بدعة الإصلاح وتوظيفها السياسي في العراق

بدعة الإصلاح وتوظيفها السياسي في العراق

يتداول في الآونة الأخيرة في العراق شعار الإصلاح السياسي من قبل قيادات في العملية السياسية، وكذلك من قبل ناشطين من خارجها. أهل العملية السياسية وجدوا في شعارات الإصلاح محاولة لإحيائها بعدما وصلت إلى مأزقها بالحكم حيث يعتقدون بإمكانية إجراء تعديلات شكلية في مجالات مكافحة الفساد وتخفيف المحاصصة عن طريق حكومة التكنوقراط، لكن هذه الشعارات الإصلاحية أصبحت ميدانا للتنافس والصراع بين قادة التحالف الشيعي وأداة من أدوات التسقيط السياسي خصوصا بين مقتدى الصدر ونوري المالكي وحيدر العبادي الذي يحاول استثمار هذه اللعبة للحفاظ على سلطته من رياح التغيير الحقيقي على يد الحراك الشعبي.

لا يمكن إنكار أن العبادي سعى من خلال برنامجه الحكومي إلى إجراء إصلاحات جزئية، لكنه واجه حيتان الحكم وسلاطينه الكبار الذين وقفوا بقوة بوجهه لخوفهم من تحول المسيرة الإصلاحية الجادة إلى إدانة كبرى لجميع المتورطين في الفساد أمام الشعب، فألقى بجمرة “دعوة الإصلاح” هذه إلى ساحة البرلمان التي تحولت إلى بازار للمزايدات، ثم إلى وسيلة سريعة لتفجير التناقضات والخلافات بين أطراف “سنة الحكم” الذين لا تجمعهم قضية أبناء ملتهم، وإنما الحفاظ وتجديد مفاتيح النهب والسرقة بأيديهم الخائبة.

أما خارج العملية السياسية فتوزع شعار “الإصلاح السياسي” بين دعاة وجدوه ميدانا جذابا للتوظيف السياسي، وبين دعاته الحقيقيين من الجماهير المظلومة. الفريق الأول من الدعاة بينهم من سبق لهم رفع شعار الوسطية والاعتدال للمشاركة في السلطة منذ عام 2003 لكنهم فشلوا لأن قيادة الاحتلال الأميركي لم تدعمهم سياسياً رغم خدمتهم وتمجيدهم لهم. المأزق الذي يواجهه هؤلاء رغم نياتهم الوطنية النبيلة أنهم يعتقدون بإمكانية الجمع بين مشروعهم السياسي المتعثر وبين سلطة الحكم، متوهمين أن مثل هذه التوليفة قادرة على فتح الطريق أمامهم للانتخابات المقبلة عام 2018، رغم أن إمكانياتهم الذاتية بسيطة لا تتعدى التعكز على مشاريع ونشاطات الغير، فهم في شعاراتهم الإعلامية يأكلون من جرف “الحراك الشعبي” من جهة، ومن دعاة المشروع الوطني من جهة ثانية؟ ذلك المشروع الذي قدم نفسه كبديل لمشروع الحكم الطائفي منذ أواخر العام 2004 وتحول إلى كتلة انتخابية قوية تضم مختلف فئات المجتمع (السياسيون المعتدلون والمثقفون والعسكريون وشيوخ العشائر السنية والشيعية) وحصل على دعم عربي هائل وامتلك الإمكانات المادية الكبيرة التي كانت قادرة على بناء نظام سياسي كامل، لكنه لم يصمد أمام الإرادة الإيرانية التي قررت إزاحته بقوة على مذبح نتائج الانتخابات لعام 2010. فما هي الإمكانيات التي يمتلكها أصحاب المبادرة الوطنية “الجديدة” اليوم؟

