لجام الحشد الشعبي ينفلت من أيدي واشنطن

لجام الحشد الشعبي ينفلت من أيدي واشنطن

_88325_i3

لم يخف مسؤولون أميركيون، عند انطلاق الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، مخاوفهم من إشراك فصائل شيعية في محاولة استعادة المدن العراقية من التنظيم المتشدّد. وتوقّعوا أن تكون نتيجة ذلك سيلا جديدا من الدماء سيرفع من منسوب الصراع الطائفي. لكنهم قالوا في نفس الوقت “لا توجد خيارات أخرى”.

وبالفعل، حصل ما هو متوقع، فعندما سيطرت قوات الحشد الشعبي الشيعية على مدينة الفلوجة بدعم أميركي في يونيو احتجزت وعذبت وانتهكت حقوق عدد من المدنيين السنّة يفوق بكثير ما أعلنه المسؤولون الأميركيون، ولا يزال أكثر من 700 سني، من البالغين والقصر، مفقودين.

وبعد ما يزيد على شهرين من سقوط المدينة التي كانت معقل تنظيم الدولة الإسلامية، يتبيّن أن الجهود الأميركية لتحجيم دور الحشد الشعبي في العملية -بما في ذلك التهديد بسحب الدعم الجوي الأميركي حسب روايات مسؤولين أميركيين وعراقيين- لم تحدث تأثيرا يذكر؛ فالانتهاكات متواصلة، وعناصر الحشد الشعبي لم تنسحب من الفلوجة، وقد شاركت في جرائم سلب ونهب هناك وهي الآن تتوعد بتحدي أي جهد أميركي للحد من دور واشنطن في عمليات قادمة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

وكان هناك إجماع على أن الميليشيات قتلت 66 سنيا على الأقل وانتهكت حقوق ما لا يقل عن 1500 آخرين أثناء فرارهم من منطقة الفلوجة حسب ما ورد في لقاءات مع أكثر من 20 شخصا ما بين ناجين وشيوخ عشائر وساسة عراقيين ودبلوماسيين غربيين.

وقال شهود عيان إن مقاتلين من الحشد أطلقوا النار على رجال وصبية وضربوا آخرين بل وذبحوا البعض. واتفقت هذه الروايات مع نتائج تحقيق أجرته السلطات العراقية وشهادات مسجلة بالفيديو وصور التقطت لناجين فور خلاصهم، واطلعت عليها رويترز.

ويثير عجز واشنطن عن السيطرة على العنف الطائفي قلقا كبيرا الآن لدى مسؤولي الإدارة الأميركية في وقت يمضون فيه قدما في خطط مساعدة القوات العراقية على استعادة مدينة الموصل، ثاني كبرى مدن العراق، والمعقل الرئيسي للدولة الإسلامية بالعراق.

وتستمر منذ أشهر العمليات التمهيدية لتطهير المناطق الواقعة خارج المدينة الاستراتيجية، فيما يخشى زعماء سنة بالعراق ودبلوماسيون غربيون أن ترتكب عناصر الحشد الشعبي الشيعية تجاوزات أسوأ في الموصل.

الحشد الشعبي يصر على المشاركة في معركة الموصل رغبة في الانتقام والأمل في تحسين وضعه السياسي بين الطائفة الشيعية، وأيضا بالرغبة في الفوز بـ”ثمرة من ثمار المعركة الكبرى”

يخشى مسؤولون أميركيون أن تقضي انتهاكات الحشد الشعبي إن تكررت في الموصل على فرص المصالحة بين سنة العراق وشيعته. وصرح مسؤول بارز في إدارة باراك أوباما “في كل حديث دار بيننا في ما يتعلق بتخطيط الوضع في الموصل وفي كل حديث أجريناه مع العراقيين كان هذا فعليا موضوعا محوريا”.

في البداية، لم تكن مثل هذه المخاوف تخرج للعلن، بل عمل المسؤولون الأميركيون في واشنطن على التقليل من شأن المشكلة ولم يكشفوا عن فشل المساعي الأميركية لتحجيم تلك الفصائل، لكن مع توارد روايات الناجين والمسؤولين العراقيين وجماعات حقوق الإنسان عن انتهاكات الفلوجة، لم يعد ممكنا إخفاء أن الأمور ساءت أكثر وستزداد سوءا.

