السر القاتم وراء قضية الأطفال المسروقين في إسرائيل

السر القاتم وراء قضية الأطفال المسروقين في إسرائيل

مجموعة من المستعمرين اليهود لدى وصولهم فلسطين قبل العام 1948 - (أرشيفية)مجموعة من المستعمرين اليهود لدى وصولهم فلسطين قبل العام 1948 – (أرشيفية)

إنه أكثر أسرار إسرائيل حلكة –أو هكذا يصفه صحفي إسرائيلي- في بلد يمتلئ تاريخه القصير بالفصول والفترات المظلمة.
في الشهر الماضي، أصبح تساحي هنغبي، الذي كان وزيراً للأمن الداخلي الإسرائيلي، أول مسؤول حكومي يعترف بأن مئات الأطفال اليهود كانوا قد سُرقوا من أمهاتهم في السنوات التي أعقبت إقامة إسرائيل مباشرة في العام 1948. وفي الحقيقة، يرجح كثيراً أن تكون الأرقام بالآلاف وليس بمجرد المئات.
منذ ما يقرب من سبعة عقود، أنكرت الحكومات المتعاقبة –وثلاثة تحقيقات عامة- وجود أي مخالفات بهذا الصدد. وخلصت التحقيقات إلى أن كل الأطفال المفقودين تقريباً قد ماتوا، وذهبوا ضحايا لذلك الزمن الفوضوي عندما كانت إسرائيل تستوعب عشرات الآلاف من المهاجرين اليهود الجدد.
ولكن، وبينما عمدت المزيد والمزيد من العائلات –تساعدهم في ذلك وسائل الإعلام الاجتماعية مؤخراً- إلى الكشف عن معاناتها من هذه القضية، بدأت القصة الرسمية تصبح غير قابلة للتصديق على نحو متزايد.
فمع أنه قيل للكثير من الأمهات في تلك الفترة إن أطفالهن ماتوا خلال الولادة أو بعدها بوقت قصير، فإن أحداً لم يرِهن الجثة أو القبر مطلقاً، ولم يتم إصدار شهادات وفاة أبداً. وثمة أخريات ممن اختطفت الممرضات أطفالهن من بين أذرعهن، وهن يوبخنهن على إنجاب أطفال أكثر مما يمكنهن رعايتهم بشكل مناسب.
وفقاً للنشطاء، تم انتزاع ما يقدر بأكثر من 8.000 طفل رضيع من أسرهم في السنوات الأولى لقيام الدولة، والذين إما تم بيعهم أو تم إعطاؤهم لأزواج يهود محرومين من الأطفال في إسرائيل والخارج. وبالنسبة للكثيرين، يبدو ذلك منطوياً على شبه الاتجار بالأطفال.
بعد ذلك، جرى لم شمل القليل من أولئك الأطفال مع أسرهم البيولوجية، لكن الغالية العظمى منهم ليسوا مدركين كونهم قد أُخِذوا من عائلاتهم الحقيقية ببساطة. وتعني قوانين الخصوصية الإسرائيلية الصارمة أن يكون من شبه المستحيل بالنسبة إليهم رؤية الملفات الرسمية التي ربما تكشف عن تعرضهم للتبني السري.
هل كانت المشافي ومنظمات الرعاية الإسرائيلية تعمل في ذلك من تلقاء نفسها، أم أنها كانت متواطئة مع أجهزة الدولة؟ ليس ذلك واضحاً. لكن من الصعب تصور وقوع مثل هذا الحجم من عمليات الاختطاف الجماعي من دون أن يغض المسؤولين طرفهم عنها على أقل تقدير.
تشير الشهادات إلى أن المشرعين وموظفي وزارة الصحة وكبار القضاة كانوا يعرفون عن هذه الممارسات في ذلك الوقت. ويشير قرار تصنيف كافة الوثائق ذات الصلة بأولئك الأطفال تحت بند السرية إلى وجود حالة تستر مقصودة على تلك الأحداث.
كان هنغبي، الذي أسند إليه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مهمة إعادة النظر في تلك المواد المصنفة، كان مراوغاً بشأن الإجابة عن سؤال حول التورط الرسمي. وقال: “ربما لن نعرف أبداً”.
