سياسات كردستان الجديدة

سياسات كردستان الجديدة

iraq-kurdistan900x600AP050803019202-639x405

من المرجح أن تمهّد الاتفاقية التي أبرمت مؤخراً بين الحزبين السياسيين البارزين في «كردستان العراق»، أي «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» («كوران») الطريق للسياسات الكردية في السنوات القادمة. ومن المتوقع أيضاً أن تزيد هذه الاتفاقية من حدة التوترات القائمة بين الحزبين و «الحزب الديمقراطي الكردستاني» («الحزب») المهيمن الذي يرى هذا التحالف الجديد على أنّه يهدف إلى تقويض قوّته. لكن إذا تحلّى «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بقدر أكبر من المرونة في التعامل مع الاتفاقية، فقد يتمكّن، على المدى البعيد، من تحقيق الاستقرار السياسي في «كردستان العراق».

في 17 أيار/مايو، وقّع «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» اتفاقية تنص على وضع برنامج عمل مشترك من شأنه أن يُوفّق بين الحزبين على الساحتين السياسيتين الكردية والعراقية. وفيما يُعتبر «الاتحاد الوطني الكردستاني»، الذي يترأسه الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، جزءاً من الطبقة الحاكمة الكردية، غالباً ما كانت «حركة التغيير» تتّخذ صفة الحزب المناهض للطبقة الحاكمة. ولا تقتصر أهمية الاتفاقية التي أُبرمت بين الجانبين على إنهاء ما يقرب من سبع سنوات من العلاقات العدائية التي كانت سائدة بين الطرفين، بل من المرجح أن تشكّل الاتفاقية قوة موازية مضادة لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بقيادة مسعود البارزاني، القائم بأعمال رئيس «كردستان العراق». و تشير أيضاً إلى الإنهاء الفعلي لما يسمى بـ “الاتفاقية الاستراتيجية” التي حوّلت الخصمين السابقين، أي «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، إلى حليفين لعدد من السنوات.

وقد أُبرمت الاتفاقية بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» بعد الانهيار الكبير لعلاقات «كوران» مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني». ولعل السبب الرئيسي وراء هذه التداعيات يتمثل بالجهود التي بذلتها «حركة التغيير» في حزيران/يونيو 2015 بتقديم عدد من مشاريع القوانين التي تهدف إلى تعديل قانون الرئاسة في «كردستان العراق» عندما شارفت ولاية البارزاني على الانتهاء. واعتبر «الحزب الديمقراطي الكردستاني» هذا الأمر محاولة لإضعاف البارزاني، مما أدى إلى تدهور العلاقات التي تربطه بـ «حركة التغيير». ولم يتم تعديل القانون بل قامت هيئة حكومية في وقت لاحق بتمديد ولاية البارزاني على الرغم من الاحتجاجات الشديدة اللهجة التي صدرت عن «كوران» وبعض الأحزاب الصغيرة. وعندما استهدف المحتجّون مكاتب «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في محافظة السليمانية في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه،التي أدت إلى سقوط خمسة قتلى على الأقل في صفوف مناصري «الحزب الديمقراطي الكردستاني» والمحتجين، اتّهم حزب البارزاني «حركة التغيير» بالهجوم على مكاتبه. وبالتالي، قام «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بما لم يكن في الحسبان إذ منع رئيس برلمان «إقليم كردستان» وخمسة من الوزراء التابعين لـ «حركة التغيير» من دخول إربيل في تشرين الأول/أكتوبر 2015 وبذلك وضع حداً لمشاركة «كوران» في المؤسسات الحكومية الكردية. وأدى هذا الأمر إلى انقطاع العلاقات بين الطرفين و إنهاء شراكة غير مستقرة كانت قد بدأت في عام 2014 عندما فضّل «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الذي يشكّل أكبر كتلة في البرلمان الكردي المنتخب حديثاً، «حركة التغيير» على «الاتحاد الوطني الكردستاني» لتكون شريكته الرئيسية في الحكومة الائتلافية الجديدة.

