التقارب الهش: هل تتوافق تركيا وإيران في الملف السوري؟

التقارب الهش: هل تتوافق تركيا وإيران في الملف السوري؟

021082016larg

ظهر البيان الذي أصدره الجيش السوري النظامي بُعيد الصدامات العسكرية التي جرت بينه وبين قوات حماية الشعب “الكُردية” قبل أيام في مدينة الحسكة أقصى شمال شرق سوريا، وكأنه رسالة مُباشرة إلى تركيا. فقد وصف المجموعة المُسلحة “الكُردية” بأنها الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني “الأسايش”، وحاول الإيحاء بالفصم بين هذا الطرف المُسلح وبين المواطنين الأكراد السوريين، مؤكداً: “لا علاقة لأي مكون سوري بالأسايش”.

حدث ذلك بعد ليلتين من قصف الطيران العسكري السوري مقرات هذه القوات الكُردية في مدينة الحسكة، بعد توافق عسكري وسياسي غير مُعلن بينهما لسنوات، الذي كان بدوره أهم أداة وورقة ضغط من قِبل النِظام السوري على تركيا، وبقيت أهم مُشَكِّل للمواقف والسلوكيات التركية تجاه المسألة السورية. كما جاءت هذه الاشتباكات بعد أسبوعٍ واحد من عودة التواصل والتنسيق السياسي بين القُطبين الإقليميين تركيا وإيران، بُعيد زيارة الرئيس التركي “التصالحية” الأخيرة لروسيا، التي تظهر وكأنها راعية لهذا الدفء السياسي بين أنقرة وطهران.

ملامح تقارب تركي – إيراني

زار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف العاصمة التركية، يوم 12 أغسطس الجاري، ثم بادله وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو بزيارة غير مُعلنة، بعد أقل من أسبوع، ليتوج ذلك التناغم بين الطرفين بتصريح استثنائي لرئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم ذكر فيه: “بينما يمكن أن يكون للرئيس السوري بشار الأسد دور في القيادة الانتقالية، فإنه ينبغي ألا يكون له أي دور في مستقبل البلاد”. وفي اليوم نفسه، أُعلن عن زيارة مُرتقبة للرئيس التركي إلى طهران خلال هذا الأسبوع، لمُتابعة المشاورات، وذكرت وكالة فارس الإيرانية للأنباء أن هذه الزيارة “ستصبح انطلاقاً رسمياً لعملية تشكيل تحالف إيراني- روسي- تركي بشأن سوريا”.

ويدور هذا التقارب التركي – الإيراني ضمن حدود الملفات الإقليمية، التي تمسُ كُل واحدة منها المصالح العميقة، وربما الأمن القومي، لكِلا البلدين. إذ كان سوء التواصل وتضارب المصالح بين أنقرة وطهران خلال الفترة الماضية، من أهم الأسباب وراء المزيد من التأزم في ملفات المنطقة العالقة.

الحسابات التركية في سوريا

يُدرك صانعو السياسة الخارجية التركية استحالة إقناع إيران بالتخلي عن أهم أدوات نفوذها في المنطقة، وهو النظام السوري. وبالتالي ثمة صعوبات لأية مساع تركية لإحداث اختراق في الرؤية الإيرانية المركزية حول المسألة السورية، المُتمثلة في بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في منصبه، ومن دون أي تحديد لسقف زمني لمُدة بقائه في ذلك المنصب، ومعه بقاء النِظام بشكل يؤمن فيه كامل شبكة العلاقات والمصالح الإيرانية.

ولا تستطيع السياسة الخارجية التركية أن تفعل ذلك لسببين، أولهما لشعورها العميق بأنها الأضعف، فهي لم تستطع أن تُحقق أياً من أهدافها في الملف السوري بشكل معقول، فحتى حُلفاء أنقرة المُفترضين في المجتمع الدولي، ظهروا كمُمانعين للمشاريع التركية. ومن ثم، فإن تركيا بهذا المعنى لا تملك أية أداة أُخرى لوقف “المشروع الكُردي” لو لم تتعاون مع إيران فيما هو مُمكن إنجازه.

السبب الآخر يعود إلى أن تركيا تُدرك أن ثمة تناقضاً بين المُطالبة بـ”إسقاط النِظام السوري” وبين المُطالبة بوقف “المشروع الكُردي”، لأنها تلقت إشارات واضحة من أكثر من اتجاه، وبالذات من روسيا وإيران، تُفيد بأن النِظام السوري وحده القادر على وقف التمدد الكُردي وتحجيمه.