الآن، أصبح منتقدو إسرائيل معتادين تماماً على الفظائع المعروفة المرتبطة بتأسيس الدولة -وليس أقلها طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم في العام 1948 من أجل فتح الطريق أمام إسرائيل ومهاجريها اليهود الجدد.
ومع ذلك، تشكل قصة الأطفال المسروقين صدمة إضافية غير متوقعة. فتلك الجرائم لم تُرتكب في حق الفلسطينيين، وإنما في حق يهود آخرين. وكان الآباء الذين اختُطِف أطفالهم قد وصلوا إلى الدولة الجديدة مستجيبين لإغراء الوعود بأنهم سيجدون في إسرائيل ملاذاً دائماً من الاضطهاد.
لكن اختطاف الأطفال والطرد الجماعي للفلسطينيين في نفس الوقت تقريباً لم تكوّن أحداثاً غير ذات صلة. وفي الحقيقة، لا تكتفي فضيحة الأطفال المسروقين بإلقاء الضوء على ماضي إسرائيل فحسب، وإنما على حاضرها أيضاً.
لم يتم الاستيلاء على أولئك الأطفال الرضع المسروقين بشكل عشوائي. كانت هناك فئة معينة مخصوصة هي المستهدفة بتلك العمليات: اليهود الذين كانوا قد هاجروا تواً من الشرق الأوسط. وكان معظمهم من اليمن، مع آخرين من العراق والمغرب وتونس.
كان ينظر إلى عروبة هؤلاء اليهود باعتبارها تهديداً مباشراً لبقاء الدولة اليهودية، وواحداً لا يقل خطورة عن التهديد الذي يشكله وجود الفلسطينيين أنفسهم. وقد عكفت إسرائيل على “اجتثاث عروبة” اليهود الشرق أوسطيين بنفس العزيمة الفولاذية التي انكبت بها على إخراج معظم فلسطينيي المنطقة من بلادهم.
مثل معظم جيل إسرائيل المؤسِس، كان ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للدولة، قادماً من أوروبا الشرقية. وقد قبل بالأفكار العنصرية الاستعمارية المهيمنة في أوروبا، واعتبر اليهود الأوروبيين أناساً متحضرين قادمين إلى منطقة بدائية بربرية.
لكن الصهاينة الأوروبيين الأوائل لم يكونوا استعماريين ببساطة. لم يكونوا مثل البريطانيين في الهند، على سبيل المثال، الذين كانوا معنيين بشكل رئيسي بإخضاع السكان الأصليين واستغلال مواردهم. وإذا كان البريطانيون قد وجدوا “ترويض” الهنود مرهقاً للغاية، كما تبين في نهاية المطاف، فقد كان بإمكانهم حزم أمتعتهم والرحيل.
لكن ذلك لم يكن من ضمن الاحتمالات مطلقاً بالنسبة لبن غوريون وأتباعه. لم يكن هؤلاء قادمون فقط لمجرد هزيمة السكان المحليين، وإنما جاؤوا للحلول محلهم. وكانوا في طريقهم إلى بناء دولتهم اليهودية على أنقاض المجتمع العربي في فلسطين.
يشير الباحثون إلى هذه المشاريع –التي تقصد إلى إقامة وطن دائم على أرض شعب آخر- باسم “الاستعمار الاستيطاني”. ومن أبرز الحالات المعروفة لهذه المشاريع، استيلاء المستعمرين الأوروبيين على أراضي كل من أميركا الشمالية وأستراليا وجنوب أفريقيا.