ما الذي يتضمنه الاتفاق؟

يحتوي هذا الاتفاق على عدد من الأحكام التي يسعى كل من «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» إلى تطبيقها بشكل فعال، وبالتالي لن يساهم هذا الأمر إلا في تأجيج الأزمة السياسية وزيادة التشرذم في كردستان نظراً إلى معارضة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» لهذه الاتفاقية.

ونظراً إلى أن الائتلاف الحالي أصبح لديه الآن عدد أكبر من المقاعد من «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في البرلمان الكردي، 42 مقابل 38 مقعداً، يأمل «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» أن يحافظا على هذا الامتياز ويشكّلا أكبر كتلة برلمانية سياسية كردية في المستقبل. إلا أنه قد يصعب تحقيق هذا الأمر نظراً إلى أن الكثير من الأصوات التي نالتها «كوران» كانت حصيلة مواقفها السياسية المعارضة وخطابها المناهض للطبقة الحاكمة. أما الآن فسيُنظر إلى «حركة التغيير» نفسها بشكل متزايد كجزء من المؤسسة [السياسية]. وقد تفقد قسماً من الأصوات التي كانت ستحصل عليها في الانتخابات المقبلة لقاء تحالفها مع «الاتحاد الوطني الكردستاني»، ولاسيما من فئة الشباب والمثقفين وذلك نظراً لأنهم يعتبرون أن «الاتحاد الوطني الكردستاني» يضاهي «الحزب الديمقراطي الكردستاني» فساداً ومحسوبية.

وتدعو الاتفاقية المبرمة بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» إلى عملية إعادة تفعيل غير مشروطة للبرلمان الكردي الذي أصيب بالشلل عندما منع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» رئيسه من دخول إربيل في العام المنصرم. ويقول مسؤولو «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أنهم سيقبلون بإعادة الاعتبار إلى البرلمان شرط ألا تترأسه شخصية تابعة لـ «حركة التغيير».

وتدعو الاتفاقية أيضاً إلى وضع نظام برلماني ينص على انتخاب رئيس «إقليم كردستان العراق» في البرلمان وليس من خلال اقتراع مباشر. ونظراً إلى أنه من المرجح أن يبقى البارزاني متربعاً على عرش الرئاسة، يخشى «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أن يصبح الرئيس، إذا انتخبه البرلمان، مقيّداً بالاتفاقيات الائتلافية، مما يعيق بالتالي قدرته على تطبيق سياسات «الحزب الديمقراطي الكردستاني».

«الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»: علاقة حب وكراهية

 تعجّ السياسة الكردية بالنزاعات المسلّحة الداخلية. فقد برز «الاتحاد الوطني الكردستاني» كرد فعل على بعض سياسات «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وأعماله. ففي عام 1964، تشكّلت نواة «الاتحاد الوطني الكردستاني» عندما انشقّ جلال طالباني وإبراهيم أحمد الذي أصبح حماه في ما بعد، عن مؤسس «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مصطفى البارزاني، والد الزعيم الحالي مسعود البارزاني. فقد اعترضا على احتكار البارزاني الأب للسلطة داخل صفوف الحزب. ثم عاد طالباني إلى «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في أوائل السبعينيات لينشقّ مجدداً عند انهيار الثورة الكردية التي قادها البارزاني ضد الحكومة العراقية في عام 1975. وفي العام نفسه، أسس طالباني «الاتحاد الوطني الكردستاني» بالتعاون مع مجموعة من القادة الشباب الآخرين في محاولة منه لتحديد مسار جديد للسياسات الكردية العراقية. وعلى الرغم من فترات التعاون ، اتسمت علاقة «الاتحاد الوطني الكردستاني» بـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» منذ البداية بانعدام الثقة إلى حد كبير وبالاشتباكات المسلحة بين الطرفين.