وفي إفادة صحافية بالبيت الأبيض في العاشر من يونيو أبدى بريت مكجيرك، المبعوث الأميركي الخاص للتحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، قلقه مما وصفه بأنه “تقارير عن أعمال وحشية منفردة” ضد السنّة الفارّين. واضطر مكجيرك إلى الإدلاء بهذا التصريح، بعد أن تزامن موعد الإفادة الصحافية مع أدلة جمعها مسؤولون عراقيون ومحققون معنيون بحقوق الإنسان والأمم المتحدة تؤكد إعدام العشرات وتعذيب المئات من البالغين والقصر واختفاء أكثر من 700 آخرين.

وفي التاسع من يونيو، أي قبل يوم واحد من الإفادة الصحافية التي قدمها مكجيرك بالبيت الأبيض، أصدرت هيومن رايتس ووتش تقريرا عن الأعمال الوحشية في سجار والصقلاوية.

وقبل الإفادة الصحافية بثلاثة أيام أبلغ صهيب الراوي، محافظ الأنبار، السفير الأميركي بأن هناك المئات من المفقودين حول الفلوجة بعد أن احتجزتهم فصائل شيعية، وذلك حسب ما صرح به الراوي لرويترز، فيما رفض مكجيرك طلب الوكالة إجراء لقاء معه.

وبعد حوالي ثلاثة أسابيع، وفي الثامن والعشرين من يونيو 2016، أدلى مكجيرك بشاهدته أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، والتي نطق خلالها بكلمات محسوبة، قال فيها إنه تم تلقي تقارير عن حدوث انتهاكات في الأيام الأولى من العملية “بعضها بدا جديرا بالتصديق”.

واختلف مسؤولو الحكومة العراقية مع التقارير التي تحدثت عن تعرض المدنيين للعنف على نطاق واسع.

وكانت الفصائل الشيعية المسلحة التي درّبتها طهران وسلحتها قد ظهرت خلال الاحتلال الأميركي من عام 2003 إلى عام 2011 وازدادت قوة ونفوذا. وبعد أن ساعدت الحكومة في الدفاع عن بغداد عندما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل عام 2014 أصبحت هذه الفصائل ذراع الحكومة العراقية. وهناك الآن أكثر من 30 جماعة شيعية يتلقى أعضاؤها رواتب من الحكومة. وتشغل الجماعات الرئيسية مناصب في الحكومة ومقاعد في البرلمان.

وازدادت هذه الجماعات قوة بحصولها على جزء من المعدات العسكرية التي باعتها الولايات المتحدة أو أعطتها للعراق منذ عام 2005 والتي تزيد قيمتها عن 20 مليار دولار. ويشير مسؤولون أميركيون وخبراء مستقلون وكذلك صور وتسجيلات فيديو نشرها أعضاء بالفصائل الشيعية على الإنترنت إلى أن هذه الأسلحة تشمل حاملات جند مدرعة وشاحنات وعربات همفي ومدفعية وحتى دبابات.

تحذيرات دون صدى

بدأت عملية الفلوجة في الثاني والعشرين من مايو. وعلى مدى أكثر من عام ظل المسؤولون الأميركيون يحذّرون مسؤولي العراق مرارا من أن الولايات المتحدة ستوقف دعمها الجوي في المناطق التي تعمل فيها الفصائل المسلحة خارج تسلسل القيادة الرسمي بالجيش العراقي.

لكن، خلال أول يومين من عملية الفلوجة تواترت أنباء عن قيام عناصر الحشد الشعبي بفصل الذكور عن بقية أفراد أسر الفارين. ومارس دبلوماسيون أميركيون وغربيون ومن الأمم المتحدة ضغوطا على العبادي وعلى غيره من كبار المسؤولين العراقيين وزعماء الحشد الشعبي لوقف الانتهاكات.

ولم يكن بيد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أي سلطة إلا الدعوة الشفاهية إلى حماية المدنيين. فمن الناحية الرسمية، يعتبر الحشد الشعبي مساءلا أمام العبادي، أما من الناحية الفعلية فإن فصائله الرئيسية لا تساءل إلا أمام نفسها وترفع أعلامها وشعاراتها وتتلقى النص من فيلق القدس، تلك القوة الإيرانية الخاصة المسؤولة عن العمليات خارج الحدود الإقليمية.

وفي السادس والعشرين من مايو ناشد المرجع الشيعي الأعلى بالعراق آية الله علي السيستاني المقاتلين حماية المدنيين. وقدّرت وكالات الإغاثة حينها عدد من بقوا بالفلوجة بما يصل إلى 100 ألف شخص.

وقال السيستاني مقتبسا حديثا نبويا “لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرا إلا أن تضطروا إليها”، لكن كلمات السيستاني وتهديدات واشنطن لم تجد آذانا صاغية.

