التراجع والوهم: هل تتداعى “داعش” أخيراً؟

التراجع والوهم: هل تتداعى “داعش” أخيراً؟

عناصر من القوات الخاصة العراقية في الفلوجة أثناء تطهيرها من "داعش" - (أرشيفية)

الهجمات الإرهابية على الغرب تجعل “الدولة الإسلامية” تبدو أقوى من أي وقت مضى. لكن الحقيقة هي أن قوات التحالف قطعت شوطاً جيداً على الطريق إلى هزيمة المجموعة الإرهابية في قلب أراضيها الأساسية. وتفيد مصادر على الأرض بأن “الخلافة” آخذة في التحلل.
*   *   *
أصبحت الأمور هادئة في أكبر مدن “الخلافة”، كما يقول الرجل من الموصل. وقد أمضى بعض الوقت في ضواحي المدينة، متنقلاً هناك على الأقدام في بعض الأحيان، حتى يتمكن من تمرير بعض التفاصيل من داخل “الدولة الإسلامية”، كما فعل في كثير من المرات. ويقول: “عندما كان القتال في الفلوجة ما يزال دائراً، كانت هناك دعوات عبر مكبرات الصوت في المساجد لخمس مرات في اليوم على الأقل، والتي تدعو الناس للانضمام إلى المعركة. وزعم هؤلاء الرجال أن الدولة ستنتصر. وقالوا إن لديهم الآلاف من المقاتلين وأطنانا من الذخائر والأسلحة هناك، وإن الفلوجة لا يمكن أن تسقط. ولكن، منذ سقطت المدينة، لم تعد هناك المزيد من المناشدات”.
في نهاية شهر حزيران (يونيو)، تمكن الجيش العراقي، إلى جانب مقاتلين من القبائل السنية وأعضاء الميليشيات الشيعية، من تحرير المدينة القريبة من بغداد من الإسلاميين. وكانت تلك أكبر هزيمة تلحق بمجموعة “داعش” حتى الآن، والتي شرعت في الخسارة على جميع الجبهات منذ أشهر.
في الأسابيع الأخيرة، تعرض الناس للهجمات في اسطنبول ودكا، وبغداد وبيروت، ونيس وأنسبش، بل وحتى في قطار إقليمي بالقرب من فورتسبورغ، من مهاجمين يستخدمون القنابل والأسلحة الأوتوماتيكية والبلطات. وفي الحقيقة، جعل ذلك “الدولة الإسلامية” تبدو أقوى وأكثر خطورة من أي وقت مضى في نظر الناس في الغرب، لكن موجة الإرهاب تداخلت ببساطة مع الأحداث التي تتكشف في مناطق “داعش” الأساسية.
الضغط في تصاعد
الحقيقة هي أن الضغط يتصاعد على “الخلافة”، في سورية والعراق على حد سواء. فثمة هجوم وشيك على الموصل، في حين تقترب القوات التي يقودها الأكراد من ثاني أقوى معاقل “داعش”؛ مدينة الرقة السورية. وفي ليبيا، تتقدم القوات الحكومية حثيثاً في اتجاه مدينة سرت التي يسيطر عليها التنظيم، بدعم جوي من الولايات المتحدة. ويمكن أن تكون هذه جميعاً عوامل مساهمة خلف الزيادة الدرامية في عدد الهجمات التي يشنها “داعش” في الفترة الأخيرة.
الصورة التي تظهر من إفادات المصادر، من الناس الذين يخاطرون بأرواحهم من أجل توفير المعلومات من تلك المناطق، هي صورة قوة في طور الانهيار، والتي بدأت بالتأرجح بين التراجع والوهم. ويقول الناس الذين يعيشون في المناطق المختلفة التي يسيطر عليها “داعش”، برواية شبه موحدة تقريباً، إن المجموعة الإرهابية ما تزال تتمتع بسيطرة على الناس الذين يعيشون هناك. ولكن، بالنظر إلى أن السيطرة والخوف هما الأداتان الوحيدتان الحقيقيتان المتاحتان للمجموعة من أجل فرض الهيمنة، فإن كل هزيمة عسكرية تالية توجه للمجموعة ضربة أكثر شدة وتأثيراً من سابقتها.
