الفساد السياسي في العراق وليد المحاصصة الطائفية وراعيها

الفساد السياسي في العراق وليد المحاصصة الطائفية وراعيها

_86665_60

الحديث عن “فساد النظام” ليس دقيقا في النموذج العراقي ، فالأصح هو وصف النظام السياسي برمته بأنه “نظام فساد”؛ ذلك أن “الفساد”، كثقافة ووعي سياسي، صار هو الأصل والقاعدة والمنطق المهيمن على العقل السياسي الجمعي ولم يعد مجرد حالة طارئة على النظام أو بناه السياسية والحكومية، وأكثر من ذلك باتت مؤسسات النظام أداة بيد مافيا الفساد.

ويذهب موسى فرج، رئيس هيئة النزاهة العراقية الأسبق، إلى أن الفساد السياسي هو الحاضنة لكل أنواع الفساد المالي والإداري، فهو يوفر لمرتكبيه الحماية من القانون ويمنع ملاحقتهم، ويغلف أفعالهم بتشريعات قانونية في إطار عملية “شرعنة الفساد”، كما يقوم بإفراغ الإجراءات والنصوص القانونية من مضامينها ويكبّل القضاء، ويغلّ أيدي الجهات المسؤولة عن مواجهة الفساد، ويقوّض استقلاليتها، ويجعلها خاضعة لسطوة الفاسدين، فتكون هي أيضا إحدى ضحايا الفساد.

ويقول فرج في كتابه “الفساد في العراق: خراب القدوة وفوضى الحكم” إن الفساد السياسي يعني استخدام الطبقة السياسية مقدرات البلاد المادية والبشرية والمعنوية وعلاقاتها الدولية كأدوات في الصراع على السلطة؛ إنه التعامل مع السلطة باعتبارها أداة لتحقيق النفوذ والثروة بصورة غير مشروعة وليست وسيلة لإدارة الشؤون العامة للمواطنين وتوفير متطلباتهم الحياتية وضرورات المعيشة.

ويرى أن للفساد في وجهه السياسي مفهوما مركبا؛ ثقافيا وقيميا، يشمل التعامل مع المنصب الرسمي كمغنم شخصي أو عائلي أو حزبي أو فئوي لا كوظيفة عامة يفترض في شاغلها التحلي بالكفاءة والنزاهة لخدمة المجتمع. ومن أوجه الفساد السياسي التحشيد المذهبي وإثارة النعرات الطائفية والعرقية واستثمار أوضاع التخلف الاجتماعي والهشاشة الاقتصادية لشرائح في المجتمعات المحلية، سعيا لتحقيق مكاسب سياسية وسلطوية عبر تزييف وعي المواطن بالاتجاه المضاد لمصالحه الحقيقية.

عواقب الفساد السياسي تتجلى في نسب الفقر والبطالة ونقص الخدمات الصحية والتعليمية وتدني نوعية الحياة

فساد تشريعي

يعزو الكاتب شيوع الفساد المشرعن إلى طبيعة النظام السياسي العراقي بعد 2003، والذي لم تتصدر أولوياته مسألة بناء حكم صالح يواجه المعضلات والأزمات الوطنية. وعوضا عن ذلك بات هاجس أطراف النظام الاستحواذ على أكبر قدر من بساط الحكم بما يعنيه من انتفاع مالي وهيمنة على المجتمع، عبر استخدام المال العام ومصدره الريعي النفطي الذي يدار من قبل النخبة الحاكمة.

ومن أشكال الفساد السياسي التي يستعرضها الكتاب “الفساد التشريعي”، وهو تصميم القوانين لتلبية رغبات الاستئثار بالسلطة، وما يتصل بها من نفوذ وثروة، أو تقاسمها مكوناتيا على حساب المصلحة الوطنية الجامعة، أو تهميش الخصوم أو تكريس المحاصصة الطائفية.

وباتت الأزمة العراقية في ظل توحش الفساد السياسي الطائفي حالة مستعصية ومتحجرة، تحتاج إلى جهود قوى الاعتدال والتنوير لزحزحتها وتفكيكها، فهي اليوم كتلة صماء مركبة من خليط معقد من التزمت والتخلف والعصبية والجهل بحيث باتت وباءً متوطنا في المجتمع، لأن ممارسات الفاسدين يدعمها توظيف كل موارد البلاد وإمكاناتها في مشروع الفساد.

