إيران و”الفدية”: الأمر لا يتعلق بالنقود

إيران و”الفدية”: الأمر لا يتعلق بالنقود

014704e4-f251-4f5a-b3da-ab522f580733

اعترفت إدارة أوباما الآن على مضض بما كان واضحاً منذ إطلاق سراح خمسة أميركيين في كانون الثاني (يناير)، والذين كانوا مسجونين ظلماً في إيران. وأقرت الإدارة بأن دفعة مالية قدرها 400 مليون دولار تم تسليمها لإيران بالتزامن لحل نزاع مالي قائم منذ عقود بين البلدين، قد استخدمت كوسيلة ضغط من أجل تأمين حرية الأميركيين.
وربما يشكل هذا الاعتراف مفاجأة، بما أن البيت الأبيض كان قد أنكر الصلة بين الأمرين بغضب بالغ، وفي رأيي -بسذاجة كبيرة- في الأسابيع الأخيرة، منذ أن ندد النقاد الجمهوريون بدبلوماسية الإدارة تجاه طهران وبالدفعة المالية التي اعتبروها فدية.
لكن هذا لا ينبغي أن يشكل مفاجأة، ولا ينبغي أن ينزع المصداقية عن نهج الإدارة تجاه إيران أيضاً، بما أن استخدام الضغط المالي لإقناع إيران بالحد من أكثر سياساتها خطراً شكل عنصراً جوهرياً من عناصر السياسة الأميركية تجاه طهران منذ ما يقرب من 40 عاماً. وقد التزم كل رئيس أميركي، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، بالصيغة التي تم تبنيها في الأيام التي تلت الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران في العام 1979: إبقاء الباب مفتوحاً أمام المفاوضات بينما تجري زيادة الكلف على طهران لقاء مخالفاتها.
والأهم من ذلك أنه بدلاً من مناقشة التكتيكات التي تشكل مكوناً مركزياً في ترسانة السياسة الأميركية للتعامل مع إيران منذ عقود، فإن كلا الطرفين ينبغي أن يكونا منشغلين في تأمل القضية الأعمق المتعلقة باستعداد واشنطن لاستخدام النقود لتحفيز سلوك إيراني أكثر إيجابية: وهي سياسة لا تعمل الآن جيداً إلى ذلك الحد.
الفضيحة التي ليست فضيحة
يعرض الجدل الدائر حول هذه الحادثة الأخيرة مثالاً آخر أيضاً على البيئة المستقطبة لسياسة طهران، والتي ظهرت منذ حدوث الاختراق الدبلوماسي في القضية النووية على مدى السنوات الثلاث الماضية. ويتحمل كلا طرفي القسمة الحزبية المسؤولية عن ذلك. ولكن، ما كان الكثير من الصخب ليثور حول الـ400 مليون دولار لو أن إدارة أوباما لم تصبح عالقة في آلة تدويرها الهائلة الخاصة مع إيران. ويبدو أن الاندفاع إلى دحض انتقاد الجمهوريين للصفقة النووية والانخراط الدبلوماسي مع إيران قد أنتج رد فعل عكسياً واستجابة غير قابلة للتصديق من البيت الأبيض على صيحات الغضب التي نجمت عن دفعة الـ400 مليون دولار.
أول الأمر، ظهرت الأخبار عن الدفعة -وهي الأولى من تسوية لمبلغ 1.7 مليار دولار من الدفعات الإيرانية من فترة ما قبل الثورة الإيرانية لشراء معدات عسكرية أميركية لم يتم تسليمها أبداً إلى طهران- عندما تم إطلاق سراح الأميركيين في كانون الثاني (يناير). ومع ذلك، واصلت المعلومات التي ظهرت عن تفاصيل التبادل في إثارة الجدل، وعبرت شخصيات جمهورية بارزة، بمن فيها المرشح الجمهوري دونالد ترامب، عن الغضب من الكشف في وقت سابق من هذا الشهر عن تسليم الدفعة نقداً، بواسطة شحنة جوية من حزم أوراق النقد الأجنبية، والتي وصلت طهران في نفس يوم إطلاق سراح السجناء.
أصرت الإدارة في البداية على أن ترتيبات الإفراج عن الشحنات وترتيبات صرف مبلغ الـ400 مليون دولار قد أجريت من خلال قنوات دبلوماسية منفصلة تماماً وأنه ليس بينهما أي صلة. وقد سخر أوباما نفسه من فكرة دفع واشنطن مكافأة لقاء الإفراج عن مواطنين مزدوجي الجنسية، وقال إن هذا الزعم “يجافي المنطق”، ورفض المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش إرنست، هذه المزاعم عن الفدية ووصفها بأنها “ادعاء كاذب”.