وأرجع دبلوماسي غربي تتبع الحملة الأسباب التي قلّصت من تأثير الأميركيين إلى أنه لم تكن لهم قوات في الفلوجة ولم يتمكنوا من رصد انتهاكات معينة.

وتم تسجيل أول حالة انتهاكات منهجية قام بها من قبل الحشد الشعبي في الفلوجة في السابع والعشرين من مايو، وكان ذلك في الشمال الشرقي من المدينة في منطقة سجار الزراعية حين أوقفت عناصر القوات الشيعية وقوات الأمن مجموعة من السنّة الفارين وفصلت ما بين 73 و95 من الذكور الذين تبلغ أعمارهم 15 عاما فأكثر واقتادتهم بعيدا حسب ما ذكره الراوي، محافظ الأنبار والدبلوماسي الغربي الذي تابع العملية. وقال الدبلوماسي الغربي “مازلنا على اتصال بالنساء والأطفال الذين تم تسليمهم إلى ممثلي الحكومة… لا يزالون لا يعرفون مكان الذكور”.

وأضاف أنه في التاسع والعشرين من مايو، وفي الغرب من مناطق سجار الزراعية فصلت عناصر الحشد الشعبي 20 من ذكور مجموعة من السنة أثناء فرارها و”شرعت في قتلهم”، وتابع “وصلت الشرطة عندما لم يعد هناك سوى ثلاثة أحياء. أخذتهم الشرطة وألقتهم” في مخيم للنازحين شرقي الفلوجة.

وقال الدبلوماسي إن ثلاثتهم كانوا مرعوبين جراء خوفهم من أن تقتحم عناصر الحشد المخيم وتقتلهم، لذا رتبوا شكلا من أشكال الحماية لأنفسهم في بغداد. وأكد الراوي هذه الرواية.

وقال أكاديمي سني إنه تحدث إلى ثلاثة ممن نجوا من هذه الأحداث وإلى اثنين من أخوتهم وقريب آخر. ونسب إليهم قولهم إن القتل حدث خلال قتال بين قوات الشرطة العراقية ومقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية. وأبلغ الناجون الثلاثة الأكاديمي بأنهم كانوا ضمن حوالي 50 شخصا اختبأوا داخل أحد المنازل حين رأوا الشرطة العراقية ترفع علم العراق على مدرسة قريبة. ولوحت المجموعة بقطع من القماش الأبيض وطلبت منها الشرطة ترك المنزل. وقال الناجون الثلاثة إنه حين خرجت المجموعة فصلت الشرطة الذكور عن بقية أفراد أسرهم.

ونقل الأكاديمي عن الناجين قولهم إن ضابطا أطلق النار وقتل 17 من الذكور ونجا ثلاثة أفراد حين تدخل ضابط آخر. وقال محافظ الأنبار إنه تم إلقاء القبض على الضابط الذي أطلق النار.

لم يكن هذا أسوأ ما في الموضوع، فالعناصر الشيعية التي كانت تتوق للانتقام من تنظيم الدولة الإسلامية جمعت في الثالث من يونيو السكان السنّة في بلدة الصقلاوية، ووفقا لرويات شهود التقت بهم رويترز ولعاملين بالأمم المتحدة ومسؤولين عراقيين، غادر الصقلاوية، وهي منطقة زراعية تقع على بعد خمسة أميال إلى الشمال الغربي من الفلوجة، أكثر من 5000 سنّي معظمهم من عشيرة المحامدة.

وتوجه السنّة صوب ما ظنوا أنه خطوط حكومية ترتفع بها الأعلام العراقية حيث يمكنهم أن يجدوا الأمن والأمان. ووصف رجل أشيب المشهد في تسجيل فيديو صوره مسؤولون محليون بعد الإفراج عنه وعن 604 رجال آخرين بعد ذلك بيومين. وقال الرجل إنه عندما وصلت المجموعة إلى هناك اكتشفت أن ما هذه إلا عناصر من الحشد الشعبي.

وقال الأمير زيد بن رعد الحسين، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان ومسؤولان عراقيان بارزان وناج عمره 69 عاما في أحاديث مع رويترز، إن تلك العناصر كانت من كتائب حزب الله وهي واحدة من أقوى الفصائل الشيعية المسلحة وترتبط ارتباطا وثيقا بفيلق القدس الإيراني. وتعتبر الولايات المتحدة الجماعتين من الجماعات الإرهابية.

