مستقبل النظام العربي: بين التطورات الجديدة في هيكلية النظام العالمي وتداعيات الثورات العربية(2-2)

مستقبل النظام العربي: بين التطورات الجديدة في هيكلية النظام العالمي وتداعيات الثورات العربية(2-2)

537

إن مجمل ما حدث وما يحدث الآن من تفاعلات وتطورات، منذ موجة الثورات العربية، ينبئ بحتمية تداعي النظام العربي الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية نتيجة لتداعي أنظمة حكم مستبدة وفاسدة أسقطتها إرادة الشعوب، لكن أي بديل سيفرض نفسه بعد أن تستقر الأوضاع في الوطن العربي سيبقى أمره محكومًا بما سوف تؤول إليه تلك الموجة، الثورية، بانتصاراتها وتعثراتها بل وانتكاساتها، كما ينبئ بحتمية تغير هيكلية النظام الإقليمي للشرق الأوسط وأدوار القوى الثلاث الكبرى الفاعلة: إيران وتركيا وإسرائيل التي تشكل الآن قلب أو محور هذا النظام، وخرائط التحالفات والصراعات التي تربط بين هذه القوى والدول العربية، وكذلك أنماط العلاقات والتفاعلات المحتملة بين النظام العربي الجديد.

وصل غرور القوة بالولايات المتحدة، إلى حد التلميح بتجاوز الأمم المتحدة للدفاع عن مصالح أمريكية مهددة، وبالسعي لفرض الزعامة الأمريكية على حساب القوى الغربية الحليفة.

أولا: تأثير تداعيات الثورات العربية على مستقبل النظام العربي

الأمر الذي لاشك فيه أن الثورات التي تفجرت في بعض الدول العربية كانت وليدة تفاعلات تراكمت على مدى سنوات طويلة شهدت تفاقم الكثير من الأزمات والكثير من إخفاقات النظم الحاكمة سواء على مستوى إدارة السياسة والحكم في الداخل وعلى الأخص أزمات تفشِّي سياسات الاستبداد والفساد وسيطرة الدولة البوليسية على كل مناحي الحياة، وما حدث من احتكار للثروة والسلطة واتساع هائل للفجوة بين الأغنياء والفقراء، وضياع الحلم الوطني وغياب الولاء والدافعية للوعي بالوطن واحتياجاته، أو على مستوى إدارة الحكم لعلاقاته العربية والإقليمية والدولية، لكن إلى جانب هذه الحقيقة تكمن حقيقة أخرى هي أن أطرافًا إقليمية وأخرى دولية إن لم تكن طرفًا مباشرًا في تفجير بعض تلك الثورات والانتفاضات، فإنها كانت طرفًا مباشرًا في تفعيل مجرى تطور تلك الثورات سواء باتجاه الاحتواء وضبط المسار أو حتى منع التطور أو باتجاه تفعيل التطورات والوصول بها على النحو الذي آلت إليه.

ربما تكون بعض القوى الإقليمية والدولية قد فوجئت باندلاع تلك الثورات، لكن ربما أيضًا تكشف الوثائق مستقبلًا أن بعض هذه القوى كانت قريبة أكثر مما هو متصور ليس فقط في عملية التحكم وإدارة تطور بعض الثورات، ولكن أيضًا في تهيئة الظروف لتفجر بعضها من خلال ما حدث من تغلغل لهذه القوى على مدى سنوات طويلة في الشئون الداخلية لبعض الدول، وهو التغلغل والتدخل اللذان انحرفا كثيرًا بالأداء الوطني لبعض النظم الحاكمة، ومكّن تلك القوى من امتلاك أدوات التخريب الداخلي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني على النحو الذي تحدث عنه عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في أكتوبر 2010، من أن إسرائيل قامت بأدوار شديدة الأهمية والخطورة داخل مصر منذ عام 1979 (عام توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية) للدرجة التي سوف تحول دون تمكين أي رئيس مصري جديد يأتي لمصر بعد حسني مبارك من أن يقوم بأي عملية نهوض لهذا البلد. ولم يتجاهل تعمد الإشارة إلى دور إسرائيل في إشعال الفتن الطائفية الواحدة تلو الأخرى داخل مصر على مدى تلك السنوات. أما ما جاء على لسان آفي ديختر، رئيس الشاباك الإسرائيلي (الأمن الداخلي) الأسبق فيعام 2008 من أن النفوذ الإسرائيلي قوي في مصر للدرجة التي تجعل قرار الخلافة السياسية بعد حسني مبارك ليس محض مسألة داخلية مصرية بل سيكون لكل من إسرائيل والولايات المتحدة دور في ذلك، وأن إسرائيل لن تسمح بمجيء رئيس لمصر بعد مبارك لا يعلن التزامه المسبق بمعاهدة السلام مع إسرائيل، وأنها تدعم مجيء جمال مبارك رئيسًا لمصر، لأنه ملتزم بمعاهدة السلام، لكن الأخطر هو ما قاله عن أدوات التغلغل والسيطرة الإسرائيلية على مقاليد القرار السياسي في مصر، حيث أوضح أن هذا النفوذ القوي لإسرائيل داخل مصر يعتمد على ركيزتين: الأولى هي شركاء إسرائيل من رجال الأعمال المصريين، والثانية أصدقاء إسرائيل في الإعلام المصري.

ما قيل عن الدور الإسرائيلي في مصر قبل اندلاع الثورة، وهو دور إفساد وتخريب الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية الذي هيأ لليأس من المستقبل مع نظام مبارك أن يصل إلى ذروته، وأن يدفع بالملايين إلى النزول إلى الشوارع وتحول انتفاضة الشباب يوم 25 يناير إلى ثورة شعب يوم 28 من الشهر نفسه، يقال أيضًا عن أدوار فرنسية في الثورة الليبية ضد نظام العقيد معمر القذافي، وعن أدوار أخرى عربية وإقليمية ودولية في الثورة السورية على النحو الذي جاء على لسان الأستاذ محمد حسنين هيكل في حواره مع رئيس تحرير جريدة الأخبار المصرية؛ فقد ذكر هيكل أن الفريق الدابي رئيس مراقبي جامعة الدول العربية الذي سافر إلى سوريا تحدث صراحة في تقريره الجامع الذي قدمه إلى الجامعة عن أخطاء جسيمة للنظام السوري، لكنه تحدث أيضًا في ذلك التقرير عن “ضحايا لم يقعوا وعن مشاهد لم تحدث، وعن صور وأصوات يجري تصنيعها بالتدليس والتزييف، وكثير منها في معامل باريس ولندن”.

لكن ما جاء في كتاب برنارد هنري ليفي صديق الرئيس الفرنسي ساركوزي بعنوان “الحرب بدون أن نحبها.. يوميات كاتب في قلب الربيع العربي” هو الأكثر فجاجة ووضوحا مخزيًا حيث كشف أنه صانع ما جرى في ليبيا ومدبره، وأنه هو من كتب بيانات المجلس الوطني الانتقالي، وحرك دفعات المال وشحنات السلاح من كل مكان إلى ليبيا، ومن دعا إلى حشد القوات، وأنه من نصح بتوظيف جامعة الدول العربية لتكون جسرًا لوضع ليبيا في سلطة مجلس الأمن كي يطبق فرض حظر جوي انتهى بإسقاط نظام القذافي ودخول ليبيا في متاهة البحث عن الاستقرار والأمن، لكن الأخطر هو متاهة التغلغل الخارجي وتحكمه في إدارة الحكم والسياسة لمدى غير منظور الأجل. قد يكون هنري ليفي قد أسرف في تقدير دوره، لكن ما جاء على لسان سيلفيو برلسكوني رئيس الحكومة الإيطالية السابق، كشف أي دور فرنسي وأي دور شخصي للرئيس الفرنسى السابق نيكولاي ساركوزي. فقد أكد برلسكوني أن “ما حدث في ليبيا لم يكن ثورة بل تدخل أرادته فرنسا” كما أوضح أن “ما حدث في ليبيا جرى وفق قرار للحكومة الفرنسية بالذهاب إلى هناك، والتدخل في نزاع داخلي وتقديمه أمام المجتمع الدولى في إطار ثورة”.