وقد لاحظ المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي أن حركات المستوطنين المستعمرين تتميز عن الاستعمار العادي بما يسميه “منطق القضاء على الآخر” الذي يدفعها. ويترتب على مثل هذه المجموعات الاستيطانية اعتماد استراتيجيات قائمة على العنف الشديد ضد السكان الأصليين. وربما تقوم بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، كما حدث في حق الشعوب الأميركية الأصلية وسكان أستراليا الأصليين. وإذا لم تكن الإبادة الجماعية ممكنة، فإنهم ربما يفرضون بدلاً من ذلك نظام التفرقة العنصرية بالقوة على أساس معايير عرقية، كما حدث في نظام الفصل العنصري لجنوب أفريقيا. أو أن هذه الجماعات ربما تتبنى أكثر من استراتيجية واحدة في الوقت نفسه.
بذلك، لم يكن بن غوريون يحتاج إلى تدمير المجتمع الفلسطيني فحسب، وإنما أراد ضمان أن لا تتسلل “العروبة” إلى داخل دولته اليهودية الجديدة من الباب الخلفي.
كانت الأعداد الكبيرة من اليهود العرب الذين وصلوا في العقد الأول ضرورية بشدة لحربه الديمغرافية ضد الفلسطينيين وكقوة للعمل أيضاً، لكن هؤلاء القادمين شكلوا خطراً أيضاً. وكان ما يخشاه بن غوريون هو أن هؤلاء -مهما كانت ديانتهم- ربما “يفسدون” دولته اليهودية ثقافياً عن طريق استيراد ما وصفه بأنه “روح بلاد الشام”.
كان بن غويون يعتقد بأن اليهود البالغين القادمين من المنطقة لا يمكن تدريسهم لإخراجهم من “بدائيتهم”. لكن القيادة الصهيونية أملت بإمكانية إخراج الجيل التالي –ذريتهم- من هذه البدائية. سوف يتم إصلاحهم من خلال التعليم وزراعة الكراهية لكل شيء عربي فيهم. وسوف تصبح المهمة أكثر سهولة أيضاً إذا تم فصلهم أولاً عن عائلاتهم البيولوجية.
يشير الناشطون الإسرائيليون الذين يسعون إلى جلب العدالة لأسر الأطفال المسروقين إلى أن النقل القسري للأطفال من مجموعة عرقية إلى أخرى يتفق تماماً مع تعريف الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.
من المؤكد أن سرقة الأطفال اليهود العرب وإعادة توزيعهم على اليهود الأوروبيين توافقت تماماً مع منطق الاستعمار الاستيطاني الإقصائي القائم على إفناء الآخر. ولم تكن تلك الاختطافات فريدة من نوعها ومقتصرة على إسرائيل. فعلى سبيل المثال، قامت أستراليا وكندا بانتزاع الأطفال الرضع من بين السكان الأصليين المتبقين في محاولة لـ”جعلهم متحضرين”.
على ما يبدو، كانت “إعادة تعليم” اليهود العرب الإسرائيليين ناجحة إلى حد كبير. ويعتمد حزب ليكود نتنياهو الفتاك المعادي للفلسطينيين بشدة على دعم هذه المجموعة اليوم. وفي الحقيقة، كان عدم اجتراء نتنياهو على تنفير مثل هؤلاء الداعمين هي التي جعلته يوافق على إجراء فحص جديد للأدلة المتعلقة بقضية الأطفال المسروقين. ولكن، إذا كان ثمة درس يمكن استخلاصة من اعتراف الحكومة الجزئي بشأن الاختطافات، فهو ليس أن نتنياهو ونخبة إسرائيل الأوروبية أصبحوا مستعدين الآن لتغيير طرقهم.
بدلاً من ذلك، ينبغي أن ينبّه ذلك يهود إسرائيل العرب إلى حقيقة أنهم يواجهون نفس العدو، مثلهم مثل الفلسطينيين تماماً: مؤسسة يهودية أوروبية ما تزال مقاوِمة بحزم وعناد لفكرة العيش بسلام واحترام مع أي من العرب أو المنطقة على حد سواء.

جوناثان كوك – (أن. بي. آر) 15/8/2016

*نشر هذا الموضوع تحت عنوان:

The Dark Secret of Israel’s Stolen Babies

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

الغد الاردنية