كيف يأمل الرئيس أردوغان في محو تركيا أتاتورك؟

كيف يأمل الرئيس أردوغان في محو تركيا أتاتورك؟

free-2454316184020408404

في يوم من الأيام، قال مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحديثة: “ذات يوم سوف يتحول جسدي الفاني إلى تراب، لكن الجمهورية التركية سوف تبقى إلى الأبد”. وعلى هذا كوفئ بمكان خاص في تاريخ تركيا باعتباره “والد الأتراك”. وفي الحقيقة، هذا ما يعنيه اللقب الذي أعطاه له الناس “أتاتورك”. ومن المستحيل أن يكون المرء في تركيا من دون أن يشاهد صورته في كل مكان. فوجهه يزين قطع العملة -الورقية والمعدنية على حد سواء- وهو محفور على اللوحات الجدارية، ومطبوع على الأعلام، والتماثيل التي تحتفي بالرجل أكثر عدداً من أن تُحصى، بل إن هناك محلاً في إسطنبول لديه سلعة واحدة فقط: أقنعة وجه أتاتورك المطلية بالذهب. والرجل أيقونة ورمز للأتراك. إنه تركيا وتركيا هو. ولكن، إلى أي مدى سيستمر ذلك؟
كانت رؤية أتاتورك لتركيا هي إصلاح الأنقاض المتداعية للإمبراطورية العثمانية السابقة، وتحويلها إلى دولة-أمة علمانية غربية التوجه، والتي تعتنق الديمقراطية والعلم وترفعهما فوق “الخرافات”. وقد تحقق الكثير من رؤيته في الحقيقة. فقد أصبحت تركيا لاعباً قوياً على المسرح العالمي، وأصبحت تجري انتخابات حرة ونزيهة، كما أنها موطن للابتكار. لكنها أيضاً بلد يبدو أنه في طور التحول إلى مسار جديد؛ مسار أكثر شبهاً بكثير بالإمبراطورية العثمانية التي لطالما نظر إليها أتاتورك بازدراء.
اليوم، أصبح والد الأمة المصمم ذاتيا هو الذي يحدد المسار، بحيث لا يستطيع أن يكون أكثر تناقضاً مع أتاتورك لو حاول ذلك. ويعرض الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه على أنه رجل صاحب رؤية لدولة تضع الدين في صميمها، في حين يجري تفكيك الديمقراطية حتى أطرافها، ويبدو أن أحداً لن يستطيع إيقافه. ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز (يوليو)، يبدو أنه أصبح يتمتع أيضاً بدعم طيف عريض من الإرادة السياسية والشعبية ليفعل كل ما يريد ويتمنى. ويعمل قانون حالة الطوارئ الذي صدر في أعقاب الانقلاب على ضمان ما يفعله باعتباره محمياً في القانون. وقد مال ميزان القوى وصب بحزم في صالحه، وهو شيء لطالما أراده أردوغان لسنوات.
ما يزال حزب أردوغان، العدالة والتنمية، يحتل سدة السلطة منذ العام 2002. وعندما تشكل، صمم نفسه كحزب موالٍ للغرب، واعتنق اقتصاد سوقٍ ليبرالياً وأشار بصوت عال إلى الاتحاد الأوروبي الذي رغب في كسب عضويته لتركيا. وتحت هيمنته، شهد البلد طفرة في النمو الاقتصادي، وتمكن من نشر مخالبه المالية في جميع أنحاء الكوكب. وعلى السطح، كان حزب العدالة والتنمية جيداً لتركيا -إذا لم يكن عظيماً- على الصعيد الاقتصادي. لكن ذلك ربما يكون، للأسف، سمته الإيجابية الوحيدة.
انتقدت منظمات حقوق الإنسان تركيا بشكل متكرر. ومنذ محاولة الانقلاب الأخيرة الفاشلة، تكشف المزيد من مكامن القلق أيضاً. فقد تم تعليق عمل أو طرد عشرات الآلاف من الناس من أعمالهم، واحتجازهم واعتقالهم، وإلغاء جوازات سفرهم. وأصبح بالإمكان احتجاز المشتبه بهم لما يصل إلى 30 يوماً من دون توجيه تهمة، في حين تم استخلاص الاعترافات من الكثيرين بالضرب والإكراه. وفي الأثناء، يقيم الرئيس حفلات المشروبات (غير الكحولية بطبيعة الحال) لقادة حزبَي المعارضة الرئيسيين، حيث يعمل الجميع على إرضاء كل نزواته. وباستثناء حزب الشعب الديمقراطي، ليست هناك أي معارضة صوتية لسياساته، لكن هذا الحزب نفسه ربما يصبح بلا صوت قريباً أيضاً.