فللوهلة الأولى من اندلاع الثورات العربية، وبالتحديد عقب سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وامتداد الثورة إلى مصر تصور الإيرانيون، وعلى الأخص القوى الإيرانية الحاكمة أن فجرًا جديدًا من الانتصارات للمشروع الإيراني في العالم العربي قد بدأ، هذا التصور تحول إلى قناعة بسقوط نظام حسنى مبارك فى مصر وامتداد رياح الثورة إلى مناطق متعددة من الوطن العربي شملت المغرب والجزائر وليبيا وامتدت إلى البحرين وسلطنة عمان واليمن والأردن والعراق، وكانت أصداؤها تسمع في لبنان تحت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي” كصدى لشعار الثورة الذي بدأ فى تونس وامتد إلى مصر ومنها إلى دول عربية أخرى “الشعب يريد إسقاط النظام”(34).

مادلين أولبرايت: “على رغم توفر أسباب قوية لدى واشنطن لقيام هيئة الأمم المتحدة قوية وفاعلة، فإنها لن تعهد أبدًا بمصيرها لغير الأيدي الأمريكية”.

هذا التصور أخذ يتراجع تدريجيًا لسببين أولهما، أن رياح ثورات الربيع العربي أخذت تمتد إلى الداخل الإيراني نفسه في شكل تجديد مطالب التيار الإصلاحي الذي حاول أن يعود إلى الشارع مجددًا. وثانيهما، أن هذه الرياح وصلت إلى دول صديقة أو حليفة لإيران وعلى الأخص سوريا، وهنا بالتحديد تحول ربيع الثورات العربية من توفير فرص هائلة أمام تيار ومحور الممانعة على حساب محور الاعتدال العربي إلى تفجير تحديات داخل تيار الممانعة نفسها وخلق حالة غير مسبوقة من سيولة التطورات والتفاعلات. وأدى هذا التراجع بدوره إلى وضع السلطة في إيران أمام اتخاذ مواقف متناقضة مع بعضها بعضًا من الثورات العربية وفقًا لمنظورين أولهما، العلاقة مع إيران، أي العلاقة بين النظام الحاكم الذي يتعرض للثورة وإيران ودورها الإقليمي هل هو نظام صديق لإيران أم عدو منحاز للمشروع الأمريكي – الإسرائيلي. وثانيهما، تأثير هذه الثورات على توازن القوى الإقليمي وعلى خرائط التحالفات والصراعات، ولقد أكد السيد علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية التزام إيران بهذين المحددين بإعلانه أن “موقفنا واضح: حين تكون الحركة إسلامية وشعبية وضد أمريكا ندعمها، وفي أي مكان يكون فيه التحرك بتحريض من أمريكا والصهاينة لن نسانده، فحين تدخل أمريكا والصهاينة الساحة لإطاحة نظام واحتلال دولة نقف على الجانب المقابل”.

على هذا النحو وقف الإيرانيون في بداية الأحداث داعمين، ولو معنويًا، ثورة تونس ومصر والبحرين واليمن، لكن الأمر اختلف كثيرًا بالنسبة للموقف من الثورة السورية للدرجة التى وجدت إيران نفسها على صدام كامل مع الموقفين التركي والإسرائيلي.

لم يكتف الإيرانيون بإعلان فرحتهم ودعمهم للثورة في مصر بل إنهم اتهموا الأمريكيين بالتآمر على الثورة المصرية بدعمهم لنظام مبارك، لكن الدعم الإيراني للأحداث والاضطرابات التي شهدتها البحرين وصل إلى ذروته المعنوية والسياسية والإعلامية لدرجة وصف تدخل قوات درع الجزيرة التابعة لمجلس التعاون الخليجيفيأحداث البحرين بأنه “احتلال سعودي”، غير أن الدعم الإيراني للنظام الحاكم في سوريا تجاوز تلك الأنواع من الدعم إلى دعم مادي هائل سواء كان إيرانيًا مباشرًا أم غير مباشر عبر العراق، ناهيك عن اتهامات أمريكية وغربية واتهامات من المعارضة السورية بتقديم إيران دعم عسكري للنظام السوري، بل والتورط في القتال ضد الثوار في سوريا.

الأمر كان مختلفًا بالنسبة لكل من إسرائيل وتركيا؛ فالقلق الإسرائيلي من تطورات الثورة في مصر كان هائلًا بحكم العلاقة مع نظام حسني مبارك والمصالح التي ربطت هذا النظام بالدولة العبرية. كان الخوف الإسرائيلي مزدوجًا، الأول خوف على سقوط حليف كان يعول على صموده كثيرًا أمام الثورة وتحول هذا التعويل على عدم السقوط إلى ذعر عقب سقوطه، والثاني، التخوف من تداعيات هذا السقوط على مستقبل العلاقة مع مصر لدرجة أوقعت إسرائيل في شرك العداء للتحول الديمقراطي والموقف من الديمقراطية في الدول العربية، وبشكل عام سيطرت ثلاثة اتجاهات على الموقف الإسرائيلي من الثورة المصرية وغيرها من الثورات العربية الأول: يعتقد بوجود مخاطر حقيقية على الأمن القومي الإسرائيلي جراء الثورة في مصر. الثاني: أنه لا شيء جوهري سيتغير، وتكون له تداعيات على إسرائيل وأن الأمور ستمضي وفقًا للتقديرات الإسرائيلية الموضوعة. الثالث: وجود بعض المخاطر على إسرائيل، ولكن يستبعد أن تظهر آثاره على المدى القريب.

لكن الاتجاه الذى كانت ومازالت له الغلبة في إسرائيل أن الثورات العربية عمومًا والمصرية خصوصًا ستكون لها تداعيات أمنية وإستراتيجية على إسرائيل بعضها سيكون في المدى القصير، بينما ستظهر آثار بعضها الآخر على المدى البعيد. وبدافع من هذا الإدراك قامت إسرائيل، ومازالت تقوم بأدوار هدفها محاصرة أي خطر قد ينتج عن الثورة المصرية وغيرها من الثورات العربية، وخاصة الثورة في سوريا على الأمن الإسرائيلي ومشروع السلام الإسرائيلي الذيفرض نفسه على إدارة الصراع العربي الإسرائيلي، ابتداء من معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979 وبعدها معاهدة وادي عربة مع الأردن واتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية، وهو سلام يحول دون تحقيق السلام العادل ويمكن إسرائيل من توسيع الاستيطان وتهويد كل ما تريده من أرض فلسطين وجعل الأمن الإسرائيلي العامل الحاكم لأي اتفاق سلام مع أي طرف عربي.

من بين ما قامت به إسرائيل لتحقيق هدف احتواء أي مخاطر للثورات العربية على مصالح وأمن الدولة العبرية نذكر ما يلي:

– تحذير الحكومة الإسرائيلية للإدارة الأمريكية من التخلي عن حماية نظام مبارك، واعتبار أي تخل عن هذا النظام تصرفًاغير مسئول وسيكلف الرئيس الأمريكي باراك أوباما منصب الرئاسة في الانتخابات القادمة، أي أن إسرائيل كانت تتدخل لمنع سقوط نظام مبارك.

– تنفيذ حملة دبلوماسية وإعلانية بهدف دفع الولايات المتحدة لقبول التغيير الشكلي في النظام المصري وخصوصًا عندما أدرك بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة أن أوباما مع تغيير حقيقي في مصر وليس مع مجرد تعديلات مرحلية أو شكلية.

– التخويف من مغبة شيوع عدم الاستقرار في المنطقة بعد نجاح الثورة المصرية على المصالح الغربية.

– التحذير من مغبة وصول تيارات إسلامية متطرفة إلى السلطة في نظام ما بعد مبارك على السلام مع إسرائيل وعلى مصالح الغرب.

– تذكير الغرب بأن الأحداث التي وقعت في مصر وغيرها من الدول العربية تثبت أن إسرائيل هي الحليف الوحيد للغرب في الشرق الأوسط.