لكن تكشُّف المعلومات لاحقاً، بما في ذلك تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، والذي ذكر أنه تم تأخير مغادرة الأميركيين من طهران حتى هبوط الرحلة الجوية التي تنقل النقود فعلياً في إيران، دفع الإدارة إلى مراجعة ردها. واعترف جون كيربي، المتحدث باسم وزارة الخارجية، بأن الدفعة وإطلاق سراح السجناء كانا مرتبطين مباشرة. وفي محاولة لإضفاء عنصر إيجابي على تراجع الإدارة، قال كيربي “لقد قمنا باستغلال نفوذنا ووسائل الضغط التي لدينا والتي شعرنا أنها يمكن أن تضمن خروج (السجناء الأميركيون) بأمان وفعالية”.
هل يشكل هذا فدية؟ يستطيع اللغويون مناقشة الفروق الدقيقة في الخطاب المفضل لدى كل جانب. وأستطيع أن أفهم السبب في إحجام إدارة أوباما عن استخدام هذا الوصف؛ إن الفدية كلمة قبيحة وخطيرة في الدبلوماسية، وهو السبب في أن هذا البيت الأبيض وما سبقه قد أصروا على أن واشنطن لن تدفع مبالغ مالية أو أي تنازلات أخرى للإرهابيين الذين يختطفون مواطنين أميركيين ويحتفظون بهم كرهائن.
مع ذلك، من الواضح -كما كان الحال وراء في كانون الثاني (يناير)- أن دفعة الـ400 مليون دولار قد استخدمت من أجل تزييت عجلات النظام الثوري الإيراني لتحرير أربعة أميركيين من أصل إيراني، والذين كانت طهران قد اعتقلتهم على أساس تهم ملفقة لأشهر عدة، ولسنوات في بعض الحالات. (تم إطلاق سراح سجين أميركي خامس في الوقت نفسه، ولو أنه قيل إن قضيته منفصلة).
هذه ليست فضيحة
وليست هذه فضيحة. فقد اعتمدت واشنطن دائماً وبكثافة على وسائل الضغط المالي -سواء في شكل العقوبات أو الحوافز- في التعامل مع التحديات التي تشكلها إيران الثورية. وهذه هي الفكرة من العقوبات بعد كل شيء، والتي استخدمتها واشنطن بتكرار وكثافة متزايدين ضد إيران على مدار السنوات السبع والثلاثين الماضية. وكانت هذه السياسة هي السبب وراء فوضى إيران-كونترا، عندما سعت إدارة ريغان إلى استخدام مبيعات الأسلحة لطهران لتسهيل إطلاق سراح الرهائن في لبنان ولتقوية المعتدلين المزعومين في إيران.
انتهت لعبة شد الحبل الحربية الأصلية بين واشنطن وجمهورية إيران الإسلامية -عندما استولى الطلبة الإيرانيون على السفارة الأميركية في طهران واحتجزوا موظفيها كرهائن لأكثر من 15 شهراً- انتهت فقط كجزء من مجموعة من الترتيبات الدبلوماسية والمالية المعدة بعناية، والتي تضمنت الإفراج المنسق عن الرهائن بالتزامن مع تحويل مبلغ 7.956 مليار دولار من أصول إيرانية كانت مجمدة سابقاً في الخارج إلى حساب ضمان.
لطالما طرحت المطالبات المالية المتصلة بمعاملات تخص فترة ما قبل الثورة بين حكومة الشاه وواشنطن -مثل تلك التي يفترض أن تحلها الدفعات من نوع دفعة الـ400 مليون دولار الأخيرة- لطالما طرحت ليُنظر إليها كدليل و/أو حافز للتليين السياسي. ففي العام 1984، هلل المسؤولون الأميركيون للأخبار التي قالت إن طهران وافقت على دفع مبلغ 419 مليون دولار كتسوية لبنك الصادرات والواردات الأميركي عن ائتمانات قدمت في فترة ما قبل الثورة لشراء سلع أميركية، كإشارة على أن طهران تصبح أكثر اعتدالاً. وفي العام 1991، اتفقت واشنطن وطهران على تسليم إيران دفعة بمبلغ 278 مليون دولار كتعويض عن معدات عسكرية كان الشاه قد دفع ثمنها، لكنه لم يتم تسليمها في زمن الثورة -وهي مكافأة جاءت في أعقاب إطلاق سراح رهينتين غربيين رفيعي المستوى في لبنان. بهذا المنطق، يكون قرار إدارة أوباما تنسيق حلِّ مشكلة مطالبة عالقة مع الإفراج عن الأميركيين في كانون الثاني (يناير) متساوقاً تماماً مع النهج الذي اتبعته كل من الإدارات الأميركية السابقة.
عثرات في العلاقات العامة