وعندما اندلعت الحرب الأهلية بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» في عام 1994، قُسّمت أراضي «كردستان العراق» إلى منطقتين جغرافيتين، حيث سيطر «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على القسم الشمالي بينما خضع القسم الجنوبي لحكم «الاتحاد الوطني الكردستاني». وبدأ الطرفان يسوّيان خلافاتهما تدريجياً في أعقاب عملية السلام التي توسطت فيها واشنطن عام 1998. وانضّما إلى الائتلاف الذي ترأسته الولايات المتحدة لمحاربة صدام حسين في عام 2003 وتمكنا من تجاوز السياسات الحزبية إلى حد كبير لحوالي عقد من الزمن. و خلال تلك الفترة، تقاسم الفريقان السلطة في كردستان وبغداد على حد سواء، الأمر الذي اتخذ طابعاً رسمياً في ما بعد عبر اتفاقية استراتيجية أبرمت في عام 2007، مما أدى إلى قيام فترة من الاستقرار وتنمية اقتصادية في «إقليم كردستان» لم يشهد لهما مثيلاً.

إلا أن هذا التوازن الذي تطلّب الكثير من الحذر ما لبث أن انهار عندما انشقّت «حركة التغيير» عن «الاتحاد الوطني الكردستاني» في عام 2009، مما تسبب في خسارة «الاتحاد» ما يعادل نصف الأصوات التي كان يحظى بها. وساهم عدد من الأحداث الأخرى بما في ذلك الخلافات حول كيفية التعامل مع بغداد وتداعيات الأزمة السورية، في زيادة الهوة بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني». وعندما احتل «الاتحاد الوطني الكردستاني» المركز الثالث في الانتخابات البرلمانية الكردية التي أجريت عام 2013، لم يعد «الحزب الديمقراطي الكردستاني» يعامل «الاتحاد الوطني الكردستاني» كحليف بل اختار «حركة التغيير» لتكون شريكته الرئيسية في الإدارة الكردية الجديدة.

اتفاق «كوران» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»: تحالف أم اندماج؟

يتمثّل الدافع الرئيسي وراء تحالف «الاتحاد الوطني الكردستاني» مع «حركة التغيير» في تشكيل قوة موازنة، حيث أصبح  «الاتحاد الوطني الكردستاني» يتخوّف من الهيمنة المتصورة لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على شؤون «كردستان العراق». وكما جاء على لسان مسؤولَيْن بارزَيْن في «الاتحاد الوطني الكردستاني»، يتمثّل هدف حزبهم بإعادة فرض توازن القوى في كردستان وليس بإضعاف «الحزب الديمقراطي الكردستاني».

أما بالنسبة لـ «حركة التغيير» التي طردها «الحزب الديمقراطي الكردستاني» من المؤسسات الحكومية بطريقة مهينة وغير قانونية، فإن قرارها القاضي بالتعاون مع «الاتحاد الوطني الكردستاني» كان يشكّل الحل الوحيد الذي يسمح لـ «كوران» بالمحافظة على دورها الفعال في مستنقعات السياسة الكردية الآسنة. وعلى غرار ما قاله مسؤول رفيع المستوى في «حركة التغيير»، يعتبر الاتفاق أفضل محاولة قامت بها «كوران»”لوضع حد لتفرّد «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ولإعادة التوازن” إلى النظام السياسي السائد في كردستان. إن السياسات الشعبوية التي انتهجتها «حركة التغيير» والجهود التي بذلتها لتسخّر الاستياء الشعبي لمصلحتها قد وضعتها في مواجهة مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» مراراً وتكراراً طيلة السنوات الماضية. ويشير الاتفاق الذي عقد مع «الاتحاد الوطني الكردستاني» إلى أن قادة «حركة التغيير»، ولاسيما المنسق العام للحركة نوشيروان مصطفى، باتوا يعلمون أنهم لا يستطيعون أن يحققوا أي إنجاز يذكر، على المدى البعيد، إذا لم يصبحوا جزءاً من بنية سياسية أكبر. وتقدّم «حركة التغيير» قاعدة انتخابية واسعة لهذا التحالف إذ احتلّت المركز الثاني في الانتخابات التي أجريت عام 2013 في «إقليم كردستان»، فيما يوفّر «الاتحاد الوطني الكردستاني» الدعم العسكري للتحالف نظراً إلى العدد الكبير من قوات البيشمركة والقوات الأمنية التابعة له. فقد يخلق التعاون الناتج عن الاتفاق وضع يُربح كلا الطرفين مما يزيد من احتمال استمرار الاتفاقية لوقت طويل.