في عدد مايو/ يونيو 2008 من مجلة “فورين أفيرز” نشر هاس دراسة بعنوان: “ما بعد الهيمنة الأمريكية: اللا قطبية العالمية”، وفيها أقر بأن الولايات المتحدة لم تعد القطب العالمي الأوحد في ا

وبشكل عام يمكن القول إن مخاوف إسرائيل من نجاح الثورة في مصر امتد إلى مخاوف امتداد تلك الثورة إلى الأردن والضفة الغربية، وإلى مخاوف من أدوار مصرية جديدة محتملة، وأنماط تحالفات إقليمية مصرية جديدة مع إيران وتركيا على وجه الخصوص، لكن الأهم هو الخوف على مسار العلاقات المصرية – الإسرائيلية، والحرص على ضرورة ضبط أداء نظام ما بعد مبارك بحيث يبقى تحت دائرة الاحتواء والسيطرة بالإغراء أو بالضغط.

وجاءت تفاعلات تركيا على نحو مختلف من تفاعلات كل من إيران وإسرائيل من الثورات العربية، حيث يمكن تلمس بعض التمايز لكن لم تكن مواقف تركيا من الثورات العربية متطابقة أو متناغمة كلية مع بعضها البعض وإنما تنوعت وفقًا لخصوصية كل ثورة عربية والتطورات التي لحقت بهذه الثورات على نحو ما حدث في ثورة 30 يونيو 2013 التي أسقطت حكم الإخوان حلفاء أنقرة، وعلى نحو التحولات العميقة في الموقف من ثورة سوريا التي تحولت إلى أزمة بعد دخول تنظيمات الإرهاب والتكفير التي تحظى بالدعم التركي، وهنا يمكن إدراك التشابه مع الموقف الإيراني.

فقد تلاقت مواقف تركيا مع مواقف كل من إيران وإسرائيل فى إدراك مدى تأثير الثورات العربية على تركيا ومصالحها في المنطقة، واهتمت بما سوف تؤول إليه تلك الثورات من تطورات وخاصة شكل الحكم الجديد، وموضوع الديمقراطية، والإسلام ونظم الحكم، والعلاقة بين الجيش والسياسة في تلك النظم الجديدة، لكن كانت المصالح القومية التركية هي العامل الحاكم لمواقف تركيا وبالذات ما يتعلق بالدور التركي الإقليمي وتحالفات تركيا الإقليمية.

فإذا كانت تركيا قد تفاءلت كثيرًا مثل إيران بالثورة في كل من تونس ومصر، فإن التحسب والتريث كانا عاملين حاكمين للمواقف التركية من الثورتين الليبية واليمنية والأحداث البحرينية، أما الأمر بالنسبة لسوريا فقد بات محكومًا بحزمة مصالح واسعة إستراتيجية واقتصادية وأمنية بين البلدين، لكن الموقف من الثورة المصرية بعد إسقاط حكم الإخوان كان ذروة الانكشاف للموقف التركي.

هذه الأدوار والمواقف التي قامت بها القوى الإقليمية الثلاث بعضها ساند الثورات مرحليًا ولمصالح وارتباطات خاصة بمشروع كل منها، وبعضها كان بمثابة عامل إعاقة؛ فإسرائيل كانت ومازالت ضد الثورة في مصر، وضد التغيير الثوري العربي بشكل عام، وضد الديمقراطية الحقيقية خوفًا من أن تعزز الديمقراطية تيارات تكون قادرة على فرض معادلة جديدة لإدارة الصراع مع الدولة العبرية، لكن الأمر بالنسبة لإيران وتركيا كان مختلفًا فالثورات التي توافقت في منطلقاتها أو على الأقل في توجهاتها مع مصالح إيرانية وتركية لقيت الدعم، أما الثورات الأخرى فقد واجهت الإعاقة من جانب هاتين الدولتين، وبالذات إيران على النحو الذي يفرض نفسه الآن في سوريا، بعد تفاقم الصراع داخل سوريا بين ما هو ديني إسلامي وما هو عرقي (كردي) في ظل تراجع دور المعارضة السورية المدنية أمام تغوّل نفوذ التنظيمات الإسلامية التكفيرية التابعة لتيار “السلفية الجهادية”، ودخول أكراد سوريا كطرف في الحرب ضد “داعش” وطموحاتهم في تأسيس دولة كردية في شمال سوريا.

فالثورة السورية فرضت ارتباكًا هائلًا ومازالت تفرض هذا الارتباك في مواقف الدول الإقليمية الثلاث، لكن الأهم أنها تباعد بين هذه المواقف، ومن شأنها أن تعيد رسم خريطة التفاعلات والتحالفات الإقليمية حسب ما سوف تؤول إليه الأحداث في سوريا(35).

ثانيا: محددات مستقبل النظام العربي

نستطيع أن نقول إن مجمل ما حدث وما يحدث الآن من تفاعلات وتطورات، كانت بدايتها تفجر موجة الثورات العربية، ينبئ بحتمية تداعي النظام العربي الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية نتيجة لتداعي أنظمة حكم مستبدة وفاسدة أسقطتها إرادة الشعوب، لكن أي بديل سيفرض نفسه بعد أن تستقر الأوضاع في الوطن العربي سيبقى أمره محكومًا بما سوف تؤول إليه تلك الموجة، الثورية، بانتصاراتها وتعثراتها بل وانتكاساتها، كما ينبئ بحتمية تغير هيكلية النظام الإقليمي للشرق الأوسط وأدوار القوى الثلاث الكبرى الفاعلة: إيران وتركيا وإسرائيل التي تشكل الآن قلب أو محور هذا النظام، وخرائط التحالفات والصراعات التي تربط بين هذه القوى والدول العربية، وكذلك أنماط العلاقات والتفاعلات المحتملة بين النظام العربي الجديد وذلك النظام المتوقع للشرق الأوسط من منظور التأثير المتبادل أو التبعية، وفرص ظهور قوة أو قوى عربية قادرة على مبادلة القوى الثلاثة الفعل والتأثير خاصة مصر التي سيتوقف عليها حسم معظم التساؤلات المثارة الآن بخصوص مستقبل النظام العربي والتأسيسلخرائط تحالفات وصراعات جديدة في الشرق الأوسط، وفقًا للسيناريوهات المحتملة لمستقبل التغيير في مصر.

وبشكل عام يمكن القول إن هناك عوامل يمكن اعتبارها “عوامل حاكمة” ستكون لها أدوار مهمة فى تشكيل معالم هيكلية وخصائص كل من النظام العربي والنظام الإقليمي للشرق الأوسط من أبرزها ما يلي:

  • الفرص المتاحة لنجاح أو فشل موجة الثورات العربية

أخطأ كثيرون توقع نجاح موجة الثورات العربية بضربة واحدة تسقط رأس النظام، لأنهم لم يدركوا حقيقة ما يُعرف بـ “الفعل الثوري” وما يتداول من أدبيات حول “الموجات الثورية”. فالفعل الثوري لا يسير في خط مستقيم لكنه يتقدم في شكل “موجات” بين الصعود والهبوط، بين التقدم والانحسار، بين النجاح والفشل، لأسباب كثيرة أبرزها، أن إسقاط رأس النظام لا يعني إسقاط النظام، لأن دولة النظام الممتدة والمتجذرة فى أحشاء المجتمع ومؤسساته تملك قدرات هائلة على المقاومة بدوافع الحفاظ على المصالح والدفاع عن الذات، كما أن القوى الثورية التي تتجمع في لحظة الذروة من الفعل الثوري تعود حتمًا إلى واقعها الحقيقي من التفكك وتناقض المصالح، في وقت تفتقر فيه إلى وحدة الأيديولوجيا، أو حتى غيابها، ووحدة التنظيم، أو حتى تناقضاته، كما أن الجسد الشعب الهائل الذي أعطى للثورة معناها سرعان ما يعود لواقعه الطبيعي قبل التفجر الثوري، ويبدأ فى طرح مطالبه الفئوية والحياتية، وكل تعثر أو عجز يولد سلسلة لا تنتهي من الأزمات، ناهيك عن تدخلات الأطراف الخارجية من عربية وإقليمية ودولية كل منها تحاول إما إسقاط الثورة وإفشالها، وإما الانحراف بها إلى حيث تريد هي.