يقول الرجل الذي يرسل الأخبار من منطقة قريبة من مدينة الحويجة الواقعة إلى الجنوب من مدينة كركوك في العراق: “يبدو المقاتلون متوترين ومحبطين، ولأول مرة يبدون خائفين. البعض شرعوا فعلياً في إرسال عائلاتهم إلى الموصل. ومن بين المحليين الذين انضموا إلى التنظيم سابقاً، يقول الكثيرون الآن إنهم نادمون، وإنهم خُدعوا أو أُجبِروا على الانضمام. ولو أن الحكومة في بغداد تعدهم بعفو، فإنهم يمكن أن يحاولوا العثور على طريقة للوصول إلى مواقع الجيش لتجنب الوقوع في براثن الميليشيات الشيعية القاتلة”.
الآن، أصبح نفس الناس الذين استخدموا سلطتهم كأعضاء في “داعش” خلال زمن تقدم المجموعة في العام 2014 لينهبوا الثلاجات وأجهزة الميكروويف من منازل الجيران الذين هربوا، أصبح هؤلاء يتحولون هم أنفسهم إلى لاجئين. وفي مدينة الحويجة، عرض داعشي “مجموعة كاملة من الأثاث في السوق لقاء 20 دولاراً، لكنه يستحق بالتأكيد نحو 700 دولار”، كما يشرح الرجل من الحويجة. ويحاول البعض مغادرة مناطق “الخلافة” كلها، كما يقول، وأن يشقوا طريقهم شمالاً باتجاه المناطق الكردية. ومع ذلك، لا يتجه أحد إلى الجنوب. ووفقاً للرجل، فإن القوات الشيعية هناك تقتل أي شخص كان مع “داعش”.
أكثر تعلقاً بالوهم
بينما تنجح التشكيلة المتنافرة من التحالفات بين الميليشيات الكردية والشيعية، والجيش العراقي والقوات الجوية الأميركية، في استعادة منطقة تلو أخرى من المجموعة، تصبح قوات الشرطة الدينية، “الحسبة” التابعة للدولة الإسلامية والمنتشرة في كل مكان أكثر تعلقاً بوهم القوة باطراد في جهودها للحفاظ على السيطرة. في السابق، كان التدخين والموسيقى ممنوعين منذ وقت طويل، ولم يُسمح للنساء بمغادرة المنازل إلا إذا كن يرتدين النقاب وبصحبة أزواجهن أو قريب من الذكور. والآن، منع الإسلاميون الناس حتى من ارتداء الملابس الحمراء.
يقول أحد سكان مدينة الموصل: “الأحمر هو لون احتفالي، كما يقولون، وهو لذلك ممنوع. وفي حصص الرياضيات في المدرسة، لم يعد من المسموح استخدام إشارة الجمع، +، إنها الصليب المسيحي كما يقولون. والآن عليك أن تكتب: “1 مضاف إلى 1، إن شاء الله، يساوي 2″. ويخاطر أولئك الذين يستعملون علامة الجمع القديمة بالتعرض للعقاب. كما أن القمصان أو الأعلام التي تحمل علامة الصليب في أي مكان -مثل شعار فريق برشلونة الأسباني، على سبيل المثال- أصبحت ممنوعة الآن منعاً باتاً”.
تبدو هذه الإجراءات محاولات غريبة للاحتفاظ بالسيطرة في داخل المناطق التي يحكمها “داعش”، حتى بينما تتضاءل هذه السيطرة بسبب الضغط العسكري من الخارج. والحقيقة هي أن سلطة “الدولة الإسلامية” آخذة في التضاؤل مستمر، ولن تساعد في نقض ذلك القوانين واللوائح المفرطة في التعصب -ويمكنها في أقصى الأحوال أن تخلق مجرد انطباع بأن المجموعة ما تزال قوية.
كانت المراقبة المتواصلة والشاملة منذ وقت طويل مصدراً مركزياً لسلطة “داعش”، والتي ساعدت التنظيم على احتلال مناطق واسعة من الأرض والاحتفاظ بها. في البداية، كان مقاتلوه يراقبون بكثافة وعلى نطاق واسع كل منطقة يريد “داعش” أن يستولي عليها. ثم كانوا يخدعون الناس في تلك المناطق حول هويتهم ونواياهم. وأخيراً، كانوا يسحقون أي مقاومة بوحشية برهانية لا ترحم.
لطالما استخدم “داعش” الدين كوسيلة دعائية في حد ذاته. كما استخدمه لاجتذاب الجهادين من كل مكان، من الشيشان أو تونس، بالإضافة إلى تبرير طغيانه في داخل المناطق التي يسيطر عليها. لكن النظام، المنسوخ إلى حد كبير من نظام صدام حسين، يعمل فقط إذا كان مالكو السلطة قادرين على الاستمرار في ممارستها.
في واقع الأمر، تتآكل سلطة الإسلاميين في الوقت الراهن، وهذا واضح لكل صاحب عين. وبمجرد أن يخسر “داعش” السيطرة على إحدى المناطق، فإن سكانها لا يعودون في حاجة إلى الاحتفاظ بولائهم للمجموعة. ولو كانوا مقتنعين حقاً، ولو أنهم آمنوا فعلاً بـ”الخلافة”، لتمكنت “الدولة الإسلامية” من الاستمرار في الوجود هناك كنوع من السلطة الوهمية.
في أفغانستان، على سبيل المثال، تعزى عودة صعود طالبان إلى حقيقة أن أيديولوجيتها ظلت حية بعد انتهاء حكمها. وبمجرد أن أصبحت الظروف مواتية لطالبان مرة أخرى -في هذه الحالة من خلال وجود حكومة فاسدة تدافع عنها قوات أجنبية- تمكنت المجموعة من العودة. وللسبب نفسه، تأكدت منظمة القاعدة في اليمن دائماً من عدم تحويل مشاعر السكان المحليين ضدها. وربما أعاق ذلك عمليات الاحتلال السريعة، لكنه حال أيضاً دون خيبة أمل المحليين لاحقاً.
لكن “داعش”، على العكس من ذلك، لم ينتظر أبداً نيل موافقة السكان المحليين في المناطق التي يحتلها. ولو أنه حاول كسب القلوب والعقول بدلاً من مجرد اجتياح وسحق القرى فقط، لما كان توسع بالسرعة نفسها كما فعل في المراحل الأولى حتى ربيع العام 2014. لكن الاستراتيجية الوحشية أصبحت تعود الآن تعود بالنتائج العكسية.
ليست هناك أي مدينة أو قرية في سورية أو العراق تنطوي فيها أغلبية من السكان على أي حماس لـ”داعش”، وفقاً لبعض الذين هربوا من مناطق التنظيم أو المخبرين الموجودين على الأرض. وعلى سبيل المثال، يترتب على “داعش” جمع تبرعات الدم للمقاتلين الجرحى بالقوة.
يحاول معظم السكان العاديين البقاء بعيداً عن طريق التنظيم والبقاء على قيد الحياة، ببساطة. وهم خائفون، إضافة إلى أنهم يفترضون أن “داعش” سوف يختفي في المدى البعيد على أي حال. ويبقى القادة المحليون، والعديد من المقاتلين الجهاديين الأجانب موالين لزعيم “داعش” أبو بكر البغدادي، كما يفترض. ولكن، وبخلاف هؤلاء، ثمة قلة قليلة جداً ممن يستمرون في دعم “داعش” بمحض إرادتهم. لم يكن كسب السكان المحليين أبداً جزءا من خطة “الدولة الإسلامية”.
على هذه الخلفية، شهدت المناطق المحررة في شمال سورية النساء بشكل خاص وهن يحتفلن بحريتهن المكتسبة حديثاً بطرق أكثر راديكالية مما قد يتوقع المرء في محيطهن المحافِظ. وعلى سبيل المثال طافت صورة سعاد حميدي، 19 عاماً، وهي تمزق نقابها، كل أرجاء العالم. وتهتف امرأة في أحد الفيديوهات: “انظروا ماذا نلبس. شكراً لكم على تحريرنا. شكراً لكم لأنني أستطيع أن أرتدي الأحمر! سوف أرتدي الأحمر دائماً!”.
وكان مصففو الشعر الذين ظلوا بلا عمل خلال العام أو العامين الأخيرين مبتهجين جداً بالفيضان المفاجئ من الزبائن. أراد الرجال أن يحلقوا لحاهم. وأرادوا قصات شعر عصرية قصيرة وأن يصففوا شعرهم القصير بالهلام؛ إلى الشيطان بالشعر الأشعث الإلزامي في أيام “داعش”. وأصبح بالوسع رؤية الرجال وهم يلعبون الورق وطاولة الزهر في الشوارع مرة أخرى، ويدخنون بطريقة ذات دلالة.