بالأيدي والسكاكين والكابلات

أكّد ناجون ومحققون من الأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش أن عناصر الحشد الشعبي فصلت ما يقدر بنحو 1500 من الذكور الذين يبلغون من العمر 15 عاما فأكثر ونقلتهم في مجموعات إلى مواقع مختلفة منها مخازن ومنها قاعدة عراقية يطلق عليها “معسكر طارق”.

ووصف الناجون كيف تكدسوا في غرف صغيرة وقاعات ضيقة وحرموا من الطعام والشراب وكيف كابدوا لالتقاط الأنفاس في أجواء خانقة، وكيف انهالت عناصر الحشد بالضرب على المحتجزين بالعصي والقضبان والخراطيم وأعلنت أنها تثأر لمن قتلوا في مذبحة سبايكر التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية في يونيو 2014 حين قتل 1566 من طلاب القوة الجوية من الشيعة ومن غيرهم من طوائف غير سنيّة.

وقال رجل عمره 32 عاما، وهو واحد من ستة ناجين التقت بهم رويترز، حشر في غرفة داخلها العشرات من الأسرى الآخرين ويداه مقيدتان وراء ظهره “بدأوا يضربوننا بالأيدي والسكاكين والكابلات. وحين فقد أناس الوعي صرخنا فيهم: سيموتون. فقالوا: هذا ما نريده”. وأضاف أن الحراس قالوا للأسرى إنهم ينتقمون لمقتل المئات من الجنود العراقيين في القتال حول الفلوجة منذ 2014.

وفي تسجيل فيديو صوره مسؤولون محليون قصّ ناج آخر كيف أعطت العناصر المسلحة الأسرى العطشى الذين كانوا يتوقون لقطرة مياه زجاجات كي يتبولوا فيها ثم أمروهم بأن يشربوا منها. ووصف رجل عمره 47 عاما كيف أنه شاهد مقاتلين يضربون ابنه البالغ من العمر 17 عاما ويحملون جثث 15 شخصا أوسعوهم ضربا حتى لفظوا أنفاسهم.

وكان الرجل واحدا من ست مئة وخمسة ناجين أفرج عنهم في الخامس من يونيو. وقال إن ابنه لم يكن ضمن المفرج عنهم وإن أحدا لم يشاهده منذ ذلك الحين. وأضاف لرويترز “نريد أن نعرف مصير أبنائنا… نعتبر الأميركيين مسؤولين عن كل ما حدث”. ولا يزال مصير 643 من أسرى الصقلاوية مجهولا.

وأصدر الأمير زيد بيانا يستشهد فيه “بتقارير مفجعة للغاية وجديرة بالثقة” عن حدوث انتهاكات تضمنت إعدام رجال وصبية. وقال الأمير زيد إن العناصر الشيعية قتلت ما لا يقل عن 49 أسيرا ممن احتجزوهم في الصقلاوية، أربعة منهم قتلوا ذبحا.

يعلو اليوم صوت الحشد الشعبي مطالبا بالمشاركة في حملة الموصل مدفوعا بالحماسة والرغبة في الانتقام والأمل في تحسين وضعه السياسي بين الطائفة الشيعية، وأيضا بالرغبة في الفوز بـ”ثمرة من ثمار المعركة الكبرى”، على حد تعبير كينيث بولوك، المحلل السابق بوكالة المخابرات المركزية الأميركية.

لذلك، لا يتوقع أن يكون للجنة التحقيق في مزاعم انتهاكات الفلوجة، التي أعلن عنها مكتب العبادي، أي دور يذكر، ومن غير المؤكد ما إن كان التحقيق سيحمل أحدا المسؤولية باستثناء حفنة قليلة من المشتبه بهم الذين أعلن العبادي عن القبض عليهم في 13 يونيو وهم من الفئات الدنيا في الحشد الشعبي.

وقال رايان كروكر، الدبلوماسي الذي عمل سفيرا للولايات المتحدة في العراق خلال الفترة من 2007 إلى 2009، إن إدارة أوباما قللت من شأن الانتهاكات التي ارتكبها الحشد الشعبي والقوات العراقية. وأضاف “هذه الإدارة تتوق لإعلان الانتصار على داعش على نحو يصرفها عن أي شيء آخر”.

وسيستمر فشل واشنطن في العراق ، مادامت الإدارات الأميركية، كما يقول بيتر فان بورين، الدبلوماسي الأميركي السابق الذي عمل عضوا في الفريق المكلف بإنفاق الأموال الأميركية لبناء العراق، تضع يدها في يد إيران رغم سطوة ميليشياتها وأذرعها في البلاد.

نيد باركر وجوناثان لانداي

صحيفة العرب اللندنية