استطاعت الصين منذ 2010 أن تتجاوز اليابان لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.

الثورات العربية واجهت هذا كله في ظل تفاقم الأزمات المتجذرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي ظل غياب القيادة الثورية الموحدة وغيبة التنظيم القوي القادر على أن يحل مكان النظام القديم. فأغلب الثورات العربية التي تفجرت إثر بعضها بعضًا ابتداءً من الثورة التونسية كانت ثورات شعبية بلا قيادة ولا تنظيم ولا حتى رؤية موحدة، فالأحزاب السياسية القديمة كانت أغلبها قد فقدت شرعيتها بسقوط النظام وحزبه الحاكم، ولم يكن في مقدور أي منها تقديم البديل، ومن هنا جاء ظهور التنظيمات الإسلامية لتملأ الفراغ السياسي طبيعيًا، لأنها كانت البديل الوحيد الذي يمتلك وحدة القيادة ووحدة التنظيم ووحدة الأيديولوجيا، ناهيك عن امتلاك خلفية نضالية ضد النظم البائدة.

فقد استطاعت تنظيمات وأحزاب التيار الإسلامي اقتناص بعض الثورات والسيطرة عليها تحت شعار “شرعية الصناديق” وإقصاء كل القوى الثورية والسياسية الأخرى ضاربة عرض الحائط بكل وعود “الشراكة الوطنية الجامعة” التي وعدت بها، وبكل ما يمكن اعتباره شروطًا موضوعية لنجاح الثورات، وفي مقدمتها ضرورة التوافق الوطني على مرحلة انتقالية في إدارة الدولة يكون الحكم فيها وفقًا للشراكة الوطنية وبعد انقضاء هذه الفترة، التي قد تمتد إلى خمس سنوات تهيَّأ فيها الدولة الانخراط في الحكم الديمقراطي وفق قاعدة التنافس الانتخابي، تبدأ المرحلة الجديدة من الحكم بالقواعد التي يكون قد تم التوافق عليها في دستور وطني ديمقراطي يعد بمثابة عقد سياسي – اجتماعي جديد بين كل المكونات الشعبية للدولة.

ما حدث كان مختلفًا تمامًا حيث أعطت الأحزاب الإسلامية التي فازت في انتخابات غير متكافئة الأولوية لـ “التمكين” من السيطرة على الدولة، ونحَّت جانبًا شعار “المشاركة.. لا المغالبة” واستأثرت بالسلطة في مفارقة شديدة الغرابة. فالذين قاموا بالثورة تم إقصاؤهم “ديمقراطيًا” لأنهم لم يفوزوا بالانتخابات لضعف صلتهم بالشارع، ومن شاركوا فيها من قوى وطنية وسياسية أخرى لم يحصلوا إلا على الفتات من المقاعد النيابية. والنتيجة هي تفكك وحدة القوى الثورية المشاركة في الثورة وانقسامها مجددًا بين حكم ومعارضة، انقسام فرض الاستقطاب والصراع السياسي كمحصلة لفشل الأحزاب الإسلامية في إدارة شئون الدولة بإمكاناتها البشرية محدودة الكفاءة، والانعكاسات السلبية للأزمات الأمنية على الاستقرار السياسي والأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ما أدى إلى الشعور بفشل الثورة وحاجة الثورة إلى ثورة، وعودة شعار “إسقاط النظام” ليفرض نفسه كأمر واقع لما آلت إليه أحوال الثورات العربية من تعثر وانتكاسات.

ففي مصر مثلًا، فاز الإخوان المسلمون ومعهم السلفيون بأغلبية مقاعد البرلمان (الشعب والشورى) كما فاز الدكتور محمد مرسي مرشح الإخوان برئاسة الجمهورية، ودخلت البلاد في صراع وانقسام حاد بين من يحاولون استرداد الثورة ومن يحرصون على الاستئثار بالسلطة فتفاقمت الأزمات، وباتت الدولة على مقربة من الإفلاس وسط ضغوط خارجية مالية فاقمت من حدة الأزمات الداخلية الاقتصادية والأمنية قادت كلها إلى ثورة 30 يونيو 2013 التي أسقطت حكم الإخوان واستعادت الثورة مجددًا للشعب.

وفي تونس فاز حزب النهضة “الإسلامي” في الانتخابات وكان أكثر رشدًا في توزيع المناصب القيادية (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس المجلس الانتقالي) على أحزاب لا تنتمي إلى خطه الأيديولوجي، لكن الانتخابات البرلمانية التونسية في عام 2014 أسقطت حكم الإخوان (النهضة) وفاز تكتل “نداء تونس” بالأغلبية، ثم جاءت الانتخابات الرئاسية لتخرج الإخوان من المنافسة ولتضع الثورة التونسية أمام أفق ديمقراطي أكثر رحابة واستقرارًا، أما في ليبيا فبعد الانتخابات نجح التيار الليبرالي في منافسة الإسلاميين، لكن آلت السلطة الفعلية للميليشيات المسلحة التي مازالت ترفض تسليم ما لديها من ترسانة عسكرية هائلة استولت عليها من مخازن سلاح جيش القذافي، ومازالت تهدد ليبيا بالتقسيم والفوضى.

وفي سوريا مازال شبح الحرب الأهلية وتقسيم البلاد يفرض نفسه بين مراوحة الحل السياسي للحل العسكري، في وقت امتد فيه لهيب الثورة السورية إلى الجوار العربي خاصة في لبنان الذي بات عاجزًا عن مواصلة ترف سياسة “النأي بالنفس” نتيجة للتدخل المباشر لـ “حزب اللـه” في أتون القتال داخل سوريا بجانب قوات النظام، لكن ظهور الدولة الإسلامية “داعش” قلب موازين الصراع في سوريا رأسًا على عقب وأربك كل الحسابات ليس فقط السياسية بل والعسكرية أيضًا.

وعلى الرغم من حالة الاستقرار المحدود في اليمن فإن التشاؤم يسيطر على أجواء الحوار الوطني بسبب تفاقم أزمات القضية الجنوبية التي أخذت تتحول باتجاه الصراع الانفصالي، واجتياح الحوثيين (أنصار اللـه) للعاصمة صنعاء وسيطرتهم الفعلية على مقاليد الحكم في مواجهة مع انفصاليي الجنوب ومقاتلي القاعدة (أنصار الشريعة) إلى مطالب العدالة الانتقالية ونقمة الثوار ومنظماتهم على كل ما يحدث داخل اليمن وهم يرون الثورة تتسرب بعيدًا عن أهدافها.

هذا الواقع العربي فرض نفسه على إقليم الخليج وإقليم المغرب العربي، وكذلك على المناطق الجنوبية الشرقية من الوطن العربي، حيث سيطرت هواجس كيفية الخروج من مأزق الثورات، وكيفية التكيف مع واقع جديد من مطالب الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي والعدل الاجتماعي على اهتمامات النظم الحاكمة لكن شرط ألا تكون التكلفة باهظة.

واقع عربي مأزوم، لم تستطع الثورات أن تغيره بالشكل والمضمون اللذين كانا مأمولين، لكن ما زالت الفرص والآمال تعارك مشاعر الإحباط والفشل في جدلية لم يحسم مآلها بعد.

  • مدى قدرة النظام العربي على التكيف مع واقع الثورات

لم تسقط الثورات نظم الاستبداد والفساد فقط لكنها أسقطت أيضًا المحاور التي أسستها: “محور الاعتدال” و”محور الممانعة”، ووضعت نهاية لحالة الاستقطاب التي نتجت عن تلك المحاور، لكن بقاء النظام العربي على ما هو عليه حال دون قدرته على أن يتكيف مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورات العربية وخاصة مطالب ديمقراطية النظام وشعبيته وإكسابه الفعالية المطلوبة. فالنظام مازال يرزح تحت هيمنة نظم الحكم العربية التس استطاعت أن تكون بمنأى، حتى الآن، عن التداعيات المباشرة للثورات العربية وخاصة دول الخليج، التي أصبحت لها اليد الطولى في قيادة النظام ورفض أنماط تحالفاتها على النظام وتوجهاته على نحو ما يتجلى في إدارة النظام للأزمة السورية بإعطاء الأولوية للحل العسكري، والتعامل مع إيران كمصدر للتهديد وفرض مشاركتها كطرف في حل هذه الأزمة.

