حلف الأطلسي والتقارب الروسي التركي

حلف الأطلسي والتقارب الروسي التركي

349
أثبتت الأحداث الأخيرة أن تركيا هي الطفل المدلّل لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وروسيا على حدّ سواء، نظرًا للمصالح المشتركة على كل الأصعدة الإقليمية والدولية. أصدر الحلف بياناً مقتضبًا أكّد فيه أنّ تركيا دولة عضو في الحلف منذ العام 1952 وهي جزء من حلف شمال الأطلسي، على خلفية التقارب التركي الروسي، وهذه الحقيقة غير خاضعة للنقاش.
ترك التقارب الروسي التركي، أخيراً، علامات استفهام كثيرة، بعد تردّي العلاقات بين البلدين نحو تسعة أشهر، بعد حادث إسقاط الجيش التركي مقاتلة روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وهو الحدث الذي قلب الموازين في هذه العلاقات. وأعاد اللقاء بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، رجب طيب أردوغان، أخيرا في سان بطرسبورغ، الأمور إلى نصابها في فترة زمنية قصيرة، وتوصّل الطرفان إلى اتفاقات عديدة للتعاون الاستراتيجي، والمضي بتنفيذ مشاريع الطاقة وخطوط نقل الغاز الروسي، وبناء مفاعلات نووية لأغراض سلمية فوق الأراضي التركية، بتأثيث وتجهيز روسيين. تبعت اللقاء اجتماعات ثنائية لوفود عسكرية روسية تركية رفيعة المستوى للتوصّل إلى صيغة تفاهم، في مجال سياسة الدفاع والتعاون العسكري المشترك، والتنسيق بشأن الملف السوري. وكان اللقاء، باعتراف الطرفين، ذا أهمية أصولية وجذرية، سيعمل على إعادة العلاقات بين البلدين بأفضل مما شهدته في المراحل السابقة. وحسب مجلة “Foreign Policy” تمكّنت روسيا من استثمار تراجع مستوى العلاقات والثقة ما بين تركيا وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية على حدّ سواء، إذ شعرت أنقرة بالعزلة وخيانة الغرب لها على ضوء ما شهدته من تبعات محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز الماضي.

عناق الدبّ الروسي
قدّم بوتين على الفور إمكانات عديدة للتعاون الاستراتيجي، وأوعز بإغلاق مكتب حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في موسكو، قبل زيارة الرئيس أردوغان بأيام، وكان المكتب قد افتتح بداية العام الحالي 2016 لتنسيق العمليات القتالية الروسية الكردية ضدّ مواقع داعش والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، حسب التوصيف الروسي. ودل إغلاق هذا المكتب على الثمن المتوقّع أن تدفعه أنقرة في مقابل تحجيم نفوذ الأكراد في شمال سورية والمناطق المحاذية لتركيا، مع تنفيذ مشاريع تجارية واقتصادية وسياسية، تصبّ في صالح الطرفين، وتدفع أردوغان إلى مسافة أقرب إلى أحضان الزعيم الروسي بوتين.
الظروف التي تمرّ بها القارة الأوروبية ودول حلف الناتو عصيبة، حيث صرّح خبراء