إذا كانت الإجابة بأن قادة ذلك المشروع العابر للطائفية كانوا يخضعون لإرادة الفرد القائد، فهل يوجد اليوم مشروع سياسي بدون قائد رمز، وهل إطلاق اسم “الرعاية للمشروع” يخلصه من هذا المأزق التنظيمي؟ إن فكرة الإصلاح من داخل العملية السياسية بقوى من خارجها ليست جديدة، بل جرت منذ عام 2009 وقدمها سياسيون كانوا يقولون لنا في حلقات الحوار والنقاش في ذلك الوقت “لا بد من العمل من داخل العملية السياسية وليس من خارجها”، لكنهم في الواقع بدأوا بمشاريع ليبرالية ودعاة للإصلاح من الداخل، وانتهوا بالمناصب الكبيرة لهم في البرلمان والحكومة وفق (المحاصصة الطائفية) لأن اللعبة تقول ما مفاده إنه “لكي يكون لك مكان داخل العملية السياسية عليك أن تستند إلى طائفة ما”. لا يوجد هناك في الظرف الحالي من يتمكن من تحقيق أدنى الأهداف الوطنية وهو يرتدي ثوب الوسطية لكنه يعمل في مطبخ الطائفية. لا نريد التسرع في الحكم على دعوات الإصلاح والوسطية الجديدة بأنها محاولة غير تقليدية لحجز مكان على محطات الانتخابات المقبلة في وقت مبكر، مع أنها كذلك.

إن ما يعيشه البلد من كوارث سياسية واجتماعية واقتصادية لا تسمح شعارات الاعتدال والوسطية وفق الصيغ المطروحة بإنقاذه، خصوصاً عندما تكون على ذات الإيقاع الذي ابتدأ منذ أربعة عشر عاماً في المراهنة على سلطة الاحتلال الأميركي التي خربت العراق وجلبت دهاقنة الطائفية وهندست مواقعهم ووفرت لهم الأرضية القانونية، مثل قرار حل الجيش الوطني العراقي وقانون المساءلة والعدالة وسن دستور شرّع سيطرة الأحزاب الطائفية على الحكم عبر الانتخابات.

فكرة الإصلاح من داخل العملية السياسية فاشلة لأسباب كثيرة أهمها: إن الأحزاب الطائفية الكبيرة ليست غبية بعد هذه السنوات الطويلة من خبرة الحكم والتحكم، فلا تسمح لأية فرصة لليبراليين سواء اليوم أو في الأيام المقبلة لكي تصبح المبادرة بأيديهم، والمثال هو عندما تحرك الشباب العراقي المدني قبل عدة أشهر في تظاهرات شعبية قوية بوجه الفساد وفق شعار “الإصلاح السياسي” تم قمعه من قبل قادة الأحزاب واتهامه بالتآمر على الإسلام السياسي. فهل توظيف ذلك الشعار من قبل دعاة “الوسطية والاعتدال” حالياً سيعينهم على تحقيق أهدافهم؟ كما أن طلب المعاونة من حكومة العبادي لتخطي المرحلة الصعبة الحالية، ما هو سوى وهم يضاف إلى أوهامهم بالمراهنة على قيادة الاحتلال السياسية عامي 2004 و2005.

إن العبادي هو صاحب مشروع الإصلاح السياسي فكيف سيسلم مشروعه لغيره من خارج العملية السياسية أو من داخلها؟ وهو الذي حصل على دعم داخلي وخارجي وبيده السلطة (تأييد مطلق من مرجعية السيستاني التي تعتبرها جميع الأحزاب الطائفية الحاكمة صاحبة الكلمة الأخيرة وكانت داعمة للعبادي إضافة للأميركان الذين جاؤوا بالعبادي والإيرانيين أصحاب الولاية على حكم العراق) ولكن مع ذلك فشل في مهمته، وأية محاولة لا تمتلك مقوماتها من خارج العملية السياسية ولا تنطلق من مشروع وطني ستصب في خانة تقديم جرعات من الحياة لسلطة الحكم.

