البنك الدولي والتنمية في المنطقة

البنك الدولي والتنمية في المنطقة

thumb.php

أعلن البنك الدولي في تموز (يوليو) تعيين الاقتصادي الأميركي بول رومر في منصب كبير الاقتصاديين لديه. ويعتبَر هذا تغييراً جريئاً، فالبنك يفضل عادة تعيين شخصيات محافظة في مناصبه الكبرى، بينما رومر رائد أعمال تجاري وفكري، ترك القطاع الأكاديمي أولاً لتأسيس شركة «أبليا» التي غيرت النظام التعليمي الأميركي جذرياً، ولاحقاً لإطلاق مشروع تنموي باسم «المدن المستقلة». لم تنجح فكرته التنموية الثورية بعد، لكن في ظل ظروف الشرق الأوسط الحالية، قد يكون هناك مجال لتفعيل المشروع بالتعاون مع الدول الخليجية.

لاستيعاب فكرة «المدن المستقلة»، يجب أولاً النظر في مسيرة رومر الأكاديمية والفكرية. شكّل موضوع التنمية الاقتصادية أهم مشكلة يسعى الاقتصاديون إلى معالجتها منذ إطلاق النسخة الحديثة لعلم الاقتصاد في عام 1776، حينما نشر المفكر الإسكتلندي آدم سميث كتاباً بعنوان «ثروة الأمم».

وفي 1990، نشر رومر بحثاً أشار فيه إلى عوامل أخرى كان يعتبرها أهم من العوامل التقليدية في تفسير التبيان التنموي الدولي: العلم والابتكار والثقافة والتقاليد المجتمعية. ووفق نظرية رومر، إن رغبت حكومة كينيا في توصيل إنتاجية عامل كيني إلى إنتاجية نظيره الأميركي، لا يكفي منحه الأدوات والأجهزة والدراسة نفسها، بل يجب تغيير بيئة الإنتاج في شكل شامل. فبيئة العمل الأميركية تتميز بتطبيق القانون بعدالة وشفافية، وحماية حقوق الملكية، وحوافز الابتكار، وثقة عامة بأن أحداً لن ينتهك حقوق الآخرين.

تقبّل خبراء الاقتصاد نظرية رومر، لكنه لم يساهم في تطويرها، إذ إنه اعتزل المجال الأكاديمي، وأصبح أحد رواد الأعمال المبتكرين الذين كان يدرسهم في عقد الثمانينات. لكنه عاد إلى عمله البحثي في الألفية الجديدة، ليس لإجراء مزيد من البحوث، بل لتطبيق نظرياته في الدول النامية.

طرح رومر أنه لا يمكن حكومات الدول الفقيرة أن تتغلب على الثغرات التي تمنعها من خلق بيئة عمل معززة للإنتاجية، منها الفساد والتعقيدات السياسية وضعف القضاة وانعدام الاستقرار الأمني، إلا بعد عقود طويلة، فبحث عن حلٍّ أسرع، حيث أعجب بنموذج مستعمرة هونغ كونغ، التي كانت جزءاً من الصين جغرافياً وليس سياسياً، إذ كانت الحكومة البريطانية تديرها. وفيما كان الشعب الصيني يعاني الفقر والتخلّف الاقتصادي بسبب الشيوعية والفساد، ازدهر شعب هونغ كونغ بسبب الانفتاح الاقتصادي وقلة الفساد في تطبيق القوانين، خصوصاً قوانين حقوق الملكية.

وهدف رومر إلى استنساخ هذه التجربة في أماكن أخرى، من خلال إقناع حكومات دول فقيرة بإنشاء مدن مستقلة على أراضيها، لا تخضع لقانون الدولة، بل تدار وفق قواعد جديدة وخاصة بها. لكن من سيديرها؟ في البداية، سعى رومر إلى إقناع دولة ثرية بالقبول بإدارة المدينة، كما حصل في هونغ كونغ. لكنه أدرك أن شعب الدولة المستضيفة سيعترض على ذلك، نتيجة لقرب الترتيب إلى استعمار. فطرح رومر كبديل تشكيل هيئة إدارية مستقلة تنتمي إلى مجموعة من دول ثرية، لكي يظهر المشروع تنموياً وليس استعمارياً.

ووصل رومر إلى مرحلة متقدمة في التفاوض مع حكومة مدغشقر، لكن شعبها رفض المشروع في آخر لحظة. واقتنعت حكومة هندوراس بالفكرة، وأُطلقت، إلا أن رومر استقال من المجلس الإداري لدى المدينة المستقلة بعدما خالفت حكومة هندوراس اتفاق الاستقلال. وهو يبحث الآن عن فرصة لإنعاش المشروع بعد تعيينه كبير الاقتصاديين في البنك الدولي.

وفي الشرق الأوسط اليوم، نجد أن أحد أهم أسباب الحروب والاضطرابات هو الضعف الاقتصادي في معظم الدول. وعلى رغم الفوضى المنتشرة، تمكنت دول من خلق بيئة عمل مشجعة للإنتاج ومعززة للاقتصاد، ليس على مستوى سنغافورة أو سويسرا، لكنها تعد من أفضل البدائل المتاحة في الشرق الأوسط. وليس ذلك فقط نتيجة الثروات النفطية، فهناك دول أخرى في الشرق الأوسط لديها كميات كبيرة من الموارد النفطية وغير النفطية، لكن بيئة العمل فيها متدنية للغاية.

ربما هناك مجال للتعاون بين البنك الدولي، تحت إدارة رومر ودول الشرق الأوسط، لخلق مدن مستقلة، ولاستدعاء حكومات للمساهمة في الهيئات الإدارية. وفيما يعود جزء كبير من العنف المنتشر في الشرق الأوسط إلى قلة الفرص الاقتصادية والفساد المفرط، ربما يمكن استخدام وسائل اقتصادية في شكل موازٍ للوسائل الأمنية والسياسية التي تمارسها القوى الكبرى حالياً لمواجهة الصراعات الإقليمية.

لقد أدركت بعض الدول الخليجية، خصوصاً السعودية والإمارات، أهمية السياسات الاقتصادية للاستقرار الإقليمي، لكن ركزتا على النمط التقليدي، تحديداً المساعدات المباشرة، والاستثمارات، كما حصل في كل من مصر، ولبنان، واليمن، وغير ذلك من الدول. ولأجل تعزيز أداء تلك الجهود، فقد تستفيد دول مجلس التعاون من النظر في مشروع المدن المستقلة لدى دومر، لاسيما في ظل الحاجة للبحث عن حلول جديدة في بعض دول الشرق الأوسط، لأن الحلول القديمة لم تنجح.

عمر العبيدلي

* نقلا عن صحيفة ” الحياة “