هذه الأوضاع قد تكون مؤقتة لحين حسم أوضاع دول الثورات وحسم الأزمة السورية، ما يعني أن النظام العربي أمام موجة شبه مؤكدة من التغيير، لكن أفاق هذا التغيير مايزالت غير محددة المعالم وسوف تتوقف حتمًا على ما سوف تؤول إليّه الأزمة السورية من ناحية ومستقبل الصراع الدائر الآن في دول الثورات العربية، ناهيك عن الحراك التفاعلي الدائر الآن على مستوى النظام الإقليمي للشرق الأوسط.

النظام العربي رغم قدراته الاقتصادية وموقعه الإستراتيجي، فإنه أكثر ارتباطًا بالنظام العالمي من منظور مصالح النظام العالمي وبالذات القوى الغربية.

  • حدود الاستمرار والانقطاع في خرائط التحالفات والصراعات الإقليمية

فما يحدث الآن من تفاعلات وتطورات في العلاقة بين القوى الإقليمية الشرق أوسطية الثلاث ينبئ بتحولات ملموسة يمكن اعتبارها إحدى نتائج ما تتعرض له الدول العربية من أحداث وتطورات. فالصراع الإسرائيلي – الإيراني يزداد حدة، وهذا الصراع انعكس على زيادة حدة التنافس بين إسرائيل وإيران على كسب دورها الإقليمي الموازن.

فالسنوات الخمس التي سبقت تفجر الثورات العربية وبالتحديد منذ الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006 شهدت حدوث تحولات ملموسة في التوجهات الإستراتيجية التركية نحو إيران وعلى حساب العلاقة مع إسرائيل، وكانت القضية الفلسطينية أحد أهم المحددات البارزة في هذه التحولات، لكن عوامل كثيرة أدت مجددًا إلى حدوث تحولات أخرى جديدة في علاقة تركيا مع القوتين الأخريين من بين هذه العوامل، وربما من أهمها موجة الثورات العربية وعلى الأخص الأزمة السورية التي باعدت كثيرًا بين تركيا وإيران حيث تدعم تركيا المعارضة وتدفع باتجاه الحسم العسكري استنادًا إلى ذرائع كثيرة كان آخرها تأكيد مسئولين أتراك استخدام النظام السوري أسلحة كيميائية ضد المعارضة، وهنا جاء الالتقاء التركي مع إسرائيل التي تمارس ضغوطًا شديدة على الرئيس الأمريكي قد يفي بوعوده باستخدام الحل العسكري لإسقاط النظام السوري الذي تجاوز، من وجهة نظرها، “الخط الأحمر” الذي سبق أن حدده الرئيس أوباما وهو: تورط النظام السوري في استخدام أسلحة كيميائية. في حين أن إيران وقفت صامدة إلى جانب النظام السوري وتؤيد الحل السياسي للأزمة استنادًا على بنود مؤتمر جنيف لعام 2012 الذي يعطي الأولوية للحل السياسي للأزمة السورية، وتتحدث عن فترة انتقالية وحوار بين الحكم والمعارضة وتأسيس حكومة ذات فاعلية تدير البلاد خلال تلك الفترة الانتقالية.

الأزمات التي فرضت نفسها على العلاقات الإيرانية – التركية، منذ قبول تركيا إقامة محطة للدرع الصاروخية الأطلسية على الحدود مع إيران، ثم طلبها إقامة بطاريات صواريخ “باتريوت” على الحدود التركية – السورية، دفعت بتركيا مجددًا نحو الاتجاه إلى إسرائيل. حدث هذا بقبول رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي اعتذار بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية عن الاعتداءات الإسرائيلية على السفينة التركية مرمرة، وهو الاعتذار الذي جاء من خلال مكالمة هاتفية بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الحكومة التركية، امتد بعدها إلى محادثة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس الحكومة التركية.

هذا الاعتذار الإسرائيلي لم يكن وليد مصادفة، لكنه جاء ضمن محادثات أمريكية – إسرائيلية بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما وبنيامين نتنياهو بشأن التعاون الإقليمي وأهمية العلاقات الإسرائيلية – التركية، إضافة إلى ما أكده نتنياهو في توضيحه لدوافع اعتذاره لأردوغان من أن “تفاقم الأزمة السورية كان دافعًا رئيسيًا.. فسوريا تتفكك وترسانة الأسلحة المتطورة العملاقة الموجودة فيها باتت بأيدي عناصر مختلفة، والخطر الأكبر هو سقوط مخزونات الأسلحة الكيميائية بأيدي منظمات إرهابية”. نتنياهو أضاف إلى هذا الخطر أن “ثمة أهمية أن تركيا وإسرائيل اللتين تشاركان حدودًا مع سوريا تستطيعان التواصل مع بعضهما بعضا، وهذا الأمر مرغوب به أيضًا إزاء تحديات إقليمية أخرى”.

هذا التوجه الإسرائيلي نحو تركيا يجيء في ظل إدراك إسرائيلي بنُذُر تغيير عميق يحدث فى البيئة الإقليمية جراء موجة الثورات العربية وفي السيطرة على التطورات الإقليمية والعالمية، والشعور بفقدان الدور والوظيفة المناطة بها منذ تأسيسها لا سيما بالنسبة للغرب وخاصة حماية المصالح الغربية والأمريكية على وجه التحديد في المنطقة. فقد عرضت شعبة التخطيط في هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي تقديرات متشائمة للأوضاع السياسية والأمنية بشكل استثنائي من شأنها أن تضع إسرائيل في وضع إستراتيجي بالغ الصعوبة.

يدعم هذا الشعور تلك “الفوبيا” الإسرائيلية المتصاعدة من الخطر الإيراني سواء كان حقيقيًا أم مفتعلًا، خطر يستهدف الوجود الإسرائيلي نفسه ويهدد الاستقرار في المنطقة، ليس دافعه التهديد النووي فحسب، بل نوازع السيطرة والهيمنة الإقليمية لدى النظام الإيراني على حد وصف دوري جولد، أبرز مستشاري بنيامين نتنياهو الإستراتيجيين الذي استخلص من ذلك حتمية التوجه الإسرائيلي نحو إعادة ترميم وتجديد الشراكة الإستراتيجية مع تركيا.

إلى أي حد سوف تأخذ تركيا بهذا التوجه والتورط في حلف إقليمي جديد على حساب توجهاته نحو العالمين العربي والإسلامي، والحفاظ على الدور الموازن والتركيز على ما لديها من مصادر القوة الناعمة. سؤال تحدد إجابته الكثير مما ينتظر إقليم الشرق الأوسط.

4- مستقبل الدور الأمريكي في الشرق الأوسط

يكشف التقرير الذي أعده “مركز الأمن الأمريكي الجديد” عن وجود حاجة أمريكية لضرورة إعادة “التكيف الإستراتيجي” لمواجهة ما سمّاه التقرير بـ “تهديدات قصيرة المدى” في حاجة إلى انتباه سريع من صانعيالقرار السياسي الأمريكي نابعة من إيران وسوريا واليمن وكذلك العلاقات المصرية- الإسرائيلية. وأوصى ذلك التقرير باتباع سياسات جديدة تهدف إلى فرض السيطرة وتخفيف حدة التهديدات المحتملة على المدى الطويل في المنطقة.

هذا التقرير حمل عنوان “التكيف الإستراتيجي في سبيل إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط” ودعا إلى تبنيإستراتيجية جديدة تجاه المنطقة إذا ما أرادت الولايات المتحدة أن تحمي مصالحها، وتستمر في الوجود وممارسة النفوذ. وتضمن رؤى محددة بخصوص كل من العلاقات الأمريكية- الإيرانية، والعلاقات الأمريكية- الإسرائيلية، والعلاقات المصرية – الإسرائيلية واستبعاد الحل العسكري للأزمة السورية، والوعي بحقيقة تنوع التحديات النابعة من دول الثورات العربية، مشيرًا إلى أن الحكومات العربية التي تقع في منتصف المسافة بين النظم التسلطية والنظم الديمقراطية هي أقل نظم الحكم استقرارًا وأكثرها قابلية للانزلاق نحو حرب أهلية، وأن قوى الإسلام السياسي ستستمر في التصاعد على امتداد المنطقة.