وعلى الرغم من إصرار قادة «حركة التغيير» على اعتبار هذه الاتفاقية مجرد تحالف، يعرب بعض المسؤولين البارزين في «الاتحاد الوطني الكردستاني» مثل عادل مراد، الذي تحدث عن احتمالية دمج “الاتحاد” و«كوران» وقال إن هذا الأمر يجب أن يشكّل الهدف النهائي للاتفاقية الحالية. ويعمل الفريقان حالياً على تشكيل لجنة قيادة مشتركة تتضمن أكثر الشخصيات نفوذاً من الطرفين. إلا أن محمد توفيق رحيم، المسؤول البارز في «حركة التغيير»، ينفي أي اندماج بين الطرفين ويضيف أن حزبه “لم يعد كسابق عهده عندما كنّا جزءاً من «الاتحاد الوطني الكردستاني»”.

إن مجرد اختيار «حركة التغيير» لمثل هذا التحالف الاستراتيجي مع «الاتحاد الوطني الكردستاني» يعتبر بمثابة اعتراف بفشلها في تحقيق التغيير المنشود عبر وسيلة ديمقراطية تقليدية في «إقليم كردستان». وقد جاء على لسان فريد أسسرد، وهو مسؤول رفيع المستوى في «الاتحاد الوطني الكردستاني»، ما يلي: “لو تمكنت «حركة التغيير» من النجاح بمفردها لما اشتركت في هذه الاتفاقية.” وقد يخيّب الاتفاق المبرم بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» آمال الكثير من الشبان الأكراد الذين علّقوا آمالهم على «كوران» لترمي حجراً في مياه سياسة كردستان الراكدة لاضفاء العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص على نظام يخضع لحكم عائلات البارزاني والطالباني والمقربين منها. ويبرهن الاتفاق المبرم بين «حركة التغيير» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» (أو الاندماج المحتمل) أن قدرة السياسة الكردية على التأقلم مع عمليات التغيير الديمقراطي، محدودة.

العلاقات مع بغداد: اللحظة الفاصلة

تمحور خطاب «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في السنوات الأخيرة حول الانفصال السلمي عن العراق أو حول إعادة تنظيم العلاقات التي تربط بغداد بـ «حكومة إقليم كردستان» على أساس كونفدرالي. وطالب «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الذي يعتبر العنصر الأبرز في «حكومة إقليم كردستان»، بزيادة استقلالية هذه الحكومة عن بغداد في ما يتعلق بالقضايا الأساسية كالتحكم بموارد الطاقة ومدى الحكم الذاتي الكردي. ولطالما كان «الحزب الديمقراطي الكردستاني» يشكّل المحرك الرئيسي وراء سياسة مستقلة لتصدير النفط التي أخذت «حكومة إقليم كردستان» تطبقها مؤخراً مما أدى بالتالي إلى قيام بغداد بقطع حصة «إقليم كردستان» من الميزانية العراقية.

إن أي تحالف قوي بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» قد يزيد من حدة الانقسامات في «إقليم كردستان العراق» حول الحكومة العراقية، إذ يعتبر «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«كوران» من كبار مؤيدي تحسين العلاقات مع بغداد.

وعلى غرار ما قاله رحيم، المسؤول في «حركة التغيير»: “أياً كانت مخططاتك على المدى البعيد، عليك أن تحافظ على علاقات طبيعية مع بغداد. فأي علاقات سيئة مع بغداد ستعود عليها بالفائدة وستلحق الأذى بنا.” وعلى غرار الكثير من خصوم  «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، يعتبر رحيم أن خطاب «الحزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يدعو إلى الاستقلال ما هو إلا “دعاية تهدف إلى تضليل الناس.”

