الوجه الآخر لـ”شارلي إيبدو”: التوظيف السياسي للأحداث الإرهابية في فرنسا

الوجه الآخر لـ”شارلي إيبدو”: التوظيف السياسي للأحداث الإرهابية في فرنسا

برغم الأوجه المتعددة لعملية شارلي إيبدو الإرهابية، وما تبعها من اعتداء على متجر يهودي في فرنسا، سواء ما يتعلق بطرحها لقضايا امتداد الإرهاب عالميا، وحرية التعبير، وطبيعة الأجيال الجديدة لمسلمي أورويا وغيرها، فإن أحد الأوجه الأخرى في الحادث تجلى في الاستغلال السياسي للعمليات الإرهابية من قبل بعض النظم الحاكمة لتحقيق مكاسب، أو للتغطية على إخفاقات سياسية، واقتصادية، أو حتى تبرير سياسات سابقة، أو مزمع اتخاذها.
وفي هذا السياق، تشكل حالتا الرئيس الفرنسي، فرانسوا أولاند، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، نموذجين مهمين، إذ استطاع كل منهما توظيف عملية تشارلي إيبدو لأغراض سياسية. فبالنسبة للرئيس الفرنسي، تتعدد مؤشرات استغلاله السياسي لأحداث شارلي إيبدو، وذلك على النحو الآتى:
– محاولة أولاند رفع شعبيته المتدهورة، فوفقاً لاستطلاع رأى أجراه معهد “إيفوب”، وقامت بنشره مجلة “بارى ماتش” فى منتصف نوفمبر 2014 ، فقد بلغت نسبة شعبية أولاند 29% مع بداية أكتوبر، وهى بذلك تعد نسبة ضعيفة للغاية. ويرجع انخفاض شعبية أولاند إلى عدم قدرته على التعامل مع الأزمات الاقتصادية، خاصة أزمة البطالة، وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وفرض سياسات تقشفية لم ترض قطاعات من الشعب الفرنسي، فضلاً عن فشله فى إدارة العديد من ملفات السياسة الخارجية.
وبالتالي، يمثل ملف مكافحة الإرهاب، فى حال نجاح أولاند فى إدارته، مخرجاً نسبيا له من حالة تراجع شعبيته، وهو ما انعكس ليس فقط فى سرعة إعلان السلطات الفرنسية عن المسئولين عن الحادث وقتلهم، بل اتخاذ إجراءات أمنية أكثر تشدداً، عبر قيام وزارة الدفاع بنشر 10 آلاف جندي لمساعدة القوات الأمنية فى حراسة المواقع الاستراتيجية الحساسة فى البلاد، خاصة أماكن ودور العبادة . ولا شك فى أن نتيجة تلك الإجراءات، ومدى قدرة أولاند على التعامل مع الملف الأمني سيؤثران بالضرورة فى شعبية الرئيس الفرنسي فى الاستطلاعات المقبلة.
يضاف لذلك محاولة أولاند كسب تأييد مسلمي فرنسا عبر أمرين، أولهما تأكيده فى عدة تصريحات ضرورة عدم تحميل المسلمين مسئولية تلك الأحداث الإرهابية، مؤكداً فى كلمة ألقاها فى معهد العالم العربي فى باريس فى 15 يناير 2014″ أن المسلمين ضحايا التعصب والتطرف وعدم التسامح فى العالم”. أما الأمر الآخر، فيتعلق برفض السلطات الفرنسية التصريح لمظاهرة كانت تهدف للمطالبة برحيل الإسلاميين عن فرنسا، ولعل هذا الموقف الرسمي من شأنه أن يرفع شعبية أولاند بين مسلمي فرنسا.
– تبرير أولاند لسياساته الخارجية ، حيث وجد الرئيس الفرنسي فى تلك الأحداث الإرهابية فرصة سانحة لتبرير فشل بلاده فى إدارة عدد من ملفات السياسة الخارجية، وعلى رأسها موقف بلاده من التدخل فى العراق، وليبيا، ومالي، حيث سرعان ما أعلن أنه خاض تلك الحروب بهدف الحيلولة دون وصول الإرهابيين المتشددين إلى بلاده، وذلك فى محاولة لاستعادة ثقة الفرنسيين، وتأكيد أنه كانت لديه رؤية منضبطة مسبقة بشأن الانخراط فى تلك القضايا، علماً بأن استطلاعات الرأي الشعبية قبيل مشاركة باريس فى إسقاط القذافى عسكرياً كانت ترفض التدخل الفرنسي بنسبة 51 % على خلفية الحالات المتعثرة للتدخل الدولي فى العراق وأفغانستان.