لذلك قدم هذا التقرير رؤية جديدة لإعادة تنظيم العلاقات العربية – الأمريكية تعتمد على أربعة محاور هي، أولًا، عدم التركيز في العلاقة على الحكومات فقط بل إشراك الشعوب وقادة الفكر ومختلف الفئات في المجتمعات العربية في إدارة هذه العلاقة، وثانيها، اتباع إستراتيجية مختلفة مع الإسلام السياسي تقوم على قاعدة عدم التعارض بين الديمقراطية والإسلام، وعدم النظر إلى هذا التيار كعدو بالضرورة للولايات المتحدة، وثالثها، منح الأولوية للإصلاح السياسى، ورابعها، دعم الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية.

هناك عوامل يمكن اعتبارها “عوامل حاكمة” ستكون لها أدوار مهمة في تشكيل معالم هيكلية وخصائص كل من النظام العربي والنظام الإقليمي للشرق الأوسط.

هذه الرؤية القائمة على قاعدة ترميم العلاقات الأمريكية – العربية في مرحلة ما بعد الثورات العربية تعتبر أحد المداخل الأساسية لدعم المصالح ومواجهة التهديدات الآنية والمتجددة، لكن هناك مداخل أخرى تتوافق مع متغيرين آخرين لا يقلان أهمية عن متغير الثورات العربية أولها، الوضع الاقتصادي الأمريكي المتردي داخليًا، وثانيها، التوجه الأمريكي الجديد نحو الشرق الأقصى لمواجهة مخاطر إستراتيجية نابعة من المنافس الصينيالصاعد واحتمالات تشكل تحالف صيني – روسي – هندي في هذه المنطقة يكون في مقدوره تحدي، إن لم يكن إسقاط، الأحادية الأمريكية في قيادة النظام العالمي.

فالواضح أن الإمبراطورية الأمريكية، أو بالأحرى “مشروع الإمبراطورية الأمريكية” الذي حاولت واشنطن فرضه عقب سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار نظام القطبية الثنائية العالمية عام 1991، دخل في مرحلة “الانحدار التاريخي” التي سبق أن عرفتها إمبراطوريات أخرى سابقة، ولم يعد هذا المشروع قادرًا على مواصلة سياسة “التمدد الإستراتيجي” بوصف الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. التقرير الذي أعدته 16 وكالة مخابرات أمريكية بعنوان “الاتجاهات العالمية 2030”   (Global Trends 2030) أقر بهذه الحقيقة عندما أشار إلى أنه “مع الصعود السريع لدول أخرى، انتهت لحظة الأحادية القطبية، وبدأ “الباكس أمريكانا” (السلام الأمريكي) الذي ساد منذ العام 1945 ينحسر بسرعة. وبناء على ذلك فإنه من الأرجح أن تتجه إدارة الرئيس أوباما الثانية إلى التدخل الحذر في الأزمات العالمية، والحرص على أن تنأى بنفسها عن التورط في الأزمات والتدخل في الصراعات إلا بعد أن تستنزف الدول الأخرى نفسها فيها وبعد أن تمس هذه الأزمات المصالح الأمريكية الحيوية مباشرة. ما يعني أن واشنطن في طريقها إلى اتباع إستراتيجية أقرب إلى أن تكون “إستراتيجية النأي بالنفس” تحسبًا لتحمل تكاليف تلك الأزمات على حساب مواردها ومن مصالحها ومن تحالفاتها.

هذا يعني أن السنوات القادمة ستشهد انحسارًا وتراجعًا لسياسة التدخل الأمريكي في الأزمات، والنتيجة هي ضرورة البحث عن وكيل أو وكلاء أو “تحالف للوكلاء” يتولى مهمة الدفاع عن المصالح الأمريكية في الأقاليم والمناطق المختلفة على نحو ما كانت عليه السياسة الأمريكية عقب هزيمتها في فيتنام فى نهاية عقد الستينيات وبداية عقد السبعينيات التي اتبعت ما عُرف بـ “مبدأ نيكسون” وعندها اختارت واشنطن وكيلين بارزين للدفاع عن مصالحها في إقليم الخليج هما إيران الشاهنشاهية كوكيل أو كشرطي عسكري والسعودية كوكيل سياسي وفقًالإستراتيجية عُرفت بإستراتيجية “الركيزتين المتساندتين”: الركيزة العسكرية الإيرانية، والركيزة السياسية المعنوية السعودية.

فقد كشفت الحرب الدائرة في سوريا، وفقًا لتقرير لجهاز الأمن الإسرائيلي نشرته صحيفة “معاريف”، أن “الحرب السورية الأهلية تدل على أن فترة دامت أكثر من 20 سنة كانت فيها الهيمنة الأمريكية العالمية مطلقة قد انتهت”. ومن هنا جاء التوجه الأمريكي للبحث عن هندسة جديدة للنظام الإقليمي للشرق الأوسط تأخذ فياعتبارها خصوصيات وقيود الوضع الإستراتيجي الراهن في الإقليم، كما تأخذ حقيقة التهديدات الجديدة والمتجددة التي تواجه الولايات المتحدة حاليًا من جراء الثورات العربية وتداعياتها(36).

5- مستقبل الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)

في يوم 29 يونيو 2014 أعلن تنظيم “داعش” قيام “دولة الخلافة الإسلامية” في خطاب تاريخي لزعيمه أبو بكر البغدادي في المسجد الكبير بمدينة الموصل، كما أعلن تسمية البغدادي “خليفة للمسلمين” حدث ذلك عقب اجتياح قوات “داعش” لمساحات واسعة من المحافظات “السنية” في شمال غرب ووسط العراق، وسيطرتها على كثير من منابع النفط العراقي، وتمكنها من فرض هيمنتها على مساحات واسعة من سوريا والعراق تتجاوز خمسة أضعاف الدولة اللبنانية.

تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ومشروعه السياسي أي “الخلافة الإسلامية” يعد تطورًا شديد الخطورة على مستقبل النظام العربي كله، لأن هذا التنظيم أخذ يتقوى على حساب تنظيم “القاعدة” في العراق وسوريا، وأخذ يمثل قوة جذب لمقاتلي التنظيمات الجهادية (السلفية الجهادية) ليس فقط في سوريا والعراق بل وفي أنحاء عربية وإسلامية بل وعالمية واسعة، وأخذ يمثل تهديدًا للمصالح الأمريكية خاصة والغربية عامة ما دفع الإدارة الأمريكية إلى تشكيل “تحالف دولي- إقليمي” لمقاتلة “داعش” في العراق وسوريا، لكن الحرب على “داعش” مازالت قاصرة، لأن التحالف الدولي يقود حربًا محدودة تقتصر على الضربات الجوية دون القتال البري، ولأنها تحدث دون تعاون أو تنسيق مع القوتين الإقليميتين إيران التي استبعدت بضغوط غربية وإقليمية من المشاركة، وتركيا التي نأت بنفسها عن المشاركة إلا بعد الاستجابة لمطالبها في سوريا وفي محافظة “حلب” على وجه الخصوص حيث يطالب الأتراك بفرض منطقة حظر جوي على منطقة واسعة من شمال سوريا، فضلًا عن أنها لا تريد أن يكون قتالها ضد “داعش” دعمًا للانفصاليين الأكراد الأتراك الذين يقاتلون في شمال سوريا تنظيم “داعش” جنبًا إلى جنب مع أشقائهم أكراد سوريا.

