النظام العربي والأزمات المجتمعية الجديدة

النظام العربي والأزمات المجتمعية الجديدة

580

في تصريح أخير لرئيس وكالة الاستخبارات الأميركية توقع تفكك سوريا التقليدية وعدم عودتها لحدودها الدولية المرسومة، في الوقت الذي تبرز مؤشرات واضحة على المشهد ذاته في العراق الذي انفصل عمليا إقليمه الكردي، وفي اليمن حيث العودة إلى دولتي الشمال والجنوب أصبحت احتمالا قوياً.

الأمر هنا لا يتعلق بمشهد التجزئة والتقسيم الذي كثيرا ما يتم الحديث عنه، بل بواقع غير مسبوق له منطقه الداخلي وجغرافيته السياسية وأدواته التدبيرية التي تحتاج إلى ضبط قانوني ملائم. باستخدام مصطلحات الفيلسوف الأميركي المعروف «جون رولز» يمكن أن نميز بين أربعة أنواع من المجتمعات تتمايز من حيث طبيعة التنظيم السياسي: «المجتمعات الليبرالية» التي تتأسس بنيتها التنظيمية على مبادئ العدالة التوزيعية المتمحورة حول المساواة في الحريات والحقوق والفرص وعلى التضامن الاجتماعي، و«المجتمعات التراتبية اللائقة» التي لها دعامة تنظيمية وقانونية صلبة وإن كانت غير ديمقراطية، و«المجتمعات الخارجة عن القانون»، وهي الدول الاستبدادية التي تنتهك فيها حقوق الإنسان الأساسية، و«المجتمعات الهشة المعاقة» التي تعاني من مصاعب نوعية في التنظيم ومن خلل جوهري في أساليب الحكم والتسيير المجتمعي.

إذا استخدمنا مصطلحات رولز أمكننا القول إن العديد من البلدان العربية أصبحت تدخل في الخانتين الأخيرتين، أي المجتمعات الخارجة عن القانون والمجتمعات الهشة المعاقة، مع الإشارة إلى أن المصطلحين يحتاجان مراجعة جدية في ضوء المعطيات الجديدة للنظام الدولي. لم تعد المجتمعات الخارجة عن القانون محصورة في البلدان الشيوعية التوتاليتارية السابقة، ولا في مقولة «الدول المارقة»، بل يتعلق الأمر هنا بساحات لم تعد البناءات والنظم القانونية للدولة الحديثة فاعلة فيها جراء تفكك النظام السياسي المركزي وانهيار المؤسسات العمومية. في هذه الحالات لا فرق بين بقايا الجيش النظامي الذي تحول إلى مليشيات داعمة للسلطة الحاكمة المحصورة في حيّز إقليمي ضيق والمجموعات المسلحة الأخرى التي تتخذ قناع الحشود الشعبية والتنظيمات «الجهادية» العنيفة. في كل هذه الحالات يتحول العنف الخام إلى محور للفعل السياسي، وتصبح الفتنة الأهلية عماد النسيج الاجتماعي المفكك. في مثل هذه الساحة، لا عبرة بالحد الأدنى من مواثيق وقيم حقوق الإنسان الفردية والمدنية، بل إن الجهات المتصارعة تتسابق في الأساليب الوحشية والجرائم الدموية، كما لمسنا بوضوح في العراق وسوريا.

المجتمعات الخارجة عن القانون حالة جديدة لا ينحصر فيها المشكل السياسي بين سلطة مستبدة ومجتمع مقهور، إذ حتى في تلك الوضعية يظل القانون في دلالته الدنيا (المساواة في الظلم والغبن) قائما. إنها مجتمعات تحللت فيها القاعدة القانونية للنظام المدني المتماسك، ولم تعد فيها الدولة تعني أكثر من سلطة إكراه وآلة قتل، كما أن المعارضة السياسية فيها تعني المقاومة المسلحة خارج ضوابط العقد القانوني المنظم للمجال السياسي.

أما المجتمعات الهشة المعاقة فقد كان رولز يعني بها في الأصل المجتمعات التي حكمت عليها الاعتبارات التاريخية بالتأخر والعجز عن استنبات النظام المدني الحديث، وهي في السياق العربي الراهن المجتمعات التي عجزت عن امتصاص صدمة التحول السياسي، وغدت تعاني إشكالات جوهرية في البناء السياسي المنظم. إنها البلدان التي أطلقت عليها الأدبيات الاستراتيجية الأميركية عبارة «الدول الفاشلة»، وإن كانت هذه العبارة غير دقيقة لأنها تفترض نموذجا مسبقا للدولة الناجحة دون مراعاة خصوصيات البلدان غير الغربية ذات التركيبة الاجتماعية المغايرة لذلك النموذج.

تشكل الحالة الليبية مثالا واضحا على هذا النوع من المجتمعات المعاقة، بقيام أنماط من الكيانات الإقليمية القبلية شبه المستقلة لا تستجيب لمعايير الدولة الحديثة المنظمة، تحفظ لمكونها الأهلي بعض الرعاية والإدماج في مقابل المركز المشلول الذي تتصارع عليه المجموعات المسلحة. وهكذا يصبح السؤال: أليست الدولة في مثل هذه الحالات عبئا على المجتمع الأهلي وعنصر تشويش على استقراره وتماسكه؟ لكن كيف يتسنى الإخراج القانوني لهذه المعادلة القائمة وفق منطق السياسة الحديثة وموازين النظام الدولي المعاصر التي لا مكان فيها إلا للدولة الوطنية المركزية؟

ليست الحالة الليبية على خصوصياتها المعروفة حالة شاذة، بل إنها الصورة المكبرة لمأزق تعاني منه الكثير من المجتمعات العربية تحولت إلى مجتمعات هشة معاقة من جراء الانزياح المتزايد بين الدولة والمجتمع الأهلي: لم تعد الدولة قادرة على بسط هيمنتها على المجتمع نتيجة لضعف أدواتها وإمكاناتها الإدماجية والضبطية ولم يعد المجتمع الأهلي يرى فيها التعبير الروحي والرمزي عن هويته ونسيجه الموحد.

كان رولز يرى أن على الدول الليبرالية أن تقدم المساعدة للمجتمعات المعاقة من أجل التغلب على نقصها في التنظيم، بيد أن الأمر اليوم أكثر تعقيدا من مجرد نقل تجربة قانونية إدارية جاهزة أثبتت الأحداث عقمها وصعوبة استيرادها. المطلوب هو إبداع آليات جديدة للتنظيم السياسي تتناسب ومعطيات الجغرافيا السياسية الجديدة للمنطقة، لن تكون بطبيعة الأمر النكوص إلى أساليب الحكم التقليدية المتجاوزة ولا التجزئة على أساس الخصوصيات القبلية أو الطائفية بما من شأنه تأجيج الصراع الأهلي والاحتقان الاجتماعي.

د. السيد ولدأباه

 صحيفة الاتحاد