض جاءها من العراق: انقلاب عسكري يحمل المنّ والسلوى، فيما كان المطلوب قليلاً من فوائض النفط. العرض الثاني جاءها من اسرائيل: طبابة وجراحة، وهو العرض الذي تلقفه رفيقها في اريتريا أسياس أفورقي، بطل النضال العربي، الذي اختار من اللحظة الأولى للاستقلال، اجراء عملية في الدماغ في تل ابيب.

حكايات الطب والسياسة، مثل حكايات السياسة وكل شيء. بعد حرب عمّان بين الفلسطينيين والأردن بقليل، وقعت طائرة ياسر عرفات في الصحراء الليبية في عاصفة رملية عاتية. نجا الزعيم الفلسطيني ولكن بإصابة في الدماغ. ما هو أفضل مكان للعملية؟ ليس أوروبا حيث الشك المحتمل في مِشرط أو دواء. ليس ليبيا حيث كان الطبيب هو ايضاً الأخ العقيد. ليس في قاهرة انور السادات. المكان الأفضل هو مستشفى القوات المسلحة في عمّان التي كان الأخ أبو داود ينوي بالأمس اسقاطها، كما روى لاحقاً في مذكراته بالتفاصيل المتغطرسة.

بعد خروج أبو عمار من المستشفى معافى، بعث برسالة إلى صاحب الجلالة اخيه أبي عبدالله عاهل الأردن العزيز. رسالة طويلة استنسبت الإذاعة الأردنية بثها في مقدمات الأخبار تشديداً على العلاقات التاريخية، بالنص الحرفي.

“المشهد الطبي” الأكثر إثارة كان صورة الدكتور مايكل دبغي، أشهر جراح قلب أميركي، في مستشفى الكرملين، يرأس الفريق الذي اجرى العملية الجراحية لبوريس يلتسين، الرجل الذي أحب الفودكا والكسندر بوشكين. لم يهتم الكرملين لحظة بما يعنيه للعِلِم والعَلَم الروسي وريادة الفضاء، استدعاء جراح اميركي من تكساس ضماناً لسلامة القيصر. ولا توقفت دمشق طويلاً عند رمزيات الحكم في عنجر، عندما اضطرت إلى ارسال وزيري الخارجية فاروق الشرع ووليد المعلم إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت.

وصلت القمة العربية إلى موريتانيا بلا ملوك ورؤساء. تعب الجميع من الجلوس بعضهم في وجه البعض. وملّوا الخطب. والدول الثلاث التي كانت تعطي القمم الوانها، معها تقرير طبي مفتوح تبريراً للتغيب: سوريا والعراق وليبيا. لا أذكر على وجه الضبط عدد القمم التي حضرتها صحافياً، لكن تلك التي حضرتها كانت لها رتابة لا تتغير: الجدل العنيف بين زعيمي البعث، حافظ الأسد وصدام حسين. وعروض معمر القذافي.
كان في البداية يحضر في بزة عسكرية، تحمل قدر ما تسع من نياشين، تمثل المعارك والحروب والملاحم والوغى التي خاضها. وكان معه قلم “ديبون” صالح للزينة لا للكتابة، مثل الأوسمة. وكلما جاء دور الملك حسين للخطابة تظاهر الأخ العقيد بأنه يكتب بسرعة سيلاً من أفكاره كي لا يصغي إلى الخطيب. أما الخطيب، فكان يستكمل خطابه بآداب الملوك وبلاغة الهاشميين.

ما من قمة حضرها إلا وحاول تسخيفها بطريقة ما. بالبزة العسكرية أو باثواب أفريقيا. الأخيرة كانت في قطر حيث تطلع الى المشاركين وحذرهم من أن ادوارهم آتية في الخلع. تلك كانت المرة الوحيدة التي قال فيها شيئاً فيه معنى.

كانت القمم غالباً مناسبة سياسية فارغة وحدثاً صحافياً مسلياً. لذلك، كان يحضر الصحافيون العرب بكثرة ويغيب الصحافيون الأجانب الذين تعودوا المهنة جديّة. العام 1989 في الدار البيضاء، كان يُفترض أن تكون قمة لبنان. فبعد سلسلة من المفاوضات والمؤتمرات والوساطات والتنقلات، قيل إن البلد اقترب من الحل: حكومة واحدة ورئيس واحد وقائد جيش واحد ولا كونغو بعد اليوم. وبناء عليه يحضر المرشح الرئاسي ميشال عون ورئيس الوزراء سليم الحص. غابا معاً.

يومها كانت فلسطين تحضر القمة للمرة الأولى كدولة، فكتبت في “الشرق الأوسط”، التي لها طبعة يومية في المغرب، مقالاً عنوانه “حضرتْ فلسطين كدولة وغابت كقضية، وغاب لبنان كدولة وحضر كقضية”. وبعد الظهر التقينا الملك سلمان بن عبد العزيز في معرض “الرياض بين الأمس واليوم” فقال للصحافيين: “اليوم لا حديث في المؤتمر سوى مقالة الأخ”.

غير أن المقال أثار انقساماً ضمن الوفد الفلسطيني. منهم من اعتبره مسلياً، ومنهم، مثل مندوب الجبهة الشعبية، من اعتبره ساخراً. وأخيراً خرجت الفتوى كالعادة من أبو عمار، كما ابلغني مدير الإعلام ياسر عبد ربه، إذ قال: “حبكت مع الزلمي يا جماعة”.

