وضع مسيحيي العراق يفضح الدسائس الطائفية والسياسية

وضع مسيحيي العراق يفضح الدسائس الطائفية والسياسية

_87832_iraq3

لا يشبه حال المسيحيين في الحرب متعددة الوجوه في العراق حال أي أحد آخر من المجموعات السكانية الأصلية في البلاد.. حنين للماضي البعيد، وقلق من الحاضر، وسوداوية من المشهد القادم في المستقبل.

كان النزوح المسيحي من الموصل عقب هجوم داعش المخيف على المدينة قبل سنتين أكثر اللحظات خوفا، وأكثر اللحظات يقينا من عبثية حديث الساسة ورجال الدين عن وقتية الظرف الحاصل. والذي توج بأيام طويلة من الركود النفسي، والضياع في عالم المخيمات، وبيوت الأجرة، وعروض الدعم من الكنائس المتنافسة على الكسب الديني، لا على المساعدة الخالية من ابتزاز الاتجاهات الساعية للتمدد المجتمعي في زمن الحرب.

عندما كان البطريرك العراقي الشهير لويس ساكو، يتحدث للإعلام عن ضرورة بقاء المسيحيين في الموصل عقب سقوط قسمها الأيمن شبه المدمر بيد تنظيم لم يوازه وحشية أي من التنظيمات السابقة التي مرت على العراق، والذي لم يعرف الهدوء منذ سقوط نظام الدكتاتور صدام حسين، والذي كان يحمل عهده تدميرا من نوع آخر كتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كان داعش يهيئ نفسه لطردهم (المسيحيين) جميعا تحت شعار بسيط “أما الجزية أو الرحيل”.

أظهرت الدعوات من على المنابر الداعية إلى خروج المسيحيين من المدينة شيئا من الإحراج لساسة سنّة من طينة علي حاتم السليمان الذي كان يتبجح بأنها ثورة شعبية حقيقية ضد استبداد حكومة المالكي، وانتهاكات النظام الأمني الطائفي، وضد فساد السلطة كهيكل إداري، وتعاملها غير العادل مع مناطق محددة من الجغرافيا العراقية المقسمة سياسيا. وكان لأفعال داعش وكذلك أفعال وممارسات السلطات الحكومية الفاشلة، وطائفية النزعة، التابعة للمالكي أن قسمها مجتمعيا أيضا.

حرب إقليمية واسعة، ممتدة من اليمن إلى لبنان، فسوريا والعراق، حرب عنوانها طائفي، وباطنها نفوذي، وأفعالها وحشية

ما ورد ذكره من اتهامات للسلطة الشيعية الطائفية والتي تتبع إيران ذات الدور التخريبي للبلاد بشكل شبه مطلق في بغداد، هو تصور حقيقي لعوالمها وهي أحد أسباب تغليف دخول داعش المدينة من قبل الكثير من الساسة السنة بغلاف الثورة والتحرير ودون دراية لتبعاتها، ودون الاستفادة من التجربة السورية المجاورة والمليئة بالمرارة والقسوة والوجع.

والحال أن التصور الحقيقي الآخر والأكثر واقعية، كان في أن التغليف المذكور لم يكن ذا ديمومة وتحت السيطرة بقدر ما كان إحراجا ذاتيا لهؤلاء الساسة أولا، وفقدانا لمصداقية كانت قد تولدت كنتاج قهر المجموعات الشعبية الموالية لهم، والحانقة على عمل النظام تجاههم بعد أن تبين ضعفهم وهشاشة قراءتهم للواقع العام ثانيا.

حُمل المسيحيون من أهالي مدينة الموصل، كما الكثير من الطوائف الدينية الأخرى في باقي المناطق قليلة الحظ من العراق، والتي من المفترض أنها إحدى مميزات العراق كدولة ذات إرث كبير في تاريخ الحضارة البشرية، جريرة الصراع الأكبر وتداعياته الكثيرة في المنطقة، وهي حرب إقليمية واسعة، ممتدة من اليمن إلى لبنان، فسوريا والعراق، حرب عنوانها طائفي، وباطنها نفوذي، وأفعالها وحشية.

