هندسة الدول الفاشلة

هندسة الدول الفاشلة

maxresdefault

ينتابك شعور من الحسرة والغضب عندما ترى نصف برمجة الأخبار في القنوات الإخبارية العالمية وغيرها مخصصة للوطن العربي، وما يقع فيه من قتل وتدمير وتفكك وهجرات وتفجيرات وانتكاسات وبطالة وإحباط… إنه الواقع المزري الذي لا ينتهي كأننا خارج التاريخ. وفي كل الشعوب العربية نخب متعلمة ومتمكنة، منها من سيّر مؤسسات رائدة في دول المهجر ثم رجع إلى بلدانها، ومنها من وصل القمم في أبحاثه، ومنها من كون مدارس فكرية وأتباعاً بالآلاف في المعاهد والجامعات العالمية! ولكن عندما يتعلق الأمر ببناء الدولة الحديثة وبناء المجال السياسي العام الجديد في بلدانهم، انطلاقاً من أدوات سياسية مسطرة في كتب العلوم السياسية، وفي تجارب الأمم، يخرج شياطين الإنس والجن لتقويض دعائم بناء الدول، ليصل المجتمع في بعض الأحيان إلى عهد الجاهلية الأولى. وفي المنتديات التي كنت أنظمها في فاس دائماً ما كنت أستمتع بتدخلات زملاء ليبيين لهم باع طويل في مجالات وتخصصات دقيقة، والشعور نفسه انتابني في ملتقى مدينة أصيلة الأخير عندما تدخل ليبيون كثر في مجالات سياسية معقدة انطلاقاً من جوانب تخصصهم الهندسي والعلمي فأجادوا وبرعوا، ولكن عندما ترى واقع أوطانهم يغيظك حال العباد والبلاد.

إن تثبيت الديمقراطية أمر صعب، كما أن التحول الديمقراطي قد يعرض الحياة السياسية إلى أزمات جديدة غير قابلة للحل، وقد يقفل مجال السلطة في وجه قوى المجتمع المختلفة إذا لم تضخ حيوية جديدة في النظام السياسي والنظام الاجتماعي، بعيداً عن الارتجالية والشعبوية أيّاً كان مصدرها، وإذا لم تصوب العلاقة بين الدولة والمجتمع لتعلو بذلك عن المستوى الفئوي المغلق إلى رحاب الأفق الوطني الحاضن للجميع، وإنْ تمعنا في تجارب سياسية عربية في السنوات الأخيرة، سنجد أكبر مثال على ذلك كما هو شأن ليبيا والعراق، وغيرهما.

والديمقراطية لا تعني قيادة المجتمعات إلى الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتفتيت وحدة الشعب وإزالة الثقة كاملة من مؤسسات الدولة والمواطن.. وكل ديمقراطية قائمة على هذه الأسس، الأَولى أن تصلى عليها صلاة الجنازة، لأن الأساس خاطئ ومهندسي الإنتاج السياسي لم يحكموا صياغة المخططات الكفيلة بجعل البناء يكبر شيئاً فشيئاً، ويتقوى بالإسمنت المتماسك، وهم في الحقيقة يناصبون المفهوم الحديث للدولة والسلطة العداء، ويتوجسون منه ويخالونه الشر المستطير، وقد كتب الأستاذ عبدالإله بلقزيز أن كل ديمقراطية من هذا النوع عليها ألف علامة استفهام. إنها التفتيت ونشر الفوضى وقد تلفعا برداء فكرة عظيمة… وكم من فكرة عظيمة في التاريخ الإنساني ابتذلت وأهين معناها حين تحولت إلى غطاء وذريعة لأبشع الجرائم ضد الإنسانية وأشدها هولاً. ألم تكن فكرة الحرية، وقد مات من أجلها الملايين في المجتمعات الغربية في القرون 17 و18 و19 غطاء للاستعمار والتمييز العنصري والحروب الاستعمارية؟ ألم تكن فكرة الاشتراكية غطاء للقمع والتسلطية؟ أليس باسم الإصلاح دخل الاحتلال إلى ديارنا منذ فجر القرن التاسع عشر؟

الديمقراطية عملية صعبة وتحتاج إلى ربابنة واعين ومتدربين مثل ربان الطائرة الذي يحتاج إلى دراسات معمقة وتجارب لأنه يكون مسؤولاً عن أرواح عشرات الآلاف من الناس سنوياً، فالديمقراطية تفرض وجود ديمقراطيين حقيقيين على أن: 1) تكون أدوات عملهم نظيفة ونقية من كل شائبة. 2) وتكون عندهم ثقافة ووعي ديمقراطيان. 3) ويكونون أذكياء ومتمرسين يعرفون أن الطائرة يجب ألا تقلع أو تنزل إذا لم تكن الرؤية واضحة، أو إذا غطت الثلوج أرض النزول… إذ يجب التريث وأخذ الاحتياطات اللازمة، بهذه الطريقة يقع التنزيل السليم للمبادئ والقيم، وتفتح الديمقراطية ذراعيها للجميع.

والمشكل اليوم في بلدان ما بعد الثورات العربية، هو مع مهندسي الانتقالات الديمقراطية، ومع مهندسي بناة الدولة الحديثة، فعملهم يتطلب حضور قواعد العلوم السياسية الصحيحة، وغياب الخطأ وغياب الارتجال والشعبوية، خاصة عندما نستحضر في تلك المجتمعات غياب وعي ثقافي وسياسي مجتمعي ومجال سياسي مستقل ذي مسيرة طويلة، وفي بلدان لم تعرف أية تجربة ديمقراطية في حياتها، ليأتي فاعلون سياسيون ذوو فكر معين ينفي التعددية أو يتصورها بعيداً عن قواعد الحيوية والتقدم، وهنا تقع المصيبة الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة.

د. عبدالحق عزوزي

نقلا عن جريدة الاتحاد