دولة كردستان بين بغداد وأنقرة وطهران

دولة كردستان بين بغداد وأنقرة وطهران

image_79425_ar

لا يعترض على حلم الشعب الكردي بإقامة دولته المستقلة إلا متحامل جاهل، أو طائفي حاقد، أو عنصري متخلف. فمن أبسط مبادئ حقوق الإنسان أن يملك حق تقرير مصيره بحرية وكرامة وسلام.

ولأن الخلاف لم يكن على المبدأ ولا على الحلم، بل على التوقيت والطريقة والنتيجة، فإن المئات من الكتاب والمحللين المحبين للشعب الكردي قالوا إن التهديد بالانفصال وبإقامة الدولة المستقلة في كردستان العراق، في هذا الظرف العراقي والإقليمي والدولي المأزوم سلاح ضار لا ينبغي التلويح به، على الأقل في المدى المنظور. لأن الجري وراء عصفور تائه بين طيات السحاب وقتل عصفور ذهبي في اليد، حماقة لا تُغتفر.

ورغم أن الحزبين الكرديين الرئيسْين المختلفين المختصمين دائما كانا يجهدان لإخفاء الخلاف والتستر عليه والتظاهر بالانسجام، فإنه سرعان ما كسر قشر البيضة وخرج إلى العلن وافتض ووقع المحذور.

وقد يكون الخلاف بين حزبين شريكين في غنيمة واحدة أمرا عاديا وغير مثير للغرابة، ولكن أن يلجأ الإخوة الأعداء إلى المَيَلان، هذا إلى الشرق، وذاك إلى الشمال، ليقاتل شقيقه الآخر بعصا هذه الجارة أو تلك، فهذا هو الخطيئة بعينها، وهو الخيانة العظمى بحذافيرها. لأن النتيجة لم تصب بعارها الحزبين وحدهما، بل تعدت نتائجها المدمرة إلى الشعب البريء.

فقد تتسامح إيران، وقد تتساهل تركيا، مع تمرد القيادات السياسية الكردية على مركز الدولة العراقية الممزقة، وقد تغمضان عيونهما عن الانفصال عن الوطن الأم، وقد تشجعانها عليه، لغايات ظاهرة ومستترة، قريبة وبعيدة، ولكنهما لن تقبلا، بأي شكل من الأشكال، بأن تقوم دولة كردية حقيقية، ويعترف العالم باستقلالها، حتى لو كان نصفها، عمليا وواقعيا، في قبضة الولي الفقيه، ونصفها الآخر بين أصابع السلطان أردوغان.

وما التفاهم الإيراني التركي على كسر أكراد سوريا وإعادتهم إلى بيت الطاعة، إلا دليل على ذلك الواقع المرير الذي ينبغي أن يفهمه الأكراد العراقيون قبل فوات الأوان.

وحتى العاصمة بغداد، برغم ضياع بوصلتها وتخبط حكامها وإفلاس خزينتها، تتحول يوما بعد يوم إلى منصة لإطلاق السهام المسمومة على الإقليم، تديرها الميليشيات، ويفرض سطوتهم عليها مسلحون متعصبون تحركهم الأيدي الخفية وأحلام العظمة وحب السطوة والجبروت.

ولا بد أن السياسيين الأكراد العراقيين لمسوا، قبل غيرهم، وأكثر من غيرهم، أن الفريق العراقي الإيراني بدأ يجاهر بعدائه لكردستان، ويرى في البيشمركة كيانا أخطر عليه من داعش. وبالتالي فإن تحرير الموصل، سواء بمشاركة البيشمركة أو عدمها، لا بد أن يعقبه صراع آخر من نوع مبتكر، قد يكون أكثر وجعا على الشعب الكردي من الدواعش.

وهذا يعني أن القائد الكردي الذي يأتمن إيران على أمن شعبه ودماء شبابه واقتصاده، وحتى على ثقافته، إنما يقامر بمصير أهله، ويقودهم إلى مجهول.

ولا نريد أن نُقلب المواجع ونستذكر الأوراق القديمة، ونُعدد الأخطاء التي ارتكبها السياسيون الأكراد، من أيام المعارضة العراقية السابقة، ومن قبل الغزو الأميركي. فقد اختاروا أن يقتسموا الفريسة مع الفريق الإيراني، معتقدين بأن ترك الوطن العراقي يحترق، ويصبح ملك سُراقه ومفسديه، سوف يُبعد شرورهم عن إقطاعياتهم الأسرية والعشائرية في كردستان. وظنوا أن خراب النصف العربي من الوطن أنفع لدولتهم القادمة ويُعجل خلاصها.