لا يفهم من نقدنا هذا أننا نريد إلغاء المبادرات الوطنية الجديدة، والاستسلام لمشروع السلطة، بل العكس لا بد من عدم إضاعة فرصة الحراك الشعبي والاعتماد على معطياتها الايجابية خلال السنتين الأخيرتين، ولكن ذلك يجب أن يتم وفق رؤية تنظر للواقع العراقي السياسي والأمني وفق سياقه الصحيح وعدم تبرئة المشاركين في الانهيار التام، ووضع التبريرات لبعضهم، والانتباه إلى أن مشروع الحكم الطائفي وصل إلى حافات الانهيار وليس من الوسطية والليبرالية مد الحبال لإنقاذه عبر شعارات جذابة لكنها تنتهي إلى الجهة المقابلة لمصلحة الشعب، مثل تكرار البعض من المطالب تحت سقف العملية السياسية كإشراف الأمم المتحدة على الانتخابات وهي التي أشرفت لثلاث دورات سابقة ومنحتها صك النزاهة، أو الدعـوة إلى سن قـانون جديد للأحزاب، أو طلب إعادة إنتاج الحكومة، وقد سبق لمقتدى الصدر أن طرح الكثير من هذه المطالب بزخم شعبي لا يمتلك دعاة المبادرة المدنية واحدا بالمئة مما يمتلكه الصدر.

بدعة “الإصلاح” من داخل العملية السياسية يقودها حيدر العبادي الآن، فهل المطلوب منه أن يسلّم أدواته وقدراته لغيره لمجرد أنهم خارج السلطة ويسعون إليها؟ اللعبة فاشلة لأنها غير قادرة على إزاحة الأحزاب الطائفية في الانتخابات المقبلة، وأصحاب المشروع المدني للإصلاح يتحاشون مواجهة قيادة العملية السياسية بخطاياها، وهم يسعون للمشاركة في العملية السياسية وفق برنامج متواضع ابتعد عن كشف جميع الانتهاكات وتعرية مسببيها الحقيقيين، كما أنهم يتجاهلون أن قادة الحشد الشعبي والميليشيات لن يُسلّموا اللعبة لدعاة “الاصلاح الوسطي” وهناك أسلحة جاهزة بأيديهم لإبعاد احتمالات الخطر في الانتخابات المقبلة.

الحل الصحيح أمام دعاة “الوسطية والاعتدال” هو في إعادة إنتاج المشروع الوطني العابر للطائفية بمعزل عن العملية السيـاسية القائمة، ووفق مستجدات الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، وما ستفرزه مرحلة ما بعد داعش، ولا بد من المشاركة مع قيادات المشروع الوطني التقليدية وعدم تجاوزها لأنها تمتلك إرثاً وطنيا منذ عام 2004 رغم الأخطاء التنظيمية التي ارتكبتها، إلى جانب الشخصيات الوطنية المستقلة التي ظلت “دشاديشها نظيفة”، وتجديد هذا المشروع بعقلية منفتحة، وأن تكـون قيادة هذا المشروع الرئيسية من السنة ومعها الشيعة الأحرار وكل الخيرين من أبناء العراق، وبناء كتلة سياسية واسعة تقوم على تعرية كاملة لتحالف إمبراطورية النهب والفسـاد والطـائفية، وتقديم البدائل الجديدة، والدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عراقي موسع داخل العراق أو خارجه بعيدا عن أي نفوذ خارجي، ليس شبيهاً بمؤتمر باريس الممول إقليمياً، ويسبق هذا المؤتمر تشكيل هيئة تحضيرية من بعض قيادات الأحزاب والكتل ذات المواقف العلنية الواضحة والمجربة بمواقفها ضد الفساد والطائفية، وكذلك الشخصيات الوطنية المعروفة بنظافة يدها من الإرهاب والفساد.

د. ماجد السامرائي

العرب اللندنية