يريد أردوغان أن تكون للرئاسة سلطات تنفيذية، كما في الولايات المتحدة الأميركية، لكن تحقيق ذلك يحتاج إلى كسب أغلبية بنسبة الثلثين في البرلمان. وكان قد أمل تحقيق ذلك في أعقاب انتخابات حزيران (يونيو) 2015، لكن حزب الشعب الديمقراطي أحدث ثغرة في درعه حين حصل على مقاعد في البرلمان لأول مرة. وفجأة، بدا حلم أردوغان كما لو أنه يتسرب، ورأينا إلماحة أولى إلى كم هو أردوغان قاس لا يرحم. أصبحت العمليات العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني، الذي تقول الحكومة إن له روابط مباشرة بحزب الشعب الديمقراطي، أكثر وضوحاً، كما تداعى وقف لإطلاق النار كان قائماً منذ العام 2013. وأثارت الهجمات التي ألقيت المسؤولية عنها على كاهل حزب العمال الكردستاني مطالبات بإجراء انتخابات جديدة أكثر حسماً. وفي هذه المرة، تمكن حزب العدالة والتنمية من استخلاص أغلبية؛ لكنها لم تكن كافية لتمرير تلك السلطات التنفيذية للرئاسة من دون دعم، والذي لم يكن موجوداً.
بعد ذلك، تمت إعادة تعريف الإرهاب. فجأة وجد الصحفيون أنفسهم وهم يتساءلون عما يعنيه ذلك. هل يمكن اتهامهم بالإرهاب هم أيضاً -ببساطة- بمجرد استنطاقهم لسياسات الحكومة؟ نعم، كما تبين. فقد تم الاستيلاء على الصحف التي تنتقد أردوغان، وتم اعتقال الأكاديميين، وتم في النهاية إلغاء قانون كان يمنح الحصانة القانونية لأعضاء البرلمان. وأصبح بالإمكان الآن أن يواجه أعضاء البرلمان المؤيدون للأكراد (من حزب الشعب الديمقراطي) المحاكمة، وهي طريقة سهلة للتخلص منهم واستبدالهم بوجوه أكثر صداقة للحكومة. ثم وقعت كل أوراق أردوغان في مكانها المطلوب ليلة 15 تموز (يوليو).
ثمة محاولة انقلابية “أحبطها الشعب”. وكان الرجل الذي حثهم على قيادة الجهد هو أردوغان -من خلال تطبيق “فيس تايم”. لكم ذلك متحضر جداً! قال لهم: “اخرجوا إلى الشوارع كل ليلة”. وقد فعلوا، وتمكنت قوة الشعب من “سحق الانقلاب”. وتحولت المسيرات إلى حفلات، وحولت الأعلام المدن إلى بحر من الحُمرة، وتقمصت البلاد روح غالبيولي في العام 1915؛ وهي السنة التي بدأ فيها جندي يحمل اسم مصطفى كمال بالصعود إلى سدة الشهرة.
يعرف الغرب حملة غاليبولي باسم كارثة الحرب العالمية لونستون تشرشل، وبحجم الضحايا الذي أسفرت عنه. وفي تركيا، ينظر إليها الناس باعتبارها المعركة التي كسبها الأتراك تحت قيادة مصطفى كمال، والتي زرعت البذرة لبدء فصل جديد من التاريخ التركي. ولا شك أن العواطف قوة هائلة، ويعرف أردوغان ذلك. وتعمل فكرة أتاتورك، كما أصبحت لاحقاً، على إثارة روح كل فرد تركي قابلته في حياتي.
في المسيرات التي جرت في كل أنحاء البلاد، تم عرض صور ذلك الانتصار على شاشات عملاقة. وبهَّر أردوغان خطاباته بالإحالات إلى أتاتورك. كما اقترح بلا خجل أن هزيمة الانقلابيين هي بمثابة “غاليبولي الخاص بهم”، مما أثار موجة من الإخلاص الجديد للرئيس.
لعل الشيء الأكثر جدارة بالملاحظة هو كيف أصبحت صور أردوغان تصطف الآن إلى جانب صور. لقد مكنه الانقلاب من عرض أكبر مسرحية حتى الآن، حيث تتم إزالة فكرة أتاتورك باعتباره والد الأمة الوحيد. وبقيامه بذلك، يستطيع أردوغان أن يسخِّر هذه العاطفة وأن يزعم أن كل ما يفعله هو من أجل الأمة التركية، من أجل أولاده. وسيستطيع أن يمحو رؤية تركيا غربية التوجه، وأن يتحول بدلاً من ذلك إلى الشرق، في اتجاه الجمهورية الإسلامية، حيث يقع قلبه وعواطفه حقاً. لقد كان أتاتورك محقاً في شيء واحد: لقد تحول جسده إلى تراب، لكن الأمر نفسه يحدث لأسس جمهوريته أيضاً.

روز أساني

صحيفة الغد