المؤسف هو أن إدارة أوباما لم تستطع الاعتراف بهذا الواقع ببساطة، وسعت بدلاً من ذلك إلى استخدام تسوية الـ400 مليون دولار على أنها شهادة على نجاح الاتفاق النووي. وكان تأكيد أوباما أن “هذه القضية لا تتعلق كثيراً بأنها كانت مصادفة، فكما حدثت، كانت هناك آلية لخوض “نقاش مباشر” تأكيداً مخادعاً، والذي فشل في الاعتراف بوجود آليات للحديث المباشر بين واشنطن وطهران حول المطالبات الثورية المتبقية منذ كانون الثاني (يناير) من العام 1981، عندما وقع الطرفان اتفاق الجزائر -الاتفاق الذي حرر الرهائن وأسس محكمة المطالبات الأميركية-الإيرانية.
وكان الأسوأ من ذلك هو تشبيه المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش إيرنست، أي انتقاد للدفعة المالية بنوع الخطاب الذي يستخدمه “المتشددون في إيران في محاولة لتقويض الاتفاق النووي” -وهو تشويه غير منصف والذي أثبت البيت الأبيض حرصه على استخدامه طوال فترة الدبلوماسية الصعبة مع طهران.
وأخيراً، ليس من الواضح لدي ما إذا كانت التسوية الأخيرة صفقة جيدة حقاً. وقد أكد كيري أن تسوية موضوع مبلغ 1.7 مليار دولار مع طهران “وفرت على دافع الضرائب الأميركي مليارات الدولارات فعلياً”. وما يزال من الصعب تقدير المقدار الصحيح للمطالب الباقية، لكن من الجدير بالملاحظة أن إيران ذكرت دائماً قيماً أعلى بكثير للمطالبات المستحقة مما يعتبره معظم المسؤولين الأميركيين حقيقياً. وقبل ستة عشر عاماً، عند آخر مرة خففت فيها الولايات المتحدة العقوبات في مبادرة حسن نية تجاه طهران، سخر المسؤولون الأميركيون علناً من التقديرات الإيرانية التي تحدثت عن 10 مليارات دولار أميركي من المطالبات المتبقية، واقترحوا أن الرقم الحقيقي كان بحدود مئات الملايين فقط.
إنك لا تستطيع شراء الحب
في نهاية المطاف، فإن ما يهم هنا ليس الشراكة الحزبية الصارمة بين البيت الأبيض وخصومه السياسيين المحليين حول السياسة الإيرانية، وإنما هو منسوب فعالية هذه السياسة في حد ذاتها. هل ساعد حل المطالبات المالية المستحقة على واشنطن حقاً في إقناع طهران بإطلاق سراح الأميركيين المسجونين أو -الأكثر أهمية- إنهاء استخدامها وسيلة أخذ الرهائن كسلاح دولة؟ في هذه النقطة، لدي الكثير من الشكوك. كما كنتُ قد ناقشت بقدر أكبر بكثير من التفصيل في كتاب حديث، فقد كان لاستخدام الحوافز الاقتصادية الاقتصادية كورقة مساومة للحصول على تنازلات من إيران، وكذلك غيرها من الدول، منطوياً دائماً على سجل إشكالي. وهناك ميل إلى وجود اختلافات كبيرة في تقييم الحوافز المحتملة. وسواء كان ذلك للأفضل أو للأسوأ، لم ترق مسألة المال أبداً لتكون على رأس قائمة أولويات السياسة الخارجية الإيرانية. ويصح هذا بلا شك على المواطنين الأميركيين ومزدوجي الجنسية الآخرين في إيران. وكما كتبتُ في كانون الثاني (يناير) الماضي، فإنه “بالنسبة لطهران، لم يكن سجن الأميركيين مدفوعاً أبداً باحتمال الحصول على مكافأة مالية. بدلاً من ذلك، يحتفظ مركز الثقل في داخل النخبة الحاكمة الإيرانية بقناعة راسخة بوجود مؤامرة تقودها الولايات المتحدة لتغيير النظام، بمساعدة وتسهيل من مزدوجي الجنسية مثل أولئك الذين ألقي القبض عليهم”.
وما يزال هذا هو واقع الحال اليوم، عندما يكون هناك على الأقل ستة من مزدوجي الجنسية -بمن فيهم مواطنان أميركيان ومقيم دائم في الولايات المتحدة- قابعين في السجون الإيرانية على أسس زائفة تماماً. لقد جاءت هذا الإجراءات بدفع من عقلية مؤامرة عميقة، والتي تشكل جزءاً لا يتجزأ من ثقافة إيران الحديثة. وبذلك، لا يتعلق الأمر أساساً بالمال، ولن يتم تخفيف سياسات إيران الأكثر سوءاً بأي مردود مالي من أي مبلغ كان.

سوزان مانولي

صحيفة الغد