تهديد مستمر
مع ذلك، لم تختف “الدولة الإسلامية” بأي حال من الأحوال. وطالما استمرت الغارات القاتلة التي تشنها الطائرات السورية والروسية، واستمر السنة في العيش تحت خوف أبدي من الشيعة، فإن “داعش” يمكن أن يعود مرة أخرى، حتى لو خسر “الخلافة” تماماً.
كانت المنظمة الإرهابية قد هزمت بشكل كامل تقريباً في العراق ذات مرة في السابق. وفي ذلك الوقت، نزلت تحت الأرض في العام 2008 وأصبحت منسية تماماً تقريباً بحلول الوقت الذي عاودت فيه بعث نفسها في العام 2012، أكثر خطورة من أي وقت مضى. وبالنسبة لجهاز الدعاية في مجموعة “داعش”، أصبح هذا الواقع يخدم كدليل على أن المجموعة عصية على القهر. وقد تساءل المتحدث باسم “داعش” أبو محمد العدناني مؤخراً في خطاب ناري: “هل هُزمنا عندما خسرنا المدن في العراق وأصبحنا في الصحراء من دون مدينة ولا أرض؟ وهل سنهزم وهل ستنتصرون إذا استوليتم على الموصل أو سرت أو الرقة، أو حتى استوليتم على كل المدن؟”، وأجاب: “كلا بالتأكيد”.
استطاع تنظيم “داعش” استعادة قوته قبل أربع سنوات لأن ضباط مخابرات صدام حسين السابقين ضموا قواهم إلى الإسلاميين، وهم محترفو حرب ممن صعدوا سريعاً في صفوف المجموعة، وطوروا لها استراتيجية بعيدة المدى وشكلوا تكتيكاتها. كما استغل “داعش” أيضاً الظروف، بما فيها الحرب في سورية وسياسة التمييز الطائفي في العراق التي استبعدت السنة من السلطة والمناصب العامة.
لعل المأساة في المعركة التي تقودها واشنطن ضد “داعش” الآن هي حقيقة أنها مفرطة في قصر النظر في تركيزها على الضربات العسكرية. ويتجاهل التحالف الظروف الكامنة التي يمكن أن تجعل عودة لتنظيم “الدولة الإسلامية” ممكنة فيما بعد.
قبل أيام فقط من تعهد دبلوماسيين من عشرات البلدان بتكثيف القتال ضد “داعش” في اجتماع عقد في واشنطن في أوائل تموز (يوليو)، كان وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، طار إلى موسكو وقد امتلأت حقيبته بالتنازلات التي كانت الولايات المتحدة مستعدة لتقديمها للروس، والتي تسمح لنظام الدكتاتور السوري بشار الأسد بالبقاء في السلطة، في الوقت الحالي على الأقل.
المشكلة هي أنه طالما استمر الأسد في الحكم، فإن الثورة ضده لن تنتهي. وسوف يعيق وجود الأسد أي اتفاق حقيقي مع فصائل المعارضة المختلفة في البلد -والذي يحقق نوع الوحدة الضروري لإبعاد “داعش”.
بدلاً من ذلك، تسمح الولايات المتحدة لنفسها بأن تستغلها وتستفيد منها، مرة بعد أخرى، تلك المجموعات التي تستخدم القتال ضد الإسلاميين أيضاً لفائدتها الخاصة. ويوم 19 تموز (يوليو)، قتلت القنابل الأميركية 50 مدنياً آخرين في مدينة منبج السورية الشمالية التي يسيطر عليها “داعش”. وكان الأميركيون قد حصلوا على إحداثيات الهدف من ميليشيات قوات سورية الديمقراطية الكردية، والتي تحاول -بالإضافة إلى محاربة “داعش”- طرد السكان العرب من المناطق الواقعة بين معاقلها الكردية.
ما تزال استراتيجيات واشنطن لمكافحة الإرهاب، حتى هذا اليوم، غير قادرة بعد على فهم الأعمال الداخلية لمجموعة “داعش”. وفي حقيقة الأمر، ما يزال الكثيرون يعتبرون المجموعة قوية، حتى في أكثر نقاطها ضعفاً. وقال رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق مايكل هايدن لصحيفة “الواشنطن بوست” مؤخراً: “إن لديهم كل الطاقة وإمكانيات إحداث المفاجأة ومخالفة التوقعات، التي تميز أي حركة شعبوية”. لكن هذا، مع ذلك، هو الشيء الذي لا يميزهم على وجه التحديد.

كريستوفر ريوتر

صحيفة الغد