وعلى الرغم من أن «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» قد عبّرا في الاتفاقية الأخيرة عن دعمهما للهدف الطويل الأمد المتمثل باستقلال «إقليم كردستان»، غالباً ما يبدو قادة الحزبين أكثر تحفظاً حول هذا الموضوع. فقد دعا «الاتحاد الوطني الكردستاني» على وجه التحديد بوضوح أكبر إلى التقرّب من بغداد وتأجيل أي خطط من شأنها أن تدعو إلى التقسيم. ويعتقد السياسي المخضرم في «الاتحاد الوطني الكردستاني» عادل مراد أنه لا يمكن اعتبار الاستقلال الكردي “واقعياً” في الوقت الحالي نظراً إلى الأزمة الاقتصادية الشديدة التي تمر بها كردستان وخطر المواجهة العسكرية المحتمل مع بغداد أو الجماعات الشيعية شبه العسكرية التي تدعمها إيران وبغداد على حد سواء.

ونظراً إلى أن المنطقة التي تقع تحت سيطرة «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» ليس لها حدود سوى مع إيران والعراق، فقد يصعب على الحزبين، من الناحية العملية، دعم الانفصال عن العراق، الأمر الذي دفعهما إلى اعتماد لهجة أكثر تصالحية مع بغداد. ويخشى الكثيرون في «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«كوران» أن يؤدي الاستقلال إلى تعزيز قبضة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على السلطة في كردستان.

الشروط الداخلية التي ترعى تحالف «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير»

قد يترتب على الاتفاق المبرم بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«كوران» تداعيات مختلفة على الديناميات الداخلية لكل حزب. وفي حين يُعتبر «الاتحاد الوطني الكردستاني» حزباً مقسّماً للغاية، جمع الاتفاق سوية العديد من فصائل «الاتحاد» المختلفة كتعبير عن وحدة الصف. ونظراً إلى تفاقم الصراعات على السلطة داخل الحزب، على الصعيدين الشخصي والفصائلي، يبقى السؤال مطروحاً ما إذا كان التعاون الحالي سيكون مستداماً. وتحاول الفصيلة المهيمنة داخل «الاتحاد الوطني الكردستاني»، المتألفة من زوجة الطالباني وحلفائها، أن تستخدم الاتفاق الذي أبرم مع «حركة التغيير» كوسيلة لإدخال بعض النظام الداخلي ولإعادة إحياء قاعدة دعم الحزب، التي خاب أملها كثيراً في أداء قادة الحزب في السنوات الأخيرة.

وقد يترتب على هذا الاتفاق تداعيات مختلفة على «حركة التغيير» أيضاً إذ تضم هذه الأخيرة عناصر مختلطة من الناس الذين انشقوا عن «الاتحاد الوطني الكردستاني» والكثير من الشبان الأكراد المثاليين الذين رأوا في «كوران» منفذاً لإصلاح النظام السياسي الكردي الفاسد والمتداعي. وفيما يبدو أن معظم أعضاء «حركة التغيير» الذين كانوا أعضاء سابقين في «الاتحاد الوطني الكردستاني» متحمسين لإبرام اتفاق مع «الاتحاد»، يخشى بعض المسؤولين والكوادر الأصغر سناً أن يفقدوا أولويتهما، ولا تعود المثل العليا التي دفعتهم إلى الانضمام إلى الحركة تشكل أولوية بالنسبة إليها. وفي نهاية المطاف، لم يخضع «الاتحاد الوطني الكردستاني» لأي تغيير جذري منذ الحملة التي شنتها عليه «حركة التغيير» بمنتهى القوة. وقد يقول البعض إن «الاتحاد الوطني الكردستاني» اصبح يتجه أكثر فأكثر نحو المحسوبية في السنوات الأخيرة. ويبقى السؤال مطروحاً ما إذا كانت علاقات «كوران» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» هي مجرد تقارب بين الحزبين أم من المحتمل أن تتحول إلى اندماج؟ وإذا ما حصل ذلك، فماذا سيكون رد فعل العناصر الشابة والأكثر مثالية داخل صفوف «حركة التغيير»؟

آفاق مستقبلية

بعد هيمنة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على السياسة الكردية في السنوات الأخيرة، أخذ واقع جديد يبصر النور. والآن تُشكل الكتلة الجديدة المؤلفة من «حركة التغيير» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، بواسطة حجمها ومواردها، تحدياً لهيمنة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على وضع السياسية الكردية العراقية. مع ذلك لن تكون الجبهة الجديدة لـ «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«كوران» متجانسة، فقد لا يتفق الطرفان حول بعض القضايا الرئيسية نظراً إلى تصور كل منهما لمصالحه وأولوياته.