من خلال ما يقدمه موسى فرج في كتابه من أطروحات في تحليل ظاهرة الفساد يمكن أن نقارب العلاقة الوثيقة بين الفساد والأدلجة الطاغية، فالحكومات العقائدية ذات الشعارات الثوروية والحماسة المذهبية قد تكون الأكثر تورطا في الفساد؛ لأنها تفتح باب العطايا والهبات على أساس أيديولوجي تحشيدي طائفي في الداخل والخارج. كما تكون الأحزاب الحاكمة بحاجة إلى تخصيص أموال طائلة لشراء الولاءات.

إن الإغراق الأيديولوجي ينتج حالة من التعالي على القانون والمؤسسات والالتزامات البيروقراطية؛ ما يفرز حالة دائمة من الاحتيال على القوانين لتحقيق أهداف العقيدة السياسية للحزب الحاكم أو مصالح من يعتنق هذه العقيدة. وبالتالي يدخل المجتمع حالة من اللاقانون والسيولة المؤسسية وغياب الرقابة والمساءلة.

وثمة علاقة بين الفساد والعنف، إذ تشير دراسات إلى أن تعرّض الأفراد للعنف، أو معايشتهم له، قد يتسبب في انسياقهم إلى منزلقات سلوكية تتعارض مع النزاهة والأمانة لما يولّده العنف في المجتمع من انهيار قيمي.

بين الإفساد والإصلاح

يشير موسى فرج إلى تقاعس الحكومات المتعاقبة عن أداء دورها في استرداد الأموال العراقية المنهوبة. والواقع، باعتقادي، أنها لا تستطيع استعادة الأموال لأنها تفتقر إلى الشرعية السياسية والأدبية اللازمة لذلك، فهي متورطة في الفساد وقائمة عليه ومنبثقة عنه، ما يعني أن فتحها لملف الفساد هو بمثابة تقويض للشرعية التي تستند إليها ونقض للصفقة المحاصصاتية التي أنتجتها. كما لا تقدر الحكومات على خطوة استرجاع الأموال المسروقة لأنها تعاني من العجز السياسي الناتج عن انعدام الإرادة الوطنية والعزم الأخلاقي، فهي عاجزة عن إغلاق صنبور الفساد، وعن محاسبة الفاسدين السابقين أو استرجاع الأموال التي استولوا عليها، ويرجع ذلك إلى أن هذه الحكومات جزء من البنية السياسية والمؤسستية للفساد، وهي أيضا جزء من سياق يحكمه الفساد السياسي الذي يرعى ويغذي الفساد المالي.

إن الحكومات التي تنتجها المحاصصة هي جزء من أزمة الفساد ولا يمكن أن تكون جزءا من الحل. كما أن تفكيك مافيات الفساد المالي يتطلب ابتداءً تفكيك سياقات وبنى الفساد السياسي المستحكمة. وهذا يحتاج إلى الكثير من الشجاعة والإقدام السياسي والصلابة الأخلاقية والرسوخ في الأرض الوطنية، وهي خصائص تفتقر إليها حكومات المحاصصة الطائفية. ووفقا لموسى فرج، لا يمكن القضاء على الفساد السياسي ومخرجاته من دون مشروع وطني إصلاحي متكامل، يعالج جوهر وبنية النظام السياسي نفسه والأصول التي قامت عليها العملية السياسية في العراق.

يستعرض موسى فرج الآثار الثقافية للفساد السياسي الذي تمارسه النخب الطائفية على المجتمع العراقي، فيشير إلى تكريس النزعة العدوانية الطافحة في الحياة الاجتماعية، والثقافة التصادمية، كانعكاسات سلوكية للصراع السياسي ذي الطبيعة الفاسدة على المجتمع، إضافة إلى ما تسببت فيه قوى الصراع من تزييف للوعي وتضليل إعلامي، واستلاب طائفي للجمهور يقوم على بث الكراهية والإيهام بخطر الآخر.

وتحرّضنا أفكار فرج على استنباط أن الفساد السياسي يمثّل اليوم ماكينة تخريب اجتماعي واغتيال عقول وقصف ضمائر، ويؤدي إلى نمط من الفساد الثقافي والتحلل القيمي، ويتسبب في إفساد الذوق الجمالي وتشويه الذائقة الأخلاقية، وتكبيل الضمير والحس الإنسانيَّيْن.

والاستنتاج النهائي الذي نخرج به من أطروحة موسى فرج في كتابه هو أن مكافحة كل أشكال الفساد وكبح جماح الإرهاب لا يمكن أن يتمّا إلا عبر تجفيف منابع الطائفية، وإنجاز مصالحة حقيقية، واستعادة المواطنية كهوية جامعة وشاملة واندماجية لكل العراقيين.

همام طه

صحيفة العرب اللندنية