الغلط مع زعماء الدول له حسابات جمّة. كانت الكويت حتى الاحتلال العراقي، تعاني بوضوح ممارسات النظام العراقي في ديارها. ومثلاً كان عدد “الديبلوماسيين” في سفارة العراق ثلاثة آلاف. ومن هؤلاء كان يأتي إلى “الانباء” حيث أعمل، إثنان كل يوم. واحد يحمل اخبار الحرب مع ايران قبل الظهر وواحد بعد الظهر. “مال” (صاحب) اخبار قبل الظهر، كان ظريفاً يزيد في “ظرفه” وسهولة اقناعه، مفعول الخمر المبكر. وكان يعرف، وكنت أعرف، ان الخبرين مفبركان فأقول له ضاحكاً: اختر واحداً للنشر، فيخلطهما، ويعدّ إلى العشرة، وهكذا.

كنت أعرف، كمدير للتحرير، ان ” فد عراقيين” في الأرشيف. وربما في الاعلانات. وربما في التوزيع. ذات يوم جاء الرئيس حافظ الأسد إلى الكويت في زيارة رسمية ليومين. وكان الاعلام العراقي يصر على تسميته “حافظ أسد” كأنما سر رؤساء الدول في أل التعريف. لكنها عبقريات الإعلام العربي، وخصوصاً الحزبي منه.

كتبت مقالاً افتتاحياً عن زيارة الأسد والعلاقة السورية – الكويتية. وصباح اليوم التالي جئت إلى المكتب وقرأت الصحيفة كالمعتاد وأذهلني أنه حيث يرد اسم حافظ الأسد يتحول إلى حافظ أسد. نحن أمام مشكلتين، الأولى أن ثمة يداً في قلب الجريدة تمتد إلى مقال مدير التحرير بعد ارساله إلى المطبعة، والثانية أن الرئيس الأسد في البلد وقد يقرأ ما كًتب عن الزيارة. ما العمل؟

بالنسبة إلى المشكلة الأولى، أدركت معنى قول معاوية إن ثلث العقل فطنة، وثلثيه تغافل. أما بالنسبة إلى الثانية، فرفعت السماعة واتصلت بالسفير السوري الدكتور عيسى درويش، الذي لم أكن قد تعرفت إليه بعد. قال السفير: “قرأ السيد الرئيس المقال هذا الصباح قبل الذهاب إلى المطار. ثم طلب مني أن اقرأه. وبعدها قال لي “لا يمكن صاحب هذا الكلام الودّي أن يسميني حافظ أسد. الجماعة مدوا ايدهم على المقال”.

استمر الصراع السوري – العراقي بين البعثين بحيث غطّى في حدته أحياناً على الصراع العربي – الاسرائيلي. وطبع بحدته كل قمة عربية منذ وصول البعثين إلى السلطة في شباط وآذار 1963، وحتى سقوط البعث في العراق. انعقدت القمة الأولى في الاسكندرية العام 1964 من أجل عدم تحويل روافد نهر الأردن، والآن تنشر “النهار” خبراً لم ينفه أحد، أن لبنان واسرائيل سوف يتقاسمان كلفة استخراج النفط والغاز وباقي ما يمكن تسييله.

حضر الجميع قمة الاسكندرية، ولم تكن موريتانيا والصومال وجزر القمر قد انضمت بعد. فاسعار النفط لم ترتفع إلا بعد حرب 1973. ومنذ انضمامها، اصابها الداء الانقلابي العربي بدل بركات الفوائض. اعتذرت من حكومة موريتانيا عن تلبية الدعوة إلى قمتها الأولى لأن بي شعوراً حزيناً أنها قمّتنا الأخيرة. كان يجب أن ندرك لدى سقوط الوحدة المصرية – السورية العام 1961 أننا شعوب من كهوف الماضي غير مؤهلة لحقائق المستقبل. الكارثة الثانية والافظع كانت في خروج مصر من الجامعة إلى كمب ديفيد. لم ندرك أن لا قيمة عربية من دون مصر، فأخذنا نحتفل بخروجها وندق لها على التنك ونكرر في الإذاعات المبتذلة قصيدة المتنبي العنصرية الجارحة عن كافور الاخشيدي لأنه رفض اقطاعه منصباً أو رزمة. حتى محمد حسنين هيكل انضم إلى اعراض التخلف فعيَّر السادات بلون بشرته.

تجمع الجهل على طرد مصر بدل محاولة استعادتها من خبث هنري كيسينجر. ونقلت الجامعة من ضفاف النيل إلى ضفة البحيرة الصناعية في تونس العاصمة. وانتقلت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادتها إلى حضن الحبيب بورقيبة الذي كانت قد أهدرت دمه، وأخذ رئيس الدائرة السياسية فاروق القدومي يكتب رسائل مديح للرئيس الحبيب، شبيهة برسالة ابو عمار إلى جلالة الأخ الحبيب أبي عبدالله في جبل عمان.

كل ذلك كان أفضل مما نحن فيه اليوم. قمة الدار البيضاء لا تزال تنتظر وصول الجنرال عون. وفلسطين لم تعد دولة ولا قضية. ولبنان لم يعد، كما قال شكسبير. وليم شكسبير.

سمير عطا الله

* نقلا عن “النهار”