المليشيات المسلحة واستقرار العراق

المليشيات المسلحة واستقرار العراق

 ميلشيات ـ العراق

نشأت معظم المليشيات الشيعية، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان/إبريل عام 2003م. وتتلقى هذه المليشيات دعماً عسكريا وماليا من الحكومة العراقية والنظام الإيراني. عملت هذه المليشيات تحت أغطية مختلفة، لكنها ظلت غير بعيدة عن معرفة السلطات السياسية والأمنية ومتداخلة معها، واكتسبت تلك المليشيات المزيد من القوة والسلطة لاسيما بعد بروز تنظيم داعش في المشهد الأمني والعسكري والسياسي العراقي في حزيران/يونيو عام 2014م، بعد الفتوى الشهيرة من المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني بضرورة حمل السلاح لمقاتلة التنظيم. وشكلت فصائل شيعية في ذلك التاريخ إطارا تنظيميا باسم الحشد الشعبي لمحاربة داعش، إذ ساهمت مليشياته في وقف زحفه على العاصمة بغداد عندما اجتاح شمال وغرب البلاد في صيف 2014،

وقد أصبح هذا الحشد هو الغطاء القانوني لهذه المليشيات التي ازداد عددها منذ ذلك الوقت إلى أكثر من أربعين مليشيا. ولم يمنع قتالها ضد داعش من ارتكابها جرائم وتجاوزات وممارسات طائفية ممنهجة، في محافظات العراق “السنيّة” العربية خلال وبعد بدء عمليات تحرير المدن التي وقعت في قبضة تنظيم داعش بدءاً من مدينة تكريت في مارس/ آذار 2015 وحتى معركة الفلوجة في يوليو/ تموز 2016،.

وفي يونيو/حزيران 2015، قال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إن مليشيات الحشد الشعبي جزء من منظومة أمنية عراقية، ورفض وصمها بالطائفية، مؤكدا أن تمويلها يأتي من الحكومة. وتحول الحشد الشعبي إلى مليشيات نظامية ترعاها الحكومة العراقية وتدربها، لكنها بقيت تنظيمات مسلحة منفصلة لكل منها قياداته وهيكله التنظيمي الخاص. وظلت السلطات العراقية تدفع عن مليشيات الحشد الاتهامات المتواصلة بارتكاب جرائم حرب في مناطق مختلفة ضد السكان العرب السنة، وارتكاب انتهاكات في المناطق التي تستولي عليها من تنظيم داعش. إلى أن اعترف حيدر العبادي رئيس وزراء العراق بانتهاكات الحشد خلال تواجده في مؤتمر ميونيخ الذي عقد في شهر شباط/فبراير من العام الحالي، حيث قال “أعتقد أن هناك مجموعات أفرزها الحشد الشعبي وهي مجموعات خارج إطار الدولة وسيطرتها ونحن لن نسمح بذلك، ولن نسمح بوجود أي جماعات خارج إطار الدولة ونحن نحاربها وسيتم القضاء عليها”.