 وفيما أتت ردة فعل «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على الاتفاق الذي أبرم بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» دفاعية وعدائية، من الضروري أن تتواءم في ظل هذا الواقع الجديد. على «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أن يعي أنه لا يستطيع أن يتربع على عرش الرئاسة ورئاسة مجلس الوزراء وأن يشغل منصب مستشار الأمن القومي لأجل غير مسمى ويتعين عليه بالتالي أن يكون على استعداد لتقديم بعض التنازلات الواقعية. ولتحقيق الاستقرار والتقدم على المدى البعيد، يجب التوصل إلى اتفاق جديد يهدف إلى تقاسم السلطة. وفي هذا الصدد، يقول مسؤولون في «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» أن هذا هو الهدف الذي يسعيان إلى تحقيقه. وعلى «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أن يأخذ كلامهما على محمل الجد وأن يجري مفاوضات مع التحالف الذي يضم «كوران» و«الاتحاد الوطني الكردستاني». وقد أظهرت عقود من التجربة أن أياً من هاتين الكتلتين لا تستطيع إخضاع الأخرى إليها أو عزلها ولا حتى من خلال النزاع المسلح أو الاعتماد على دول إقليمية كإيران وتركيا والعراق. وإذ تحظى كل واحدة من هاتين الكتلتين الكرديتين بمنطقة نفوذ جغرافية منفصلة عن الأخرى، لا تستطيع إحداهما أن تبسط سيطرتها على كردستان من دون أن تتعاون مع الأخرى.

وتقع على كاهل «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مسؤولية التحلي بالمرونة واعتبار الاتفاق المبرم بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» فرصة لإعادة تأسيس نظام متوازن جديد، وبسط توازن مستدام، من شأنه أن يضمن الاستقرار والمكاسب الطويلة الأمد لكافة الأطراف. إلا أن ألعاب الخسائر والأرباح ستكون مضرة لقوة واستقرار كردستان ولأحزابه.

وفي الوقت نفسه، يتعين على «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» أن يضعا حداً لحملتهما الدعائية التي تستمر في تشويه سمعة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» منذ سنوات. وعليهما أن يؤكدا لـ «الحزب» حسن نواياهما تجاهه. فقد شوّهت الحملة الدعائية التي شنها «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» صورة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في محافظة السليمانية إلى درجة أن أي تعاون دائم مع «الحزب» بات مستبعداً. إن ما يمكن تسميته بـ “إجماع السليمانية” هو وليد تداعيات هذه الحملة الدعائية المكثّفة المناهضة لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وللبارزاني. وما انفكت السردية السياسية الصادرة عن السليمانية تصوّر «الحزب» بأنه رذيل على الرغم من الدور المحدود الذي يضطلع به في حكومة هذه المنطقة. ولقد أصبح هذا الإجماع في السليمانية على مناهضة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» يشكّل المفهوم السائد الذي لم تتشاركه «كوران» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» فحسب، بل انطبع أيضاً في أذهان الأحزاب الإسلامية والقسم الأكبر من الأوساط الإعلامية والكثير من الشخصيات المستقلة فيها. ولعبت هذه الخدعة الخطابية دوراً مهماً في فشل «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» في بناء علاقة أي علاقة عملية وقابلة للاستمرار مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» إذ تخوفا من أي ردود فعل عنيفة قد تصدر عن قاعدتيهما الشعبيتين.

