“الربيع العربي” في تاريخنا

“الربيع العربي” في تاريخنا

349 (1)
على الرغم من كل ما يجري اليوم في بلدان الربيع العربي من أحداث تجعل وصف “الربيع” غير جدير بالاستعمال، من حيث المبدأ، فإن أحداً لا يستطيع الجزم بعد ما إذا كان ممكناً أم غير ممكن أن تمثل هذه المرحلة نقطة بداية، لم تؤتِ أكلها بعد، لانعطافةٍ تاريخيةٍ، يخرج بها العرب من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كان من أبرز سماتها لديهم سيادة الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت باسم الاستقلال والدفاع عن الأوطان، على طريق الولوج في “التاريخ الجديد”، القائم على المشاركة العامة، ومجمل حقوق الإنسان الأخرى، إذا ما انتهى هذا المخاض العظيم، ولو بعد حين، إلى إفراز أنظمةٍ منتخبةٍ ديمقراطياً في عدد من الدول العربية الرئيسية، تخوض غمار التنمية الشاملة الحقيقية والعميقة، اقتصادياً وإنسانياً.
يمكن، هنا، تحقيب التاريخ العربي الحديث والمعاصر، على أساس ثلاثة انعطافات تاريخية كبرى، ربما تكون مرحلة “الربيع العربي” رابعتها:
فقد تمثلت انعطافة العرب التاريخية الأولى في الجنوح إلى التحديث، مع تأسيس دولة محمد علي في مصر، العام 1805؛ أي بالانتقال من شكل الدولة القديم ونمطية صلتها بـ”شعبها”، إلى الدولة ذات البنية والتراتبية الحديثة؛ ثم من نمطية التفكير النقلي القديم إلى التفكير القائم على “الحرية” و”المساواة” واحترام الفرد، وفق ما بشّر به رفاعة الطهطاوي.
أما انعطافة العرب الثانية فوقعت مع وصول الاستعمار الأوروبي العسكري المباشر إلى بلادنا، منتصف القرن التاسع عشر. وفيها انعطف العرب من التحديث والفكر الحر إلى الارتباك أمام قوة الاستعمار القاهرة. وكان من سمات الارتباك أن ارتد التفكير إلى الماضوية بدعوى “العودة” إلى الدين، وفق المدرسة التي أسسها الأفغاني، أو هرب إلى تقليد أوروبا، بحجة الاستفادة من نهوضها، بحسب ما قال دعاة العلمانية المؤدلجة.
حدثت الانعطافة الثالثة مع زوال الاستعمار الأوروبي العسكري المباشر، عقب الحرب العالمية الثانية، وظهور ما سميت “الدولة الوطنية” في العالم العربي التي حكمتها أنظمةٌ استمدّت شرعيتها إما من قيادة الثورة على المستعمر (كما في الجزائر وتونس)، أو من تأسيس الدولة الحديثة وتوحيدها (كما في معظم دول المشرق العربي)، أو من الانقلابات العسكرية المبرّرة أيديولوجياً بالاشتراكية والقومية (كما في مصر وسورية والعراق، التي هي أبرز الدول العربية الرئيسية). وهكذا، لم تستمد أيٌّ من تلك الأنظمة شرعيتها من شعوبها، فكان طبيعياً أن تحكم من دون الرجوع إلى الناس، ما أدى إلى تهميش الشعوب العربية نحو ستين سنة.
الدافع إلى النظر إلى مرحلة ثورات الربيع العربي، باعتبارها بدايةً لانعطافةٍ جديدة ممكنة، ما تزال تحتاج إرهاصاتٍ كثيرة، على الرغم من العثرات الكبرى التي تمر بها، أنها حين بدأت انعطفت بالشعوب العربية من التهميش إلى المشاركة والتأثير والمساهمة في صناعة التاريخ. صحيح أن هذه الانعطافة أفضت، حتى الآن، إلى ويلات وقتل ودمار، في سورية واليمن وليبيا، أو إلى عدم اكتمال مخرجاتها الديمقراطية، بالشكل المتوقع منها، في مصر وتونس، بشكل دفع قطاعاتٍ متزايدةً من العرب إلى رفض تسميتها “الربيع”، من حيث المبدأ، هذا فضلاً عن أنها لم تشمل كل العرب، إلا أنه من غير الممكن الجزم أن العرب لن يدخلوا التاريخ من جديد، بعد هذه الأحداث الكبرى، وسيظلون خارجه، كما كانوا، منذ خضوعهم للاستعمار العسكري والإمبريالية، ذلك أن التحولات الكبرى التي عرفها التاريخ احتاجت، دائماً، مخاضاتٍ كبرى ووقتاً طويلاً.
علينا أن نلاحظ، بينما ننتبه إلى ذلك كله، أن دخول العرب في التاريخ المعاصر، القائم على احترام الفرد وحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليس مستحيلاً، أو ضرباً من الوهم، وليس التأخر في إنجازه ناتجاً عمّا هو متأصّل في ثقافتهم أو قيمهم الإنسانية والدينية، ما يعني أن الانعطافة الرابعة الكبرى واجبةُ الحدوث في لحظةٍ قد لا تكون بعيدة، خصوصاً حين نأخذ في الاعتبار أن دوراً كبيراً في دفع العرب إلى ثورات الربيع العربي لعبته التكنولوجيا الحديثة، من خلال إتاحتها أدوات التواصل والمعرفة لشعوٍب عاشت ستين عاماً في التضليل والتفتيت، والمعنى أن تقدّم التكنولوجيا لن يكون بلا أثرٍ على تاريخ العرب ومستقبلهم وانعطافاتهم الكبرى.

سامر أحمد
صحيفة العربي الجديد