كما سعى أولاند للربط بين أحداث شارلي إيبدو من جانب، وتقاعس المجتمع الدولي فى التعامل مع التيارات الدينية المتشددة، سواء فى سوريا وليبيا، من جانب آخر. ولهذا، فقد وجه عدد من التصريحات التي تصب فى هذا الاتجاه بهدف توفير دعم شعبي للتدخل، علماً بوجود قاعدة شعبية واسعة ترفض أي تدخل عسكري فرنسا فى سوريا بلغت 68 % من إجمالي الفرنسيين فى استفتاء أجراه معهد “إيفوب” فى سبتمبر 2013، وهو ما يعد عائقاً كبيراً أمام أولاند.
فقد أعلن أولاند، على خلفية أحداث شارلي إيبدو، عن تمسكه بضرورة الاستمرار فى تقديم الدعم اللوجيستى للمعارضة السورية، مستبعداً تماماً الدخول فى أي تحالف مع بشار الأسد. واتساقاً مع ذلك، وجه أولاند خطابا للقوات المسلحة الفرنسية فى 14 يناير 2015، أبدى فيه أسفه من عدم تدخل المجتمع عسكرياً فى سوريا، خصوصاً فى نهاية أغسطس 2013 عندما دعا لذلك، مطالباً بسرعة التدخل لإنهاء الوضع الذي وصفه  بغير الإنساني. وعلى الصعيد الليبى، فقد سعى أولاند لتعزيز وجهة نظره بشأن رفض فكرة التدخل المنفرد فى ليبيا لإنهاء الصراع المسلح، والسعي نحو تشكيل تحالف دولي بمباركة إفريقية، وخصوصاً الجزائر.
– الحصول على دعم دولي للإجراءات المتوقع اتخاذها ضد الإرهاب، حيث قد استغل أولاند التداعيات المؤسفة لحادث شارلي إيبدو فى السعي للحصول على الضوء الأخضر فيما يخص أي إجراءات يمكن أن تأخذ طابعا قمعيا لمواجهة التيارات الإسلامية الراديكالية فى فرنسا تحت مسمى ” استراتيجية مكافحة الإرهاب”، وهو ما قد انعكس على دعوته لتنظيم أكبر تظاهرة ضد الإرهاب والتطرف، شارك فيها أكثر من 40 من قادة العالم، وهو ما قدم دعماً قوية لاى إجراءات يتخذها أولاند مستقبلاً.
أبعاد التوظيف الإسرائيلي: 
وعلى الرغم من أن أحداث شارلي إيبدو فرنسية بالأساس، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لم يفوت الفرصة لاستغلال وتوظيف الأحداث سياسياً لمصلحة بلاده، لاسيما أن من بين القتلى أربعة فرنسيين من أصول يهودية. واتخذ توظيف نتنياهو للحادث مجموعة من المستويات، منها:
استعادة الثقة المفقودة للأوروبيين، حيث إن مجرد تقدم نتنياهو بجوار الرئيس الفرنسي أولاند فى التظاهرة الدولية المنددة بالإرهاب في باريس، والتي جمعت رؤساء دول، يعد محاولة منه لكسب ثقة الأوروبيين التي تراجعت في الآونة الأخيرة، بعد قيام بعض برلمانات الدول الأوروبية، خاصة فرنسا، وبريطانيا، وإسبانيا، وأيرلندا، والسويد بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. صحيح أن هذه الاعترافات غير ملزمة لحكومات تلك البلدان، ولم يترتب عليها آثار قانونية تذكر، لكنها تحمل رسالة مهمة، مفادها زيادة معدلات التعاطف الرسمي الأوروبي مع فلسطين من جانب، وزيادة معدلات السخط الدولي على إسرائيل، من جانب آخر.