مشروع “الدولة الإسلامية” (داعش) يمثل خطرًا داهمًا على مستقبل النظام العربي لأسباب كثيرة. أول هذه الأسباب أنه مشروع ينحرف بأولوية ومكانة قضية فلسطين كقضية مركزية عربية حيث تتدنى أولوية هدف تحرير فلسطين وخوض الصراع ضد الكيان الصهيوني في مشروع “الدولة الإسلامية” (داعش). فرأس أولويات “داعش” هو هدف إقامة دولة الخلافة الإسلامية بكل ما يعنيه وما يتطلبه تحقيق هذا الهدف من مهام أبرزها بالطبع تدمير الدول العربية الراهنة باعتبارها دولًا ومجتمعات كافرة كي تقوم على أنقاضها دولة الإيمان أي دولة الخلافة، وبعدها تأتي أولوية محاربة الكفر وأخيرًا تكون المواجهة مع اليهود ربما “في آخر الزمان”.

تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ومشروعه السياسي أي “الخلافة الإسلامية” يعد تطورًا شديد الخطورة على مستقبل النظام العربي كله.

مشروع “داعش” أسسه أبو مسعد الزرقاوي مؤسس تنظيم “دولة العراق الإسلامية” أو “الدولة الإسلامية في العراق” ومعه أبو عمر البغدادي، وكان هذا المشروع هو سبب الصراع بين الزرقاوي والشيخ أسامة بن لادن زعيم “القاعدة” قبل اغتياله، وهو الصراع الذي أدى بالزرقاوي إلى الإعلان استقلال تنظيمه عن تنظيم القاعدة. ففي العدد الأول من مجلة “دابق” التي يصدرها تنظيم “داعش” باللغة الإنجليزية جاء التأكيد على أن الزرقاوي مهد الطريق للدولة الإسلامية، وبعد اغتياله أعلن أبو حمزة المهاجر وأبو عمر البغدادي قيام “الدولة الإسلامية في العراق” وكان أبو عمر أميرها، ومن بعده تولى أبو بكر البغدادي زعامة هذا التنظيم الذي تأسس على نقيض من أولويات تنظيم القاعدة.

فقد استمد أبو بكر البغدادي فكرة بناء “الدولة الإسلامية” من الأسس التي وضعها أبو مصعب الزرقاوي وأبو عمر البغدادي. وكان الزرقاوي وعد بإقامة “الإمارة الإسلامية” وعرض المراحل التي ستعبرها: أولًا: “ستقوم بإزالة العدو (أي إسقاط الدول الكافرة وسلطات الطغيان الفاسدة التي تقف حجر عثرة أمام إقامة دولة الخلافة”، وثانيًا “نقيم الدولة الإسلامية”، وثالثًا “ننطلق خارجًا للاستيلاء على بقية الدول الإسلامية”، ورابعًا “بعد ذلك نقاتل الكفار”، وهنا يكمن المفترق مع القاعدة التي تعطي الأولوية لقتال الكفار، وترجئ أولوية إقامة الدولة الإسلامية إلى نهاية المطاف.

فلسطين ليست ضمن هذه الأولويات، أو هي بالتحديد هدف نهاية المطاف بعد إسقاط دول الكفر، وإقامة الدولة الإسلامية، ثم التمدد نحو الخارج لفرض دولة الخلافة على العالم الإسلامي، وبعده مقاتلة الكفر (أي الغرب) وأخيرًا محاربة اليهود. فحسب تكفير “داعش” لن تقوم الساعة “حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون”. وفي العدد الثاني من مجلة “دابق” وفي الصفحة “4” جاء “بالنسبة إلى المذابح التي تجري في غزة، فإن أعمال الولة الإسلامية تتحدث بصوت أعلى من كلماتها، وأنها ليست سوى مسألة وقت قبل أن نصل فلسطين لمحاربة اليهود البربريين”، لكن “داعش” في الوقت نفسه ترى أن دعوة كل من السلطة الفلسطينية وحركة “حماس” إلى انتخابات تشريعية “واحدة من أعمال الردة”.

السبب الثاني، أن مشروع “داعش” الذي يجعل أبرز أولوياته إسقاط الدول العربية باعتبارها دولًا كافرة يعتبر قوة مضافة للكيان الصهيوني. لأن تدمير الدول الإسلامية بدافع من إسقاط دول الكفر معناه تدمير الجيوش والقدرات الاقتصادية وتمزيق الكيان السياسي والاجتماعي لهذه الدول، ويطلق العنان لمشروع التقسيم وإقامة الدويلات الطائفية والعرقية على أنقاض الدول القائمة، وهذا حلم الكيان الصهيوني، لأن تدمير الجيوش في العراق وفي سوريا، واستنزاف القدرات والثروات وإطلاق مشروع إعادة تقسيم أرض العرب لن يبقى قوة قادرة على مقاتلة الكيان الصهيوني. وما يحدث في شمال سوريا مع الحدود مع تركيا من نشاط كردي هدفه الانفصال عن الدولة السورية ضمن اصطفاف الأكراد لمحاربة “داعش” مدلوله واضح، ولعل في إعطاء أولوية لمصطلحات مثل “حرب كوباني- الكردية” بدلًا من حرب “عين العرب – السورية” ضد “داعش” ما يكفي لفهم خطورة ما يحدث في سوريا وما يحدث في العراق من تجهيز لإطلاق مشروع انفصال دولة كردية من الجسد السوري، وأخرى من الجسد العراقي، وهي كلها مجرد مقدمات لمشروع التقسيم.

أما السبب الثالث فيرجع إلى تناغم وانسجام مشروع إقامة “الدولة الإسلامية” مع المشروع الصهيوني لإقامة “الدولة اليهودية” في فلسطين، أو فرض إسرائيل دولة يهودية، فأولوية مشروع حكومة بنيامين نتنياهو التي تحكم الكيان الصهيوني الآن هو إقامة الدولة اليهودية وفرض مشروع “دولة واحدة لشعب واحد” أي دولة إسرائيل الكبرى للشعب اليهودي على أنقاض مشروع حل الدولتين.

وقد حرص نتنياهو وأبرز قادة الكيان الصهيوني على جعل ترسيخ هذا المفهوم ومركزيته قولًا وعملًا من خلال التوسع في مشروع التهويد والاستيطان في القدس والضفة الغربية المحتلة.

ففي مؤتمره الصحفي الذي عقده مع بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة يوم 13 أكتوبر الفائت على هامش زيارة بان كي مون لـ “إسرائيل” عقب انتهاء مؤتمر “إعادة إعمار قطاع غزة” بالقاهرة الذي نظمته مصر والنرويج كان بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الكيان الصهيوني حريصًا على أن يرد، ولو بشكل “غير مباشر” على مقررات اجتماع القاهرة، وأن يحسم ما يراه، من وجهة نظره، “قضايا ملتبسة” تتعلق بمشروع “الدولة اليهودية الكبرى” الذي تتبناه الحكومة الإسرائيلية، والذي يعني تفريغ مشروع “حل الدولتين” من مضمونه لصالح المشروع اليهودي القائم على أساس “أرض واحدة لشعب واحد”، أي أن فلسطين وبالتحديد الأراضي المحتلة عام 1948 (إسرائيل) والأراضي المحتلة عام 1967 (وبالتحديد الضفة الغربية) هي أرض موحدة لدولة موحدة هي دولة إسرائيل وللشعب اليهودي.

وحتى يصل إلى ما يريد توضيحه طالب نتنياهو، في حضور الأمين العام للأمم المتحدة، موضحًا مطالبه إلى كل من يعنيهم الأمر وبالذات الشعب الفلسطيني وقيادته والشعب العربي كله وزعمائه، بضرورة الفصل بين ما يجري في قطاع غزة وما يجري في الضفة الغربية، على أساس أن “القطاع لا تحتله إسرائيل” وأن الضفة الغربية هي جزء من أرض إسرائيل ومن حقها بناء على ذلك، أن تواصل فيها عمليات مصادرة الأراضي والمنازل وبناء المستوطنات.

والخلاصة التي أرادها نتنياهو أن تصل إلى الجميع هي؛ أنه “ليس هناك شيء اسمه القضية الفلسطينية”، وإن وجدت فإنها ليست السبب فيما يجري في الشرق الأوسط من صراعات، وأن الصراعات هي وليدة مجتمعاتها وهي إفراز لواقع الدول العربية “الفاشلة”، العاجزة عن تحقيق التماسك الوطني لكونها تضم مكونات غير متجانسة عرقيًا ودينيًا وطائفيًا، ولأنها دول مستبدة وغير ديمقراطية(38).