إلا أن مشروع تثبيت مليشيات الحشد الشعبي قوة عسكرية وأمنية رئيسية متنفذة ومهيمنة في العراق جار على قدم وساق، كجزء رئيسي من مراحل تنفيذ المشروع الإيراني الخاص بتصدير (الثورة الإسلامية)؛ وكانت آخر دلالات هذا الأمر واضحةً، بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة، حيدر العبادي، جعل الحشد “تشكيلاً عسكرياً مستقلاً مرتبطًا بالقائد العام للقوات المسلحة”، إضافة إلى عمله بنموذج “يضاهي جهاز مكافحة الإرهاب من حيث التنظيم والارتباط، فضلا عن تشكله من قيادة وهيئة أركان وصنوف وألوية مقاتلة”. ويرى مراقبون للشأن العراقي إن قيادات مليشيات الحشد الحشد هي التي سربت هذا القرار لإحراج  حيدر العبادي. فهم يرون أن العراق بلد لا تحكمه ضوابط سياسية سوى رغبة الحاكم ومزاج حزبه، إلا أن موضوع تبعية الحشد الشعبي لم تعد مسألة شكلية، وإنما لها دلالات تكشف عن التعقيدات التي تلف وضع الأحزاب الحاكمة وصراعاتها الداخلية، وما يمكن أن تقود إليه الأوضاع السياسية بعد داعش من نفوذ متعدد الجوانب لقيادات الميليشيات المسلحة بدعم إيراني. رغم ما أحاط قرار حيدر العبادي من إشكالات دستورية وقانونية حاول الالتفاف عليها، حيث يمنع الدستور أي تشكيل ميليشياوي مسلح غير القوات العسكرية النظامية، ولعل توقيت اتخاذه لهذا القرار يتزامن مع التشريع المنتظر لقانون كسيح للأحزاب في العراق لم يمنع مزاولة الأحزاب الطائفية لنشاطاتها خلافاً للدستور، لكنه منع من أن تكون تلك الأحزاب ذات أذرع مسلحة “ميليشيات مسلحة”، إذ يهدف القرار إلى تخليص الميليشيات من هذه الورطة، ولذلك لقي قراره ترحيبا من جميع الفصائل الميليشياوية.

 ورأي مراقبون آخرون أن قرار حيدر العبادي هو من أجل تقليم أظافر مؤسس مليشيات الحشد الشعبي نوري المالكي فيما رآه آخرون إجراءً يضع المليشيات تحت السيطرة المباشرة لمكتبه. بينما هناك من يرى أن ذلك القرار، فهو بداية عمّق بشكل واضح حالة الانقسام السياسي في العراق، ومنح عصابات ومليشيا إجرامية أذونات قتل وتدمير بهويات وعناوين رسمية، كما أنه فتح الأبواب للمليشيات المنضوية تحت راياته الطائفية المتعدّدة، للاشتراك في معركة الموصل المقبلة، والتي كانت جميع الأطراف الوطنية والإقليمة والدولية ترفض مشاركة الحشد فيها بصفته تنظيماً غير منضبط، لا سيما بعد الانتقادات الدولية الواسعة التي وجهت لهذه المليشيات بعد التجاوزات الكبيرة التي ارتكبتها بحق المواطنين السنّة في محافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار وبابل (جرف الصخر)، كان آخرها معركة الفلوجة وأطرافها، كما أن قرار الضم كان تشجيعاً واضحاً من منصب سيادي عراقي “رئيس مجلس الوزراء” للاعتبارات المذهبية المرتبطة بالمصالح الإيرانية.

وبحسب أنصار هذا الرأي ضمن قرار فيما يبدو، آلية شرعنة التدخل الإيراني في شؤون العمليات العسكرية والأمنية في العراق، على الرغم من كل ما أثاره هذا التدخل من استياءٍ واسع، وسط النخب السياسية العراقية. ويبدو هذا واضحاً من خلال مواقف المسؤولين الإيرانيين من هذا القرار، كدعوة مؤسس الحرس الثوري الإيراني، الجنرال محسن رفيق دوست، إلى تكرار تجربة الحرس الثوري في العراق، واستعداده لنقل خبرته في هذا المجال، لتشكيل “حرس ثوري عراقي”، على أن تسهم طهران مباشرةً في تسليحه وتدريب عناصره، ونصيحة عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، النائب محمد جوكار، العراق بتطبيق التجربة الإيرانية بخصوص “حرس الثورة”، وقوله “نحن على أتم الاستعداد لتزويد العراقيين بنمط هذه القوات وهيكليتها، ليتمكّن العراق من تشكيل قوات حرسه”.