تبرير الممارسات الإسرائيلية ضد حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، حيث استغل نتنياهو الأحداث الإرهابية في فرنسا فى تبرير الممارسات الإسرائيلية السابقة، إضافة للإجراءات المزمع اتخاذها، خاصة ضد حركة حماس، وحزب الله اللبناني، حينما أكد بوضوح، قبيل مشاركته فى التظاهرة، بأنه ” ذاهب إلى باريس للمشاركة فى التظاهرة مع زعماء العالم من أجل النضال المتجدد ضد الإسلاميين الذي يهدد البشرية كلها”، مؤكداً أيضاً أنه قد دعا لذلك منذ سنوات عديدة.
وبالتالي، فإن ننتياهو أراد بتلك التصريحات بعث رسالة، مفادها صحة أسلوبه فى التعامل مع الإسلاميين، داعياً الأوروبيين لانتهاج النمط ذاته، مما سيخدم بالضرورة إسرائيل فى قضيتها المركزية، وصراعها مع الفلسطينيين.
استغلال قضية يهود فرنسا، حيث سارع نتنياهو إلى اتخاذ خطوات للمتاجرة بالهجوم على متجر يهودي، بعد عملية شارلي إيبدو، عبر قيام الحكومة الإسرائيلية بالضغط على ضحايا المتجر بهدف دفنهم فى القدس المحتلة، حيث استهدف رئيس الوزراء الإسرائيلي من ذلك استغلال تلك الأحداث إعلامياً، عبر توجيه وسائل الإعلام العالمية من فرنسا إلى إسرائيل لترسيخ صورة ذهنية مزعومة تتعلق بفكرة “ديمومة استهداف اليهود فى العالم”، كصورة أخرى من صور الهولوكوست، وذلك لكسب مزيد من تعاطف الأوساط والقواعد الشعبية فى العالم، إلى جانب التعاطف الحكومي الرسمي.
f92_medium
من جانب آخر، تعد قضية عودة اليهود المهاجرين إلى إسرائيل إحدى القضايا المركزية لدى الحكومة الإسرائيلية، وبالتالي فقد سارعت الحكومة إلى استغلال حادث شارلي إيبدو لإعادة طرح مسببات ودواعي عودة اليهود إلى إسرائيل، والمتمثلة فى تنامي النزعات المعادية تجاه الجاليات اليهودية فى فرنسا، فى إطار استراتيجية ترهيب اليهود لحثهم على  الهجرة لإسرائيل. وعبر نتنياهو عن ذلك في بيان أعلن فيه تشكيل لجنة حكومية إسرائيلية لبحث سبل تعزيز هجرة اليهود من فرنسا ودول أوروبية أخرى لكونها تشهد أعمالاً مروعة مناهضة للسامية، على حد زعمه، وهو النهج ذاته الذي اتبعته وسائل الإعلام الإسرائيلية بعد الأحداث فى إفراد صفحات وبرامج كاملة لإلقاء الضوء على تنامي ظاهرة العداء لليهود.
فى الوقت ذاته، سعى نتنياهو لترغيب اليهود في العودة لإسرائيل، من خلال تصريحاته العاطفية التي قال فيها: ” إلى كل يهود فرنسا، وكل يهود أوروبا، أريد أن أقول: دولة إسرائيل ليست مكاناً فقط تصلون من أجله، ولكنها وطنكم أيضاً”.
يذكر أن عدد المهاجرين اليهود القادمين من فرنسا إلى إسرائيل قد بلغ 6960 مهاجراً فى عام 2014، مقارنة بـ 3400 مهاجر في عام 2013، وذلك فى الوقت الذي بلغ فيه عدد الجالية اليهودية فى فرنسا بين 500 و600 ألف، وهى بذلك أكبر جالية يهودية فى أوروبا، والثالثة على مستوى العالم، بعد إسرائيل والولايات المتحدة، ولهذا فإنها تحظى باهتمام كبير من قبل الحكومة الإسرائيلية.
 وإجمالا، يمكن القول إن التطورات التي شهدها العالم فى السنوات الأخيرة، ولاسيما تمدد العمليات الإرهابية، قد كشفت عن التشابك بين الأحداث الداخلية، والعوامل الخارجية، بحيث لم تعد عملية الفصل بينهما واقعية، وهو ما تمت ترجمته بشكل عملي على حالة التوظيف السياسي لكل من أولاند وننتياهو لعملية شارلي إيبدو وما بعدها.
أحمد زكريا الباسوسي
نقلا عن  مجلة السياسة الدولية