لم تكن الحرب الإقليمية الطائفية التي يشكل العراق جزءا رئيسيا منها قد ولدت لتصفية حساب مع معتنقي المسيحية، أبدا، هي لباس أكبر من لباس تلك المجموعة التي كانت آخذة أصلا في التناقص. فمن المعلوم أن تلك الكتلة متنوعة الهويات (المذهبية – القومية) خسرت ما يزيد عن نصف تعدادها منذ عام 2003 بين قتيل، ومهاجر، ومقيم وقتي في دول الجوار. وعند وصول داعش كان من الطبيعي أن يميل تعداد هؤلاء إلى الأرقام التي تشير إلى التناقص وبتسارع مهيب.

المسيحيون النازحون لا يشكلون وحدة متكاملة سياسيا ومذهبيا، فأبناء الموصل يختلفون عن أقرانهم من أبناء السهل القريب

لا يشكل المسيحيون النازحون وحدة متكاملة سياسيا ومذهبيا على الأقل، فأبناء مدينة الموصل يختلفون في الرؤية عن أقرانهم من أبناء السهل القريب متناثر البلدات، والمسمى بـ”سهل نينوى”، الموصلاويون (أبناء المدينة) قرروا الثبات بصورة شبه دائمة في مدن نزوحهم في إقليم كردستان أو الرحيل أبعد منه في رحلة البحث عن الاستقرار في بلاد اللجوء الغربية، وفي أفضل تقدير ممكن لتصور مصيرهم لما بعد داعش هو التحرك للاستقرار في السهل (سهل نينوى) مع أهالي السهل النازحين أيضا.

الذين قرروا، في ما يبدو من حديثهم وبعض تصريحاتهم، البقاء بصورة دائمة، وبنمط من الحكم اللامركزي الإداري مع الإقليم الكردي الأكثر أمانا من المركز، والأكثر تسامحا من الحكومة في الجنوب الذي أتى لهم بداعش، والأكثر تمسكا بمحاربة الإرهاب من باقي القوى التي تملك السلاح في ما تبقى من عراق. وفي الزاوية الأخيرة من مشهد الرحيل لداعش من العراق بعد طرده هذه الأيام من الكثير من المناطق التي احتلها كانت الصور العاطفية عن الوحدة الوطنية، والوطن الواحد، لأبناء آشور بانيبال ونبوخذ نصر وتوما الرسول تنقشع رويدا رويدا.

جحيم داعش أظهر كيف أن الغايات المصالحية، والانشطارات المجتمعية، والعشق للقتل، ورحلات البحث عن الهوية، ونفاق الساسة من على ضفتي الجبهة (النظام – المعارضة)، أكبر بكثير من حديث وتصور شعبويين يعاني المواطن المسيحي النازح نفسه منهما ويتمحور حول أن الصهاينة اليهود (العدو الخفي والدائم في هذه البلاد المنكوبة) يحاولون من خلال داعش تدميرنا! وتطليقنا نهائياً من الموصل! لأنهم يحاولون العودة إليها وإلى أملاكهم فيها لأنها إحدى واحاتهم المغتصبة تاريخيا! ذلك التصور السريالي المرافق لهذه المحن في ما يبدوا من نغمته ذات الروح المؤامراتية، والبعيد عن التحليل السليم للأحداث، والبعيد جدا عن قراءة الواقع الحقيقي المريض بأمراض التخلف، والضياع، والفقر، والاستبداد، والتطرف، والتهميش، والتجهيل، قريب جدا من نتاجات عالم “البعث” الذي أتى لنا ولهم بكل هذا الخراب، ودون أن يلاحظوه حتى، أو أقله دون أن يلاحظه جلّهم التائه بين المحافظات العراقية وبلاد الجوار الأخرى.

براء صبري

صحيفة العرب اللندنية