وإذا كانت تركيا تعرض على روسيا وإيران تحجيم المشروع الكُردي في سوريا، مُقابل تخليها التام عن الاستقطاب السياسي الذي كانت تُشكله في مواجهة النِظام السوري، ومُمارسة أشكال من الضبط تجاه الجماعات المُسلحة التي تدعمها، فإنها مُقابل الحصول على ذلك، إنما تُعرض نفسها للتخلي، ولو بشكلٍ جزئي، عن ثلاثة تشكيلات من حلفائها الإقليميين، كالتالي:

1- ستكون دول الخليج العربية، وبالذات المملكة العربية السعودية، في مُقدمة الدول التي ستراجع طبيعة علاقتها التي توطدت مع تركيا في السنوات الأخيرة بسبب التوافق على الملف السوري. وستسعى أنقرة إلى خلق توازن وإرسال ضمانات لدول الخليج، والإيحاء بأن “انعطافاتها” الاستراتيجية لا تمس جوهر موقعها وعلاقتها الإقليمية، لكن أغلب الظن أنها سوف تفشل في ذلك، ببساطة لأنه بالضبط كما تعتبر تركيا الملف الكُردي يمُس أمنها القومي، فإن المملكة العربية السعودية تعتبر أن مُستقبل الصراع السوري، والشكل الذي سوف ترسو عليه “الدولة السورية” والنظام السياسي الذي سوف يحكمها، وموقعه في الترتيبات الإقليمية، إنما يمس الأمن القومي السعودي تماماً، وأن مُجرد الاسترخاء التركي في هذا الاتجاه إنما يُعتبر ضربة للعلاقة بينها وبين تركيا.

2- الطرف المُعرض بشكل أكبر لدفع أثمان هذه الانعطافة التركية هو قوى المعارضة السورية، وبالذات التيارات المُسلحة في الشمال السوري. فالقوى السياسية باتت أقرب للرعاية السعودية مُنذ تشكيل الهيئة العُليا للمفاوضات، لكن التيارات العسكرية مازالت تحت التغطية التُركية، بسبب طبيعة التجاور الجُغرافي مع كامل الشمال السوري. لكن هذا التحول التركي سيعني أن أنقرة ستخسر بالتقادم المزيد من أدواتها، خصوصاً فيما لو أثر هذا التغير على ديناميكية “حرب حلب”.

3- ستكون الدول الأوروبية، وبالذات فرنسا وبريطانيا، آخر الأطراف التي ستنفرط علاقتها وتفاهماتها مع تركيا في الاصطفافات الإقليمية. لأن أنقرة ستظهر وكأنها باتت أكثر تفاهماً مع روسيا في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، وأقل تعاوناً في ملفات مثل اللاجئين السوريين.

الموقف الإيراني

لا تستطيع إيران الدخول في عقد شراكة سياسية مع تركيا، من دون أن تُجري حِسابات بالغة الدقة. فالقوى والملفات التي تستطيع إيران أن تساوم عليها مع الطرف التركي، تملك طهران تأثيراً نسبياً عليها، وليست “قوى إيرانية” بأي شكل مُطلق. وبالتالي تخشى إيران أن يؤدي شعور هذه القوى بخطر التوافق مع تركيا، إلى أن تصبح مُهيأة تماماً لأن تنقلب على علاقاتها مع طهران، ولو بشكل نسبي ومؤقت.

مثلاً، لو افترضنا أن الجانب الإيراني وعد الأتراك بتفكيك الخطر الذي يُشكله المقاتلون الأكراد على أمنهم القومي، ففي هذه الحالة ستدخل إيران في حرب ضد هذه المجموعات الكُردية عبر حُلفائها السوريين؛ نظام الأسد وحزب الله وباقي التشكيلات الشيعية المُسلحة. وهذه الحرب غير مضمونة النتائج تماماً، لأن الأكراد بدورهم باتوا جزءاً من شبكة القوى المُشتركة عسكرياً في الملف السوري، وبالذات الولايات المُتحدة. ومن جانب آخر، فإن الساحة السورية بالنسبة للأكراد أصبحت قضية وجودية لكل خطابهم ومشروعهم السياسي.

ويتأتى الخطر الأكبر في هذه الشراكة الإيرانية مع تركيا من أمر آخر، فطهران لو فعلت ذلك، فإنها يجب أن تفصم وشائج علاقاتها مع أحزاب كردستان في كُل دول المنطقة، ومنها حزب العُمال الكُردستاني، والاتحاد الوطني الكُردستاني العراقي، ما سيؤثر بشدة على النفوذ الإيراني إقليمياً، وهو ما قد يخدم النفوذ التركي المُضاد، خصوصاً في الساحة الكُردية العراقية والسورية.

المستوى نفسه من الخطورة يتشكل فيما لو فرضت إيران على النظام السوري أية مطالب تركية بتغيرات قد تُهدد معهُ بُنية النظام الأمني/ العسكري، ولو بشكل نسبي. فالمهم للنظام السوري هو ألا يتغير شيء عما كان عليه النظام قبل بدء الثورة السورية، وألا يتعرض لأية محاولة أو تجربة قد تودي وتخترق سيطرته الكُلية على الحياة العامة في البلاد.

ختاماً، تبدو الولايات المُتحدة وروسيا مرتاحتين لهذا التقارب التركي – الإيراني في الملف السوري. فواشنطن ستتخلص من ضغوط المشاريع التركية التي تدفعها للمزيد من الانزلاق في البؤرة السورية، وهي ما لا تُريده راهناً بأي شكل. كما أنها تشعر بأن التقارب التركي مع إيران قد يزيد من فُرص مواجهة التيارات الراديكالية التي لا تتعاون أنقرة بشأنها بشكل واضح وكاف.

الروس أيضاً مُرتاحون تماماً، لأنهم يستشعرون “لحظة الضعف” التركية الراهنة، ويعتقدونها الأكثر مُناسبة لاقتلاع تنازلات حقيقية منهم.

رستم محمود

مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة