روبرت فيسك: السنة هم المتضرِّر الأول من عودة أحكام الإعدام في العراق

روبرت فيسك: السنة هم المتضرِّر الأول من عودة أحكام الإعدام في العراق

n-YY-large570

اعتبر الكاتب البريطاني الشهير روبرت فيسك، أن المسلمين السنة في العراق هم الطرف الأكثر تضرراً من حالة الانفلات الأمني التي تعيشها العراق منذ 2003.

فيسك أشار في مقال له بصحيفة “الإندبنيدنت” البريطانية إلى أن أحكام الإعدام التي تنفذ في العراق بشكل شبه يومي من الحكومة العراقية ذات الأغلبية الشيعية رغم انتخابها بشكل ديمقراطي بحسب تعبير الكاتب البريطاني تكون في حق العراقين السنة الذين يعدون ضحايا.

كما اعتبر فيسك أن السبب في ما وصلت إليه العراق الآن من حرب طائفية سببه الاحتلال الأميركي لها عام 2003، محذراً من دعم حكومة حيدر العبادي في الوقت الذي يطالب فيه الأوروبيون بإسقاط نظام بشار الأسد. ففي كل الحالات بحسب فيسك السنة هم المتضررون.

وإلى نص المقال

السنة هم غالبيّة الضحايا، في حين أنّ منفذي الأحكام من الشيعة، وهم يقومون بنتفيذ الأحكام التي تصدرها “الحكومة المنتخبة ديمقراطيّاً”

يجب أن نعترف بالنفوذ الذي يتمتع به منفذو أحكام الإعدام في العراق. فمنذ أن بدأوا بتنفيذ أحكام الإعدام شنقاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وكان عليهم انتزاع أقدام المحكومين طِوال القامة حتى يتم تنفيذ الأحكام، إلى أن تزايدت سطوتهم حتى كان بإمكانهم القيام بتنفيذ أحكام الإعدام في 36 محكومًا في أحد صباحات هذا الشهر. وقد كان هذا رقمًا قياسيًّا لهؤلاء المنفذين في سجن الناصرية، والذين يتنمون غالبًا إلى الطائفة الشيعيّة، حيث أعدموا عشرات المحكومين السنّة المتّهمين بتنفيذ مذبحة معسكر سبايكر عام 2014، في حين كان أقارب ضحايا المذبحة يصيحون خارج المعسكر في ابتهاج.

ليست هذه هي الصورة التي أراد الغزو الأميركي ترويجها حين أتى، وإن بصورة غير قانونية، إلى البلاد قبل حوالي 13 عامًا من أجل إحلال الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات، واستبدالها بالخوف وإرهاب الدولة الذي مارسه نظام صدّام. وبشكل حاسم، فقد قام الحاكم الأميركي بول بريمر بإلغاء عقوبة الإعدام، لأن نظام صدّام حسين كان يستخدمها “كوسيلة قمعيّة”. وقد كان هذا صحيحاً.

وقد كإن بإمكان أتباع صدّام القيام بتنفيذ الإعدام شنقًا بحق 2000 في يوم واحد في أبو غريب—سنتجنب الآن وبكل السبل الإشارةَ إلى تاريخ المنطقة اللاحق، لأسباب ليس هنا مجال شرحها—وهذه “مهنيّة” و”كفاءة” لم تصل إليها أبدًا الحكومة العراقية الموالية للسلطات الأميركية. فعندما قامت الحكومة العراقية بإعدام أخي صدّام، برزان حسين، في عام 2007، كان الحبل طويلاً لدرجة أن رقبته انكسرت، كما أفاد أحد شهود الواقعة. وفي حالة كان “الإرهابيّون” المدانون طِوال القامة بحيث يصعب تنفيذ أحكام الشنق بحقهم – كما يروي أحد المساعدين البريطانيين لدى الحكومة العراقية سابقًا – كان المنفذون يقوم في نهاية المطاف بسحب المحكوم إلى زاويةٍ من الغرفة وإطلاق الرصاص عليه.

ربما ليس من العدل أن نستدعي إلى الذاكرة كيف أدانت الدول الأوربية إعدامَ صدّام نفسه، ليس بسبب تهكّم وسخرية منفّذي الحكم منه وإنّما لأن الأوربيين كانوا ضد أحكام الإعدام بالأصل. لكن أحدًا من القادة الأوربيين – سواء تريزا ماي، فرانسوا هولاند أو أنغيلا ميركل – لم ينبس بكلمة هذا الشهر تعليقاً على هذه الأحكام في سجن الناصريّة. وكذلك لم يصدر عنهم أي تعليق سواء قبل أو بعد تنفيذ أحكام الإعدام بحق 100 من السجناء، وكان التنفيذ بحق 22 منهم في يوم واحد في شهر مايو/ أيار الماضي.

كانت المطالبات بإعادة عقوبة الإعدام بعد أسابيع قليلة من تعليق بول بريمر لها عام 2003. فمع تزايد القتل على أسس طائفية في بغداد ومدن أخرى، وتهديده للوعود الأميركية بالديموقراطية، تصاعدت دعوات مخيفة وإن اعتادها العراقيون لاحقًا وطالبوا هم أنفسهم بها: أنه إذا ما كان الخيار بين الحريات والأمن، فإن الأمن له الأولوية ويأتي أولاً. وبهذا عادت سجون صدّام إلى ممارسة مهامها الوحشيّة، وإن بشكل أبطأ. فقد جرى تنفيذ أحكام الإعدام بحق 3 مُدانين بالقتل في شهر سبتمبر/أيلول 2005، وكانت هذه الواقعة بداية تنفيذ الإعدام ضد “المتمردين”، وهي التسمية التي أُطلِقت على هؤلاء الذين قاوموا الاحتلال الأميركي أو الحكومات العراقية – “المؤقتة” ثم المنتخبة – الموالية للسلطات الأميركية. وفي العام التالي، نُفّذت أحكام الإعدام شنقًا بحق 26 رجلاً وامرأة لقيامهم “بجرائم عالية (هكذا) ضد المدنيّين”. وفي 2009 قامت الحكومة العراقية بإعدام 120 رجلاً، لكن هذه المرة بتهمة القيام بـ”اعتداءات إرهابية”. وفي هذا الوقت كانت منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش وغيرهما من المنظمات الحقوقية قد بدأت بتسجيل الكثير من حالات الإعدام التي لا يجري تسجيلها أو الإبلاغ عنها.

ولا تعتبر الرغبة في إعادة أحكام الإعدام بالأمر الغريب، فقد كان صعود داعش وتزايد أعمال القتل الجماعي عامل حفز أدى إلى استعداء عائلات وأهالي الضحايا. وقد صاح الأهالي بالتكبير حين فتحت أبواب سجن الناصريّة مؤخراً لتنفيذ أحكام الإعدام بحق مَن قاموا بمذبحة معسكر سبايكر، إذ كان هؤلاء أقارب نحو 1700 من طلاب المدرسة الجوية، وأغلبهم من الشيعة. وقد جرى تعذيب هؤلاء الطلاب ثم قتلهم في المعسكر القريب من مدينة تكريت بعد هروب قوات الجيش العراقي مع قدوم أول أفواج مقاتلي داعش المدجّجين بالسواد قبل حوالي عامَين.

