ارتدادات ما بعد الانقلاب في تركيا هي في بدايتها فقط

ارتدادات ما بعد الانقلاب في تركيا هي في بدايتها فقط

160716141813_turkey_640x360_getty_nocredit-660x330

رد أردوغان بقبضة من حديد على محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، من خلال اعتقال، أو طرد أو تعليق عمل ما بلغ عددهم حتى الآن 60.000 من ضباط الجيش، ومسؤولي الشرطة والمخابرات، والقضاة والمعلمين والأكاديميين، وموظفي الخدمة المدنية. وقام بفرض حظر السفر على نطاق واسع، وحالة طوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر. كما يتعهد بإعادة العمل بعقوبة الإعدام التي ألغيت في العام 2004 كجزء من الإصلاحات المطلوبة لفتح مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
سوف تكون لهذا النهج القاسي الذي لا يرحم بعد الانقلاب آثار سلبية عميقة على سياسة تركيا الداخلية وأمنها وسياساتها الخارجية في المستقبل المنظور، وعلى حساب استقرارها وازدهارها.
سياسة ممزقة
تشكل لا مبالاة أردوغان تجاه الوحدة السياسية غير المسبوقة التي تجلت ضد الانقلاب إضاعة فرصة ثمينة للتخفيف من الاستقطاب والانقسام المتعمقين اللذين تعاني منهما السياسة التركية. وسوف يكون من شأن عزمه على استخدام الانقلاب لتوطيد السلطة السياسية لرئاسة الجمهورية، وإضعاف أو القضاء على الطابع العلماني للدولة التركية عن طريق وضع دستور جديد، أن يوسع الفجوة الأيديولوجية والعرقية بين الأتراك العلمانيين والمحافظين، وبين الأتراك والأكراد على التوالي. وقبل بضعة أشهر فقط، كان إسماعيل كهرمان، رئيس البرلمان التركي وحليف أردوغان، قد أعلن أن “العلمانية لا يمكن أن تتجلى في الدستور [الديني] الجديد”.
وبعبارات أخرى، سوف تعمل سياساته وخطابه على المزيد من تقويض الوجود غير المحسوس تقريباً للـ”الثقة المتبادلة” بين أفراد المجتمع التركي –رغبة أحد الأطراف في الاعتماد على أعمال طرف آخر- والتي ينظر إليها على أنها تتعارض مع نظام الحكم القوي والمجتمع المتماسك. ووفقاً لمسح أجرته منظمة التعاون والتنمية في العام 2010، فإن مستويات تركيا من الثقة بين الأفراد هي أقل بكثير من متوسط منظمة التعاون والتنمية، بحيث تبرز تركيا من بين الدول العشرين التي شملها الاستطلاع باعتبارها الوحيدة التي يرتبط فيها التحصيل العلمي العالي بمشاعر أقل من الثقة. ولا يمكن أن يولد هذا الموقف إلا مزيداً من الخلاف وعدم الثقة بين شرائح مختلفة من الناخبين الأتراك، وترسيخ السياسات القائمة على الشخصية ومن أعلى إلى أسفل، وهو السبب الجذري للاضطرابات السياسية في تركيا.
تضاؤل قدرة الدولة
يخشى شركاء تركيا في حلف الناتو أن تنطوي عمليات تطهير أفراد الجيش والأمن من ذوي الخبرة على احتمال تقليل قدرة الدولة على إحباط التهديد الذي يشكله “داعش” وغيره من الجماعات المتشددة، وإدارة حدودها الطويلة النفاذة والمليئة بالثغرات مع سورية والعراق بطريقة أفضل. وحتى الآن، سجنت السلطات التركية ما يقرب من ثلث كبار القادة العسكريين في تركيا، وأكثر من 7000 من ضباط الشرطة والمخابرات. ويشكل هذا خسارة كبيرة للخبرة والذاكرة المؤسسية، في وقت تصاعد فيه التحديات الأمنية. فبعد كل شيء، شهدت تركيا 14 هجوماً تفجيرياً على مدى العام الماضي، والتي كان الكثير منها من تنفيذ “داعش” أو حزب العمال الكردستاني الانفصالي.
وبالمثل، سوف تؤدي إقالة عشرات الآلاف من معلمي المدارس، سواء في المدارس الخاصة أو الحكومية، والأكاديميين الجامعيين والمسؤولين في وزارة التربية، إلى إعاقة تقديم الخدمات التعليمية الملائمة لتمكين الأجيال القادمة من تحقيق النجاح في بيئة اقتصادية عالمية تزداد تعقيداً باطراد. ولم توفر عملية “التطهير” هذه حتى الجامعات الحكومية والخاصة النخبوية الشهيرة التي تعتبر معاقل للقيم الليبرالية والعالمية في تركيا.