وهذه هي أكبر خطاياهم التي جاءت بجميع الخطايا اللاحقة، على جميع العراقيين، وعلى شعوب المنطقة كافة. فأي نوع من القادة ذلك الذي لا يفهم أن عراقا موحدا وقويا وعزيزا ومزدهرا أضمن لأمنه، وأنفع لكرسيّه المذهب، وأفضل لكرامة شعبه من رهن إرادته وكرامة أهله لهذه الجارة أو تلك، ولهذه الدولة الأجنبية وتلك؟

لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال. كيف كان سيكون حال إقليمهم وحال الوطن، اليوم، لو كانوا رفضوا خدعة المحاصصة، وعارضوا حل الجيش الذي لم يكن جيش البعث، ولا جيش صدام، ولو اكتفوا بإحالة كبار ضباطه البعثيين فقط على التقاعد، مع ضمان كراماتهم وحقوقهم وأرزاق أسرهم، وأوكلوا إليه حفظ الأمن والثروة والحدود؟

وماذا كان سيكون لو عارضوا ذلك السلاح الخبيث المسمّى باجتثاث البعث الذي يعلمون بأن الطائفيين المتعصبين الحاقدين الجهلة لن يستخدموه، قط، بعدل وحق وشرف ونزاهة، وبأنه لن يفتح على الوطن وأهله غير أبواب الجحيم. وماذا كان سيكون العراق اليوم، لو رفضوا الديمقراطية المغشوشة، وأصروا على صياغة قانون انتخاب شريف ونزيه، وتمسكوا بضرورة فصل الدين عن الدولة، ورفضوا تدخل السيستاني وغيره من رجال الدين ورؤساء العوائل والقبائل في السياسة وشؤون الحكم وكتابة الدستور؟

وماذا كان سيكون لو تحالفوا مع القوى العراقية الديمقراطية العلمانية واليسارية، فقويت بهم وازدادوا بها قوة، وأصروا على إقامة دولة القانون والأمن والمساواة والعدل؟

أما كان العراق اليوم دنمارك جديدة وسويسرا ثانية؟ أما كان اليوم في مأمن من نار المفخخات والميليشيات وعصابات الخطف والسرقة والاختلاس؟ أما كان هذا الوطن البريء قد حقن دماء عشرات الآلاف من أبنائه، عربا وأكرادا، شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين؟ أما كان لم يرَ يعش ليشهد اليومَ الأغبر الذي يقوده فيه جهلة وحمقى وفاسدون وانتهازيون كنوري المالكي وعمار الحكيم ومقتدى الصدر وهادي العامري وإبراهيم الجعفري والشهرستاني والأخوين نجيفي وصالح المطلق والإخوة كربولي وسليم ومشعان الجبوري؟

ولكنهم أثبتوا من أول ركوبهم على ظهر شعبهم الكردي، وإلى اليوم، أنهم لم يكونوا يريدون ديمقراطية، ولا عدالة ولا هم يحزنون. والدليل أنهم لم يقيموا في “كردستانهم” دولة العدل والمساواة وسلطة القانون، بل تقاسموها على طريقة: هذه “الصرة لي، وتلك الصُرة لك”، ثم راح كل فريق منهم يطلق أولاده وأبناء أعمامه وأخواله، وأفراد قبيلته ومحازبيه، ليتسلطوا على البشر والحجر، ويصادروا الماء والهواء والدواء، حتى أوصلوا شعبهم إلى ما هو عليه اليوم، بلا سيادة ولا أمن ولا مال ولا غدٍ معلوم.

مناسبة هذا الكلام الذي يَغمُ ويسد النفس هو التصريح العجيب الغريب الذي صدحت به عضو التحالف الكردستاني عن كتلة التغيير النائب شيرين رضا، مؤخرا، والذي أعلنت فيه “أن الاتحاد الوطني والتغيير (كوران) قد اتفقا على أن مشروع الاستفتاء أو الانفصال لا يمكن التفكير به في الوقت الحاضر، وذلك لأسباب واقعية وموضوعية”.

وأضافت تقول “إننا لا نملك حاليا مقومات إعلان الدولة، بسبب انهيار الوضع الاقتصادي. كما أن الوضع الأمني غير مشجع في الوقت الحاضر، بسبب تهديدات داعش، والخلافات الداخلية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، فضلا عن الخلافات بين حكومة بغداد والإقليم، وغيرها”. وأكدت أن “كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت من تحالفنا الجديد يميل إلى عدم التفكير في الانفصال، إلا بعد الانتهاء من جميع المشاكل التي ذكرتها”.

إذن، فالدولة المستقلة سراب، والعودة إلى أحضان الوطن العراقي لم تعد متاحة، بعد أن صار خرابة تسرح فيها الديدان. وإذن، أيضا، سينتظر المواطن الكردي العراقي هزيمة داعش، وانتهاء الخلافات الداخلية، واستتباب الأمن الداخلي، ووقف انهيار الوضع الاقتصادي، وسماح الظرف الدولي، وسقوط سلطنة أردوغان، وانهيار إمبراطورية الولي الفقيه ليعلن دولته المنتظرة. وليس هذا ببعيد، ولا بكثير.

إبراهيم الزبيدي

العرب اللندنية