وفي هذا السياق هناك تعبئة حزبية طائفية لتضخيم دور مليشيات الحشد الشعبي إعلامياً في معارك التحرير ضد داعش أمام إهمال مقصود لدور الجيش العراقي، لقد أصبح هذا الحشد “خامس أقوى قوة ضاربة في العالم” حسب تصريح أحد قادته في استنساخ لمقولة وصفت الجيش العراقي خلال حربه مع إيران بأنه “خامس جيش في العالم”، أو تصريح الناطق باسم الحشد “لولا الحشد ربما كان داعش قد دخل بغداد وسقطت الحكومة والبرلمان”. إن جميع المؤسسات الحزبية الطائفية في العراق تنتظم اليوم تحت خط تعبوي واحد يهدف إلى تأهيل الحشد ليصبح القوة العسكرية والأمنية الأولى في البلد، وليصبح الجيش العراقي رديفاً شكلياً بعد أن صرف على إعادة تأهيله مبلغ 25 مليار دولار عام 2015 فقط. ومقابل هذا التضخيم المقصود.

تتواتر تساؤلات المراقبين بشأن مستقبل الاستقرار في العراق، وذلك بالتزامن مع التقدّم الكبير في الحرب على تنظيم داعش باتجاه إنهاء سيطرته على مناطق البلاد. وتذهب الكثير من التحليلات باتجاه ترجيح ألّا تمثّل هزيمة تنظيم داعش في العراق نهاية العنف وبداية الاستقرار في البلد نظرا لوجود تشوهات في العملية السياسية وأخطاء في طريقة إدارة الدولة ترشّح البلد للدخول في حلقات جديدة من عدم الاستقرار، وربما من الاحتراب الداخلي مع وجود كمّ هائل من السلاح خارج يد الدولة وبأيدي عشرات الآلاف من العناصر المنتمية لميليشيات تابعة لجهات غير منسجمة في أهدافها وغاياتها ومصالحها.

وتعتبر الخلافات السياسية الحادّة في العراق عاملا مضاعفا للتوتر في البلد، وقد بلغت تلك الخلافات ذروتها في الأشهر الأخيرة وخرجت عن شكلها التقليدي كخلافات بين الأطراف الرئيسية من شيعة وسنة وأكراد، ووصلت إلى حدوث انقسام بين الأطراف الشيعية الحاكمة ضمن التحالف الوطني، وهو ما يثير مخاوف البعض من حدوث اقتتال بين الفصائل المسلحة التابعة لتلك الأطراف. وفي خضم الخلافات السياسية والاحتجاجات التي رافقتها، كانت ميليشيات مسلحة تابعة للأطراف السياسية الشيعية تتأهب وتراقب المشهد عن قرب.

وأعاد مشهد الصراع السياسي بين المكون الشيعي داخل التحالف الوطني، وفق متابعين للشأن العراقي، المخاوف من عودة الاقتتال داخل العاصمة بغداد، خصوصا وأن الفصائل الشيعية المسلحة بدأت تظهر للعلن في شوارع المدينة، منذ اجتياح تنظيم داعش لشمال وغرب البلاد قبل نحو عامين. وبدأت تسود المخاوف من أن يندلع القتال بين أجنحة الشيعية المسلحة التابعة لقوى داخل التحالف الوطني الشيعي.  فالتجربة وفق معنيين بالشأن العراقي حاضرة في تاريخ الفصائل الشيعية وهي تجربة عام 2006 إلى عام 2008 عندما حصلت صدامات بين التيار الصدري وبدر.

ويثير الانتشار الكبير للمليشيات ومقارهم في بغداد مخاوف الكثيرين، ويرون المتابعين للشأن العراقي أن المليشيات الشيعية المدججة بكل أنواع وصنوف الأسلحة ستظل الخطر الأكبر على استقرار العراق في مرحلة ما بعد داعش حتي وإن أصبحت جزءا من مؤسسات الدولة العسكرية، لأن سلاحها لن يكون تحت إمرة الدولة ولن يتأخر قادتها ومنتسبوها حين يقتضي الأمر في الدفاع عن مصالح أشخاص وأطراف غير متلائمة بالضرورة مع المصلحة العامة والأهداف الوطنية.

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية