ولاية الفقيه في إيران: التباس سياسي وتفسير متناقض للإسلام

ولاية الفقيه في إيران: التباس سياسي وتفسير متناقض للإسلام

_87687_61

لا ريب أن فهمنا للدين الإسلامي الحنيف يتناقض تماما مع نظرة الملالي والمتطرفين على شاكلته من الأنظمة والمنظمات والأحزاب. ويمتاز هذا الفهم بأن ديننا لا يتناقض مع العلم بل على العكس تماما، والدليل على ذلك أن الإنجازات العلمية الحديثة تأتي مؤيدة للعقائد الدينية الثابتة. علما بأن هناك ثوابت لا تتغير في القرآن والحديث النبوي وهي “المُحكَمات”، إلى جانب وجود بعض الأحكام التي من شأنها أن تتغيّر في ضوء هذه المحكمات، وهي التي يشار إليها في القرآن الكريم بـ”المُتشابهات”.

وفي تأييدهم لعدم التناقض بين الدين والعلم يرى كل الذين يتناقضون مع فهم الملالي وممارساتهم في الآية الواردة في سورة سبأ خير دليل على هذه الحقيقة، إذ يقول سبحانه وتعالى “وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد”.

وهذا يعني لمن أُوتي نعمة العلم والمعرفة أن تطوّر العلم لدى الإنسان ليس ضد المنزلات الإلهية، بل يعني في حقيقته أنه كلما تقدّم هذا الإنسان في كشف رموز الكون من خلال الإنجازات العلمية، كلما يقترب من الحقائق المنصوص عليها في الكتب السماوية.

وتأكيدا على موقفهم هذا، يرون في القرآن الكريم ديناميكية خاصة. فهو الكتاب الأخير الذي جاء به خاتم الأنبياء، ويضم مجمل الحقائق الأصيلة في الكون.

لكن الظلاميين المتزمتين يرون في كتاب الله وكأنه مجموعة من السور والآيات الجامدة التي لا تقبل التطوير ولا التغيير وفق الظروف، حتى ولو كان ذلك لا يتناقض مع الثوابت. مع أن هذه الرؤية الضيّقة تعني أنه إذا كانت هذه حقيقة مضمون القرآن فإنه لا يمكن، والحالة هذه، أن يكون الكتاب الأخير المُنزَل بدليل أن القرآن ذاته قد أكد على ذلك من خلال تنوّع الآيات القرآنية بين المحكمات والمتشابهات، إذ جاء فيه “هو الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ”.

الرجم والإعدامات التي يقوم بها النظام يهدفان إلى خلق الرعب بين الناس تماما كما يفعل تنظيم داعش الإرهابي

وفي ضوء هذه الرؤية المناقضة لرؤية الملالي وما ينفذونه على الأرض، جاء موقف مجاهدي خلق الرافض لعقوبة الرجم المطبّقة من قبل النظام الحاكم في إيران، انطلاقا من اعتبارها عقوبة ضد الإنسانية بأسلوب همجي بشع.

أمام هذين الموقفين المتناقضين في فهم روح الإسلام يبدو هذا الموقف واضح الأبعاد المتّسمة بالديناميكية والتكيّف في التعامل مع التطور إلى جانب الالتزام الدائم بالجوهر.

ويعود ذلك في نظرهم إلى أن الدين الإسلامي ليس شريعة جافة، ذلك لأنه لو كان عائدا إلى القرون الماضية ويقف عندها بنصّه الحرفي وليس بروحه الثابتة مع الزمن، لما بقي هناك دافع للإيمان بأنه لكل زمان ومكان مع أنه كذلك.

وهنا يستوجب طرح السؤال التالي على أركان نظام الملالي وأتباعه: كيف توفقون بين استفادتكم من فتح باب الاجتهاد، وتسمحون لأنفسكم بالتحكم فيه على صعيد إقرار الحلال والحرام كما تشاؤون لكي يصب لصالحكم، بينما تتجاهلون إمكانية هذه الاستفادة في ما يتعلق بإعادة النظر في عقوبة الرجم علنا على سبيل المثال؟

أليس بإمكان الذي يجتهد على صعيد تحليل المحرم وتحريم المحلَل (سواء كان نظاما أم تنظيما سلفيا) أن يجتهد أيضا في النظر إلى موضوع استمرار تنفيذ عقوبة الرجم غير المنصوص عليها في كتاب الله، كي تجري الاستعاضة عنها بما يُقدّره القانون في هذا الزمان من عقوبة لهذا الجرم أو ذاك؟

الملالي وداعش

معروف لدى الجميع أن الملالي ينفذون على الدوام عمليات الإعدام والرجم والجلد علانية أمام العالم باسم الإسلام وتحت غطاء الدين، وأنهم يهدفون من وراء ذلك إلى خلق أجواء الرعب بين الناس بالدرجة الأساس، تماما كما يفعل تنظيم داعش الإرهابي وسائر المنظمات الموغلة مثله في ممارسة أبشع أساليب الإجرام تحت نفس الغطاء.

هناك فارق بين مواقف وممارسات نظام الخميني وبين كل المقاومين له الذين واجهوا العدوانية باسم الإسلام

فإذا كان هذا هو الإسلام وهذه هي تطبيقاته “الشرعية” في نظرهم، فما هي الجاهلية إذن؟ وكيف تكون قسوة القلوب وأساليب العقاب الخالية من الإنسانية مثل فقء العيون وقطع الأيدي وغيرهما من التي ينحدر أصلها إما من الأحبار منذ غابر الأزمـان وإما تكمن جذورها في قوانين تلمود؟

سؤال آخر يُطرح في هذا السياق متناقض الأوجه: كيف يمكن أن يُفسِّر الملالي أخذهم بآخر الإنجازات العلمية والتقنية والاختصاصية في بداية القرن الواحد والعشرين إلى جانب إصرارهم على تنفيذ صنوف من العقوبات وأحكام القصاص رغم عدم النص الصريح عليها في القرآن الكريم والتي تعود إلى ما قبل الآلاف من السنين؟

إذا كان جوابهم على ذلك أنها إنجازات علمية وتقنية ليس إلّا، فكيف يفسّرون إذن استخدامهم للصواريخ بعيدة المدى والمتوسطة، والأسلحة الكيميائية والنووية والجرثومية، واستمرار البحث عن أحدث أدوات الدمار الشامل، بدل استخدام المنجنيق والخيول والسهام والتروس وما شابه ذلك؟ ثم لماذا يستخدمون- بتحديد أكثر دقّة – كل ما يخدمهم ويخدم استمرار نظامهم، وينفذون كل ما يفرض سيطرتهم على “الرعيّة” ويُرهبها مهما بلغت درجة وحشيته (مثلما تقلّدهم في ذلك منظمات الإرهاب أيضا) كبتر الأيدي وإلقاء المحكوم عليه حيا من مكان عال على الأرض تنفيذا لقانون القصاص و”العقوبات الإسلامية” الذي يُعتبر مناقضا للمبادئ الإسلامية؟

داعش صناعة إيرانية

فاعلية تطور القرآن

حتما لن يصدّق الكثيرون أن هؤلاء الملالي كانوا حتى السبعينات من القرن الماضي يعتبرون حلق اللحية حراما، وهذا ما كان يصرح به الخميني علنا. وكيف أن عدداً منهم كانوا يعتبرون حتى الهاتف والسيارة والقطار وكذلك الراديو والتلفزيون من المحرمات، قبل أن تُصبح رغما عنهم “حلالا” من ضرورات الحياة.

هذا المثل على التغيير، رغم عدم إيمانهم بإمكانية التغيير، يُعيدنا إلى الحديث عما ينطبق على الأحكام “المتشابهة” التي يجب أن تنطبق مع الظروف دون أن تتناقض مع الروح، حيث تحضرنا العديد من الأمثلة على ما يمكن التطوير والتغيير فيه تبعا لتغيّر الظروف وظهور بعض المستجدات، وهذا ما لا يعترف ملالي طهران به ولا سائر جماعات الإرهاب السائرة على نهجهم. نرى أبرزها ما حصل في عهد النبي الكريم الذي شهد وقتها ثورة كبرى تتعلق باعتبار المرأة والرجل متساويين، ثم اعتباره العبد متساويا في الحقوق من حيث الأساس مع الحُرّ، ورفضه وجود نوعين من البشر وفق مقاييس خارج إطار اعتبار التقوى هي المقياس الوحيد للإيمان والكرامة والتحرّر نزولا عند قوله تعالى “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

إلى جانب ذلك، وفي مثل ذلك الوقت وتلك الظروف التي كانت فيهما سائر القوانين بدءا من قانون روما وحتى قوانين إيران تنصّ على تفضيل الرجل على المرأة، وأفضليّته لتولي الولاية والسلطة المطلقة باعتبار ذلك قانونا أزليا، قام الإسلام باجتثاث جذور التمييز الجنسي والعنصري والعرقي والقومي، محققا ثورة عظمى بين البشر وعلى صعيد الحقوق المدنية من خلال اعتباره النساء اللواتي كُنّ مستبعدات عن حلقة الإنتاج صاحبات حقّ في الإرث والشهادة بنسبة تساوي نصف ما يحق للرجل.

أمام هذه الحقيقة التاريخية، وطالما أن إرادة الخالق عز وجلّ قد ساوت بين بني البشر من حيث المبدأ، ولم تُفرّق بين أحد منهم في الحقوق، وأن أي تغيّر تفرضه الظروف وفق الأحكام المتشابهة دون أن يتناقض مع الروح ممكن، فهل من المنطق أن يبقى مُقرّرا إلى الأبد أن حق المرأة في الإرث والشهادة يعادل نصف حق الرجل حتى بعد تغيّر الظروف والأحوال، وبعد أن دخلت حلبة النضال والإنتاج بالتكافؤ جنبا إلى جنب مع الرجل؟

طبعا، لم يعد أمرا واردا من حيث المبدأ وطبقا لتغيّر الظروف أن تكون حصة المرأة في هذه الأيام نصف حصة الرجل، بينما كانت تتمتّع في عصر الإسلام بحق سياسي متساو مع حق الرجل، وبحق الملكية الاقتصادية المستقلة خلافا لقوانين الملكية في الدول الغربية مثل فرنسا التي لم تكن تعترف حتى منتصف القرن العشرين بحق المرأة في التملك والتصرف المستقل.

وهذا هو الاجتهاد في إحقاق الحق تبعا لتغير الظروف دون المساس بروح الثوابت، وهو الذي ألمسه في آراء المجاهدين، بينما كانت رؤية الخميني والملالي التابعين من بعده أنه ليس أكثر من باب للمراوغة والتحايل والانتهازية. إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكننا أن نفسّر موقف الملالي الذين كانوا يردّدون في عهد الشاه، أن الغناء والموسيقى حرام، ثم ما لبثوا بعد أن وصل الخميني إلى السلطة وأحكم سيطرته على الإذاعة والتلفزيون أن رأى أنه لا يمكن إدارتهما في ظلّ تحريم الموسيقى، فاضطر إلى إصدار فتوى تحللها وتعتبرها مباحةَ؟

لا يمكن القول إن الاجتهاد يعني إصدار الأحكام حول كيفية الصلاة والصيام لأنها واضحة على الدوام، فما هو الهدف من ورائه إذن؟

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، يتوجّب التنويه هنا إلى أن حلاقة اللّحية وسماع الأغاني ولعب الشطرنج كانت جميعها من المحرّمات وفق الرأي السابق للملالي من أتباع الخميني، وقد أصبحت الآن كلها حلالا زلالا في شريعتهم وهذا هو النفاق بعينه. وإلّا فكيف يعتبرون إعدام النساء المجاهدات الحوامل شنقا أو رميا بالرصاص حلالا مثلما يحللون ممارسة أكثر من مئة وسبعين أسلوبا بشعا من التعذيب الهمجي، في تناقض صارخ مع قول الإمام علي الذي يتشدقون بطاعته “إياكم والمثلة (أي التمثيل بالجسد) ولو بالكلب العقور”.

وعليه، لا يمكن القول إن الاجتهاد يعني إصدار الأحكام حول كيفية الصلاة والصيام لأنها واضحة على الدوام، فما هو الهدف من ورائه إذن؟ ولماذا كل تلك الخلافات حوله خصوصا في ما يتعلّق بنظرة أهل الحكم في إيران الملالي ومن هم على شاكلتهم المتحجرة؟ وما هو هدفهم من وراء التشدق بإطاعة الإمام علي بينما يرتكبون في ظل شريعة الخميني كل ما يُناقضه، ومن ذلك تجارة الرقيق وامتلاك العبيد؟ أليست الأحكام والحقوق المتعلقة بإطلاق سراح الرقيق والعبيد في عهد النبي الكريم (ص) توجها نحو القضاء على هذه الظاهرة وإلغائها؟

بين الظلامية والتعايش

يشار هنا إلى أن تجارة الرقيق قد ألغيت في أميركا خلال القرن التاسع عشر، وقد كان من قبل أرسطو، مؤسس الفلسفة اليونانية الذي سيطرت أفكاره على عالم العلم والثقافة، يصف العبد في كتابه الذي يحمل عنوان “السياسة” بأنه “أداة ذات حياة”، وليس إنسانا متساويا مع سائر بني البشر. ولكن موقف القرآن من هذه الظاهرة مختلف تماما حيث يفضل العبد المؤمن على الحر المشرك. أي أن الله سبحانه وتعالى يُفرّق بين أولئك الذين يتميزون بصدور رحبة ورؤية واضحة وفهم عميق للإسلام، وبين الظلاميين والسلفيين قساة القلوب. وهو الفارق الظاهر أمام العالم بين حكم الملالي ومعارضيه والمقاومة الإيرانية. وهذا ما يُفسّر لماذا كان الخميني عدوّا لمجاهدي خلق إلى أقصى حد. لهذا أصدر الفتوى بحرقهم وهدر دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وفي ذلك تفسير لوجود موقفين متناقضين تماما من الإسلام بينهما.

هناك فارق كالبُعد بين الأرض والسماء بين مواقف وممارسات نظام الخميني وبين كل المقاومين له الذين دفعوا الكثير على طريق مواجهة التطرف

وللوقوف على أسباب هذا الحقد وأبعاده واستيعاب مدى فهم عموم المقاومة الإيرانية للإسلام، يحضرني هنا جانب مما سمعته على لسان السيدة مريم رجوي بقولها “في ما يتعلق بجوهر العقائد الإسلامية فإن الاسلام والقرآن يقدمان السلام والتعايش والأخوة لأتباع جميع الأديان، فمن أين تأتي المشكلة إذن (في العراق مثلا)؟ إنها تأتي من حكام مجرمين يعملون من أجل تكريس الطائفية والعداء بهدف حفظ عروش سلطتهم”.

وتوقفت رجوي باستغراب أمام الذين يلتزمون الصمت حيال أبشع فظائع هذا النظام مع أن الإسلام قد جاء من أجل التسامح والتعايش بين مختلف الأديان والمذاهب والقوميات، واستشهدت على ذلك بقول القرآن الكريم “إِنَّ الّذينَ آمَنُواْ وَالّذينَ هادُواْ وَالنَّصارى وَالصّابِئينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيوْمِ الْآخِرِ وعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ اَجْرُهُمْ عند رَبِّهِمْ”. ثم تساءلت عن سرّ هذه الحرب بين الشيعة والسنة التي هي ديدن الخميني ويغذّيها أتباعه في العراق بارتكاب الجرائم ضد أهل السنة وحرمانهم من حقوقهم السياسية والاجتماعية، عدا عن قيامهم داخل إيران بسجن وإعدام عدد كبير من أهل السنة الإيرانيين. بينما لا يزال العشرات منهم يقبعون في السجون رهن تنفيذ أحكام الموت بحقهم.

خلاصة القول، هناك فارق كالبُعد بين الأرض والسماء بين مواقف وممارسات نظام الخميني وبين كل المقاومين له الذين دفعوا الكثير على طريق مواجهة التطرف والحروب العدوانية وإراقة الدماء باسم الإسلام، مع أن القرآن الكريم قد شدّد في العديد من الآيات على عدم التفرقة بين المعتقدين لمختلف الأديان وأن لا فرق بين الرسل بقوله “آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله”. كما أن الآيات تشير إلى أن الأساس هو الإيمان والعمل الصالح بغض النظر عن ماهية الدين، كقوله تعالى “إِنَّ الّذينَ آمَنُواْ وَالّذينَ هادُواْ وَالنَّصارى وَالصّابِئينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيوْمِ الْآخِرِ وعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ اَجْرُهُمْ عند رَبِّهِمْ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. هذا هو الفارق الأساس في نظري بين الوجه الشرعي الأصيل ونقيضه القائم على التحايل والتحريف وتصدير الإرهاب.

سيّد أحمد غزالي

نقلا عن العرب