عسكريون في الحلف عن عدم امتلاكهم القوة العسكرية اللازمة لحماية دول البلطيق، حال اجتياح القوات الروسية إحداها. وذهب مرشّح الحزب الجمهوري للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، إلى أبعد من ذلك، حيث شكّك بجدوى بقاء قوام “الناتو”، وعدم وجود ما يكفي من الدوافع لحماية دول البلطيق من اعتداء روسي محتمل. وقال المحاضر في جامعة برينستن في التاريخ الروسي والعثماني، مايكل رينولدز، إن روسيا تتمنى انحلال حلف الناتو، و”تركيا في الوقت الراهن هي الحلقة الأضعف في هذا التحالف”.
وفي الشأن السوري، صرح وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، أن هناك رؤية تركية روسية مشتركة، بما يتعلق بضرورة التوصل إلى اتفاق شامل لتحقيق السلام في الإقليم، وتقديم المساعدات الإنسانية لمدينة حلب المحاصرة والمناطق المنكوبة الأخرى. لكن النتائج على أرض الواقع جاءت مناقضة تمامًا لهذه التوجهات، حيث ارتفعت وتائر قصف القاذفات الروسية القادمة من قواعد إيرانية على المدينة وأنحائها. وقدّمت إيران الدعم الكامل لموسكو لضرب شعبٍ بلا حول ولا قوّة، من دون حرج. وها هي الصين أيضًا، حسب مصادر إعلامية بريطانية وروسية، تقرّر إرسال مستشارين عسكريين لنظام الأسد في دمشق، لتنضمّ للتحالف العسكري الروسي الإيراني، والمساهمة في بناء وتدريب مزيد من القوات النظامية في دمشق.
ويأتي التقارب التركي الروسي في وقت شهدت فيه البلاد محاولة انقلاب فاشلة، وتوجّهت الأنظار على الفور إلى فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، ولشبكته الواسعة في دول غربية عديدة، وهدّدت أنقرة بإغراق القارة الأوروبية باللاجئين، إذا لم تسلّم الدول المعنية أنصار غولن من رجال الأعمال والفارّين من العدالة التركية، وخضعت بالطبع بعض هذه الدول للضغوط التركية. كما أدّت مطالب أنقرة بتسليم أميركا غولن إلى رفع معدّلات التوتّر بين البلدين.
وقد تركت تفاصيل الانقلاب وعمليات قصف مقاتلات تركية مواقع مهمة في العاصمة أنقرة وإطلاق النيران في الشوارع وسط الجماهير المكتظّة أثرًا نفسيًا عميقًا. لذا شعرت الحكومة التركية والمعارضة، على حدّ سواء، بالعزلة وبالإهانة من الموقف الذي تبنّته الحكومات الغربية وأطياف واسعة من الأحزاب الأوروبية في اليمين واليسار، ردًا على عمليات الاعتقال والقمع وخرق الحريات على مستوى واسع في تركيا بعد فشل الانقلاب، لذا، اضطرت الحكومة إلى البحث عن الدعم في أماكن أخرى، وكان الدبّ الروسي بانتظار هذه اللحظة المواتية.
ويرى رينولدز أنّ مواطنين أتراكاً كثيرين انتقدوا المواقف الغربية والأميركية المتوقع أنّها حليفة لتركيا، والتي بالغت بإدانة الحكومة التي انتخبت ديمقراطيًا في البلاد، حتى قبل فشل الانقلاب بصورة نهائية. وفي الوقت الذي طالب فيه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، زميله التركي، بعدم التسرّع والالتزام بالهدوء وضبط النفس في التعامل مع الأوضاع الطارئة في البلاد، هاتف بوتين على الفور زميله أردوغان، عارضًا عليه الدعم والمساعدة، من دون قيد أو شرط، وكان له ما أراد.
ليس متوقعاً أن تُظهر الولايات المتحدة الأميركية قلقًا من نتائج زيارة أردوغان روسيا، فحسب تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، إليزابيث ترودو، إن الولايات المتحدة لا ترى أمرًا غريبًا في زيارة أردوغان لزميله الروسي، حتى وإن شهدت وجهات النظر الأميركية الروسية تباينًا واضحًا في مواقف عديدة. ويرى خبراء أنّ تركيا، العضو في حلف الناتو، ما يزيد على 60 عامًا، ستبقي على ولائها للحلف، وليس متوقعاً أن تؤدّي محاولات الغزل الأخيرة التي أبداها أردوغان لزميله الروسي، لتشكيل علاقات قوية ودائمة على حساب “الناتو”. في الأثناء، استثمر بوتين هذه الوضعية، لتنفيذ رؤيته في إقليم البحر الأسود. على الصعيد الاقتصادي، ستُرفع العقوبات المفروضة على المنتجات الزراعية التركية، وسمحت موسكو بتوجّه السياح الروس إلى تركيا مجددًا، عدا عن الدخل المالي المتوقّع حال تنفيذ مشاريع الطاقة العديدة في تركيا، باعتبار الأخيرة أكبر الدول المستهلكة للغاز الطبيعي بعد ألمانيا، وأحد أهم أسواق الطاقة الواعدة في القارة الأوروبية. على الصعيد السياسي، ترغب موسكو باستغلال تركيا باعتبارها دولة عضوا في حلف الناتو، لا تلتزم ولا تنفّذ بالضرورة كل الالتزامات المعلنة تجاه أميركا والناتو.

رؤوس نووية أميركية إلى قاعدة رومانية
قد يكون خبر نقل الرؤوس النووية الأميركية الموجودة في قاعدة إنجرليك التركية إلى قاعدة

“ديفيسيلو” الرومانية مجرّد إشاعة، نقلها موقع “Eur Activ”، لكنّ وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لم تنفِ الخبر أو تؤكده، علمًا أنّ مشروع نقل رؤوس نووية أمرٌ في غاية الدقة والتعقيد من الناحية التقنية. وعلى الصعيد السياسي، هو ملزم للطرف الروماني الذي سارع إلى نفي الخبر، ما يؤكّد، على الرغم من ذلك، تردّي العلاقة الأميركية مع أنقرة. والقاعدة العسكرية الرومانية “ديفيسيلو” هي الموقع الجديد الذي شهد نصب عناصر من الدرع الصاروخية لحلف الناتو، لمواجهة الصواريخ الروسية العابرة للقارات في الأجواء قبل وصولها إلى أهدافها النهائية، وتمتلك، من الناحية العسكرية والإستراتيجية، ضمانات أكبر للرؤوس النووية الأميركية، بعيدًا عن مناطق القلق والتوتر في تركيا والأنحاء.
وحسب مركز Simson لدراسة وتحليل الأحداث والتغيرات الدولية الطارئة، يوجد نحو خمسين رأسا نوويا تكتيكيا في قاعدة إنجرليك الموجودة قرب الحدود السورية، حيث انقطع التيار الكهربائي عن القاعدة في أثناء محاولة الانقلاب، أخيراً، ومنعت أنقرة، في أثناء تلك المحنة، الملاحة الجوية من القاعدة وإليها، تبع ذلك اعتقال قائد القاعدة الجوية لتورّطه في عملية الانقلاب. وحسب الموقع نفسه، هناك تساؤلات أميركية بشأن إمكانية التحكّم بالأسلحة الموجودة في القاعدة، حال استمرار النزاع المدني فترات طويلة؟ سؤال لم يتمكن الخبراء من الإجابة عنه بصورة مقنعة. وأفاد مصدر آخر أدلى بتصريحاته لموقع Eur Activ بأنّ العلاقات المشتركة ما بين تركيا وأميركا ساءت، بعد محاولة الانقلاب، إلى درجة فقدت فيه أميركا ثقتها بقدرة أنقرة الحفاظ على الأسلحة المخزّنة فوق الأراضي التركية.
ليس قرار نقل الرؤوس النووية أمراً سهلاً، وليس مستغرباً أن يكذّب وزير الدفاع الروماني، ميخنيا موتوك، لوكالة الأنباء Mediafax هذه المعلومات جملة وتفصيلا، وأنكرت وزارة الخارجية الرومانية أيضًا ما ورد في هذا السياق، وفضّلت تركيا عدم التعليق على هذه الأخبار في الوقت الراهن. أمّا مقر قيادة حلف الناتو فأوصى، ردًا على تساؤلات وكالة الأنباء الروسية “إنترفاكس”، بتوجيه هذه الأسئلة لواشنطن. وصرح باتريك إيفانز ممثل البنتاغون لوكالة تاس أنّ الولايات المتحدة لا تنوي نفي هذه المعلومات أو تأكيدها.
على أيّة حال، يدرك حلف شمال الأطلسي (الناتو) جيّدًا حجم التحدّيات التي يواجهها في القارة

الأوروبية، وسيبذل جهوده للحفاظ على تركيا حليفًا إستراتيجيًا، على الرغم من الجفاء في العلاقات بين البلدين، في وقت تبدو فيه روسيا المستفيد الأكبر من هذه التباينات. على الصعيد الأوروبي، تنوي القوات الجوية الروسية القيام بمناوراتٍ عسكرية مع القوات الصربية على دورتين خريف العام الحالي، ما يعتبر تحديًا جديدًا للحلف، باعتبار صربيا مرشّحة لعضويته، من دون تحديد الوقت والمكان وتعداد القوات المشاركة في المناورات. وسيتم الإعلان عن هذه التفاصيل في نهاية شهر أغسطس/ آب الجاري.
وقد أعلنت وزارة الدفاع الصربية أنّ شهر سبتمبر/ أيلول المقبل سيشهد مناوراتٍ عسكرية، تحت مسمّى “الأخُوّة السلافية 2016” بالتنسيق، للمرة الثالثة، مع قوات روسيا البيضاء. أمّا أكتوبر/ تشرين الأول فسيشهد مناورات أخرى مع القوات الروسية فقط، وتحمل العمليات اسم “بارس”، تشارك فيها طائرات ميغ 29 وطائرات سمتية MI-17، التي اشترتها القوات الصربية حديثًا من روسيا. والأجواء التي ستشهد هذه المناورات على مرمى حجر من مناطق نفوذ “الناتو” في أوروبا، وتحدّ صريح واستعراض للقدرات والإرادة الروسية للحفاظ على مناطق نفوذ كبيرة في إقليم شرق أوروبا والبحر الأسود، ولا تجد صربيا حرجًا من التعاون مع الحلفين.

خيري حمدان
صحيفة العربي الجديد