وفق جميع الاحتمالات، سوف يؤدي قيام الحكومة باستبدال الكوادر الرئيسية بآخرين من الموالين الأقل تأهيلاً، إلى تدمير الكفاءة والنزاهة المؤسسية، ومهنية المؤسسة العسكرية وبقية مؤسسات الدولة. وكانت عملية التفريغ هذه جارية مسبقاً قبل الانقلاب، ولكن اتخاذ القرار بعد الانقلاب زاد كثيراً من سرعته. وللأسف، في ظل أفضل سيناريو، سوف يستغرق الأمر تركيا سنوات، إذا لم يكن عقوداً، لاستعادة قدر من سيادة القانون وتقديم الخدمات العامة  وسوية معايير ما قبل الانقلاب، التي كان المواطنون الأتراك معتادين عليها.
تحديات السياسة الخارجية
قد يؤشر تأييد أردوغان لإعادة عقوبة الإعدام على نهاية آفاق انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي (التي أصبحت مسبقاً غير موجودة تقريباً)، وإلى علاقة أكثر اضطراباً وتوتراً مع أوروبا والولايات المتحدة. وكان، قبل الانقلاب، شريكاً شائكاً يصعب على الأميركان وحلف شمال الأطلسي التعامل معه، وعضواً متمرداً في تحالف مكافحة “داعش” الذي تقوده الولايات المتحدة، ومعارضاً صاخباً للتعاون بين الولايات المتحدة والمقاتلين الأكراد السوريين التابعين لحزب العمال الكردستاني الذين يستهدفون “داعش” في شمال سورية. وبعد الانقلاب، ربما أقل تساوقاً مع أهداف السياسة الخارجية والأمنية الأميركية والأوروبية.
ربما يمتد الخلاف إلى اتفاق تركيا مع الاتحاد الأوروبي لوقف تدفق المهاجرين السوريين عبر بحر إيجة واليونان إلى داخل أوروبا القارية، والذي يبدو بدوره غير قابل للاستمرار باطراد.
وقد يستفيد أردوغان مشاكس من رفض الاتحاد الأوروبي القادم لإلغاء التأشيرات للمسافرين الأتراك إلى منطقة حدود شنغن بحلول نهاية تشرين الأول (أكتوبر) لانتزاع المزيد من التنازلات من أوروبا المتشككة فيه. وعلى الرغم من سخطهم، ينبغي أن يفهموا من التقارب مع إسرائيل وروسيا أنه يميل إلى تسوية مع دبلوماسية العضلات بدلا من المجاملات الدبلوماسية.
سوف تكون تركيا متشنجة ومنشغلة بمكائدها السياسية الداخلية، وسوف تكون قدراتها الأمنية والعسكرية مستنفدة كثيراً بحيث لا تستطيع تحمل توظيف أصول كبيرة لدعم تغيير النظام في دمشق. وسيكون الرئيس السوري بشار الأسد وداعموه الروس والإيرانيون، بشكل طبيعي، هم المستفيدون الرئيسيون، في حين ستكون المعارضة السنية المسلحة هي أكبر الخاسرين. وكما يمكن القول، لا بد أن يشعر الأسد الآن بأنه آمن تماماً في السلطة، وواثق من أنه سيوسع مكاسبه في الأراضي على حساب الجماعات السنية. وبالمثل، سوف يسعى الأكراد السوريين إلى تعزيز، وربما توسيع منطقتهم شبه المستقلة على طول الحدود بين تركيا وسورية، بما يتناسب مع تراجع نفوذ تركيا في المستنقع السوري.
درس أوروبا
تمثل تركيا الآن شهادة مريرة على الآثار السيئة للتضحية بالقيم التقدمية لصالح النفعية السياسية والخوف والمصالح الضيقة. وقد كشفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عن عدم تبصر استراتيجي بإعاقتهما رغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في العام 2005. ولو كان الاتحاد الأوروبي قد أشرك تركيا في عملية انضمام موثوقة -مهما تكن شاقة- فإن الانقلاب لم يكن ليحدث قط على الأرجح. ولكان القادة السياسيون الأتراك سيضطرون إلى تنفيذ إصلاحات أعمق وأوسع لتعزيز الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان واقتصاد سوق فعال. وبدلاً من ذلك، تحصد أوروبا الآن ثمار ما زرعته: تركيا مهزوزة بانقلاب وغير مستقرة على عتباتها.

فادي حاكورة

صحيفة الغد