بهذا المعنى يخدم المشروع السياسي لـ “الدولة الإسلامية” (داعش) المشروع الصهيوني، ومن ثم فهو خطر كبير على النظام العربي، لكن الأهم أنه ومن خلال دعوته إلى إحياء بل وفرض “الخلافة الإسلامية” يرمي إلى هدم النظام العربي والتأسيس لنظام آخر بديل هو نظام الخلافة.

مستقبل النظام العربي يرتبط بمستقبل “داعش” ومن الصعب نجاح أي توقع بإعادة ترميم وتفعيل النظام العربي دون الوعي بمآل مشروع “داعش”، وهو محدد شديد الأهمية إضافة إلى المحددات الأربعة الأخرى التي تحكم مستقبل النظام العربي في ظل التطورات الجديدة في هيكلية النظام العالمي، وفي ظل تطورات وتداعيات ظاهرة الثورات العربية وما سوف تتركه هذه الثورات من تصدعات في بنية النظام العربي أو ما سوف تحدثه من تثوير وتفعيل لهذا النظام.

الهوامش

  • د. محمد السعيد إدريس: “النظام العربي والنظام الإقليمي للشرق الأوسط- تأثيرات الثورات العربية وصراعات النظام السياسي”، دراسة غير منشورة.
  • المرجع السابق.
  • د. أحمد يوسف أحمد ، النظام الدولي والنظام العربي ـ بحث في أنماط الارتباط، في : الوطن العربي والمتغيرات العالمية . (القاهرة ، معهد البحوث والدراسات العربية، 1991(، ص 53 ـ 63 .
  • انظر توضيح ذلك في مقدمة مؤلف لويس كانتوري وستيفن شبيجل :

Louis J. Cantory and Steven L. spiegel. The International Politics of Regions . A comparative Approce che, (Englewood Cliffs, New Jersey 1970), . pp. 1- 4

  • Oran R. Young , Political Discontinuties in the International System , “World Politics” Vol. No 1988, pp 369- 370.
  • د. عبد المنعم سعيد ، العرب ومستقبل النظام العالمي ، مرجع سابق ص 51 .
  • Andrew Scott , The Functioning of the International political system , (New York , Macmillan,1967, pp. 112-
  • Richard Rosecrance, “Regionalism and the Sort – cold war era “, Internation Journal, XLVI , No. 3, (Summer 1991) ,pp. 373 – 375 .
  • انظر في نماذج هذا التقييم : د. عبد المنعم المشاط ، “هيكل النظام العالمي الجديد”في : د. محمد السيد سليم (محرر(، النظام العالمي الجديد ، مرجع سابق ، ص 86 .
  • جمال سند السويدي، “آفاق العصر الأمريكي- السيادة والنفوذ في النظام العالمي الجديد” (مركز الإمارات للدراسات السياسية والإستراتيجية، أبوظبي، الطبعة الأولى، 1914)، ص 42.
  • المرجع السابق ص 43.
  • المرجع السابق.
  • المرجع السابق.
  • د. ودودة بدران ، ” الرؤي المختلفة للنظام العالمي الجديد ” في د. محمد السيد سليم، (محرر(، النظام العالمي الجديد ، مرجع سابق ، ص 42 ـ 52 .
  • د. محمد السيد سعيد “المتغيرات السياسية الدولية وأثرها على الوطن العربي “في : الوطن العربي والمتغيرات العالمية ، مرجع سابق ، ص 55 ، 56 .
  • حول معركة اكتساب التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والمجموعة الأوربية واليابان انظر : د. ليستر ثورو ، المتناطحون ـ المعركة الاقتصادية القادمة بين اليابان وأوربا وأمريكا ، ترجمة د. محمد فريد ، (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبو ظبي ، 1994 (، ص 150 ـ 163 .
  • د. عبد المنعم المشاط ،”النظام العالمي الجديد “في : د. محمد السيد سليم ، (محرر(، النظام العالمي الجديد ، مرجع سابق ، ص 86 ،87 .
  • Johan Galtung,” A Structursal Theory of Aggression, Journal of PeaceResearch , No . 2 , (1964) , pp. 95 – 188.
  • Ted Galen Carpenter, ” The New World Disorder, Foreign Policy, 8, (Fall 1991).
  • انظر في إعادة تقييم وجود وأدوار القوة العظمى في مرحلة ما بعد القطبية الثنائية :

Edward N .Luttwak , Where are the Great Powers ? At Home with Kidds، op.cit, Foreign Affairs, vol.73 ، No 4, (July – August 1994), p.p.23-28.

William Pfaff, “Reading World Order”, Foreign Affairs, vol.70 ، No 1, 1991 .and : Barry Buzan, “New Patterns of Global Security in the Twenty . First Century،International Affairs، Vol . 67 , No. 3 , (July 1991).

  • انظر في مفهوم وفاق القوى:

Richard Rosecrance,” A New Concert of powers”, Foreign Affairs, Vol. 71، No. 2, (1992), pp. 64 – 82 .

السيد ياسين ” قراءة استشرافية لخريطة المجتمع الكوني الجديد ” في : التقرير الإستراتيجي العربي لعام 1993 مرجع سابق، ص 14 .

د. عبد المنعم سعيد ، ما بعد الحرب الباردة : النظام الدولي بين الفوضي والاستقرار 3991 ، التقرير الإستراتيجي العربي لعام 1993 ، ( مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، مؤسسة الاهرام ، 1994)، ص 53 .

د. محمد السيد سعيد ، المتغيرات السياسية الدولية وأثرها علي الوطن العربي ، مرجع سابق ، ص 17 ـ 37 .

انظر في هذا التحول لوظيفة الامم المتحدة وضغوط قيادة النظام العالمي :

Peregine Worsthome, “New World Disorder” The Sunday Telegraph , July. 5, 1991. Joseph S. Nye، Jr, What New world order ?op. cit,pp. 95-96.

  • عبد الرحمن محمد النعمي، “الصراع على الخليج العربي،\\\”، (بيروت، المركز العربي الجديد للطباعة والنشر، 1992)، ص113.
  • المرجع نفسه، ص113.
  • “كلينتون: أمريكا.. قائدة العالم.. وتعمل منفردة عند الضرورة، جريدة الخليج، 6/5/1993.
  • هنري كيسنجر، “مقومات للفوضى في السياسة الخارجية الأمريكية”، جريدة الشرق الأوسط، (خدمة لوس أنجلوس تايمز)، 5/9/1993.
  • “أمريكا تعلن الخطوط العريضة لاستخدام القوة المنفردة لحماية مصالحها”، جريدة الخليج، 25/9/1993.
  • المرجع نفسه.
  • زها بسطامي، “الإستراتيجية الأمريكية والنظام العالمي الجديد”، جريدة الحياة، 5/4/1992.
  • وليام بفاف، إمبراطورية كاريكاتورية” (نقلًا عن International Herald Tribune)، جريدة الخليج، 28/3/1992.
  • المصدر نفسه.
  • “أمريكا تحاول احتواء ردود الفعل ضد وثيقة البنتاجون”، جريدة الاتحاد (الإماراتية)، 14/3/1992.
  • د. محمد السعيد إدريس، “شراكة دولية لقيادة النظام العالمي”، جريدة الخليج، 2/1/2014.
  • أحمد السيد النجار (محرر)، “تقرير الاتجاهات الاقتصادية والإستراتيجية 2012- 2013″، (القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية)، ص344- 346.
  • د. محمد السعيد إدريس، “الثورات العربية ومستقبل العلاقة بين النظام العربي والنظام الإقليمي”، التقرير الإستراتيجي العربي، (مؤسسة الأهرام، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- القاهرة، 2011- 2012).
  • المرجع السابق.
  • المرجع السابق.
  • د. محمد السعيد إدريس، “دولة الخلافة الإسلامية” (داعش) ومستقبل الصراع العربي الصهيوني- ورقة مقدمة إلى مؤتمر “داعش: العالم في مواجهة الإرهاب الدولي- 23 نوفمبر 2014.
  • المرجع السابق.

د. محمد السعيد إدريس

المركز العربي للبحوث والدراسات