ولكي تبقى «كردستان العراق» كياناً مستقراً واحداً، يتعين على جميع الأطراف أن يتحلّوا بروح المساومة وأن يعبّروا بصدق عن استعدادهم للتعاون في ما بينهم. ولن يؤدي الوقوع ضحية للطموحات الشخصية والنبضات الشعبوية، وشن الحملات الإعلامية التي تحط من قدر الغير إلا إلى زيادة الطين بلة ودفع كردستان نحو الهاوية. يتعين على «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«كوران» أن يتوقفا عن حشد دعم «حزب العمال الكردستاني» لهما في صراعهما على السلطة مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني». إن منح «حزب العمال الكردستاني» فرصة لتأسيس موطئ قدم له في الأراضي التي تخضع لحكم «الاتحاد الوطني الكردستاني» ومنطقة سنجار ذات الأغلبية اليزيدية، يزعزع الاستقرار في «إقليم كردستان العراق» من خلال تأجيج التوترات وزرع بذور الصراع المستمر والدعوة إلى تدخل خارجي غير مرغوب فيه، أي التدخل التركي في شؤون كردستان.

ويتمثل الأثر المباشر للاتفاق بالتصعيد الخطير للتوترات بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» من جهة و«الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» من جهة أخرى. وحتى الآن، تقوم استراتيجية «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على بث التفرقة بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير» من خلال تبني خطاب عدائي وعبر اتباع سلسلة من الخطوات لاستهداف «كوران»، على الرغم من أن «الحزب الديمقراطي الكردستاني» قد قام خلال الأسابيع الأخيرة بالتخفيف من حدة موقفه. وفي أربيل التي تخضع لسيطرة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ، أصدرت السلطات القضائية مذكرة اعتقال بحق زعيم «حركة التغيير» نوشيروان مصطفى. وأعرب كبار المسؤولين في «الحزب» عن عدم استعدادهم للدخول في مفاوضات مع لكتلة المشتركة لـ «حركة التغيير» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» تحت أي ظرف من الظروف. ويبدو أن هذه التكتيكات تهدف إلى إجبار «الاتحاد الوطني الكردستاني» على إعادة النظر في تحالفه مع «كوران» إذ لا تزال بعض المصالح الاستراتيجية المهمة تجمع بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» كالتعاون في مجال الطاقة، و كونهما ركيزة للحكومة وللقوات المسلحة الكردية.

هناك دور مهم يمكن أن تضطلع به الولايات المتحدة من خلال ممارسة الضغط على الأحزاب الكردية للتفاوض على اتفاق قابل للتطبيق على المدى الطويل. وتتمحور القضايا بمعظمها حول المنافسات النخبوية الشخصية وليس حول الصراعات الاستراتيجية الجوهرية. وبينما استثمرت واشنطن بشكل كبير في العملية السياسية والتقدم الديمقراطي في بغداد، لم تُظهر اهتماماً كبيراً على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، للانخراط في التطور السياسي في «إقليم كردستان». ونظراً لأن الولايات المتحدة كانت تؤدي دور الضامن الرئيسي للأمن الكردي خلال العقود القليلة الماضية، فهي تتمتع بسلطة وبنفوذ لا يستهان بهما وقد تستخدمهما لسبب وجيه. ويزداد هذا النفوذ أهمية في الوقت الحالي مع اعتماد الأكراد بشكل كبير على الولايات المتحدة لمواجهة التهديد الخطير الذي يشكله تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»).

لقد كانت كردستان جزيرة تتمتع نسبياً بالاستقرار وبالتقدم الاقتصادي طيلة السنوات الثماني عشرة الماضية، وتتطلب المحافظة على هذا الاستقرار على المدى البعيد التزاماً مستمراً بإبرام الاتفاقات السياسية وتقاسم السلطة. على السياسيين البراغماتيين في جميع الأطراف تجاوز المكاسب الشخصية والسياسية الضیقة وإدراك مزايا التعاون الطويل المدى. حتى أن تدخل واشنطن يعتبر ضرورة أكثر إلحاحاً نظراً إلى تدخل الدول الإقليمية كإيران وتركيا التي تسعى كل منهما إلى دعم حلفائها المحليين. فبينما تدعم إيران الكتلة التي تتألف من «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«حركة التغيير»، تقدم تركيا الدعم لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني». وخلاف ذلك، فإن المخاطر كبيرة جداً والسيناريوهات غير المستحبّة تلوح في الأفق كتقسيم «كردستان العراق» إلى منطقتين خاضعتين لحكمين منفصلين وحتى أنها قد تشمل أيضاً نزاعات مسلّحة.

 محمد صالح

معهد واشنطن