ويعتبر العراقيّون السنّة أبرز ضحايا هذه الأحكام الصادرة عن الحكومة “المنتخبة”، والتي يقوم بنتفيذها رجال ينتمي معظمهم إلى الطائفة الشيعيّة. ذكرت أن الحكومة “منتخبة” بين علامتي اقتباس لأن السياسيّين الأوربيّين ما زالوا يمتدحون الحكومات غير التمثيلية والتي تقودها أغلبية شيعيّة، وهي الحكومات المسؤولة عن فرق الموت والقتل السريّ وحالات الاغتصاب في السجون. وفي بعض الحالات أتيحت للمتهمين فرصة المثول أمام محاكمات هزليّة، إلا أن منظمة العفو الدوليّة أدانت الاستخفاف الشديد بقيم العدالة وحياة الناس، وصدور أحكام مبنيّة بشكل أساسيّ على اعترافاتٍ منتزعة تحت التعذيب.

وتصل اليوم حالات الإعدام المؤكّدة – 92 في الأسابيع الستة الأولى من ٢٠١٦ – إلى نسبة تماثل تلك التي كانت على عهد صدّام. واليوم يجب أن نتساءل: متى قد تتبنّى الحكومة العراقية ممارسات نظام صدّام بـ”تطهير السجون” بانتظام – لتوفير أماكن لسجناء آخرين – عبر قيامها بإعدام البعض ممن لم يصدر بحقهم أحكامٌ بالإعدام؟

في الواقع، فإن “إعدام” داعش للشيعة والمسيحيّين و”المرتدين” يجري الآن، وإن بشكل تدريجي، مقارنته بإعدامات طائفيّة بحق العراقيين السنّة.

وبهذا أصبحت أحكام الإعدام وتنفيذها جزءاً من الحرب الطائفية في البلاد؛ مضافةً إلى أحداث أخرى، منها على سبيل المثال ذبح أكثر من 900 سجين سنيّ على يد إحدى الميليشيات الشيعيّة أثناء وبعد الاستيلاء على مدينة الفلّوجة وطرد عناصر داعش منها في يونيو/حزيران الماضي. وقد كانت هذه الميليشيات تقاتل إلى جانب الجيش العراقيّ، والمدعوم بغارات جوّية أميركية ضد مقاتلي داعش الذين كانوا بدورهم يقتلون مَن يحاول الفرار من المدينة. لذا ليس من الغريب أن تحاول واشنطن التلاعب في الإحصاءات بشأن أعداد الضحايا السنة الأبرياء الذين قُتلوا على أيدي المقاتلين الشيعة “الطيّبين/الأخيار” الذي كانوا إلى جوار الجيش في الفلوجة والرمادي.

لا يمكن اليوم لواشنطن أن تنكر دورها المخزي في الحرب الأهلية التي تدور رحاها في البلاد. والأمر نفسه ينطبق على قوات الناتو التي تقوم بأعمال القصف في سوريا. لا يمكن اليوم للدول الغربية إزالة وصمات العار عن نفسها بعد اندلاع هذه الحرب الأهلية، حتى وإن لم تقم تلك الدول بتنفيذ تلك الأعمال الوحشية بنفسها. وكذلك يسري نفس الأمر على المشاركة الروسية. إنّ أيّ طيار يقصف مواقع داعش، أو المدنيين الأبرياء، يقوم كذلك “بدفع عجلة الميليشيات” باتجاه قتل السجناء الذين يُلقى القبض عليهم في خضّم تلك الأحداث. وفي حال قامت قوات الجيش العراقي – مدعومةً بالميليشيات الشيعية والكردية والغطاء الجوي الأميركي المعتاد – بالاستيلاء على مدينة الموصل، فإننا سنشهد قصاصاً أكثر دموية من كل ما سبق.

هذا باختصار هو ما تورّطنا فيه اليوم. ففي حين نحاول (نظريّاً) إسقاط حكومة الأسد في دمشق، و(عمليّاً) دعم حكومة العبّادي في بغداد، فإننا فقط نقصف السنّةَ، أعداءَ الطرفين المدعومَين من قِبَل إيران (والتي بالمناسبة قامت، خلال النصف الأول من العام الماضي، بتنفيذ أحكام الإعدام بحق حوالي 700 ممن لا علاقة لهم بالسياسة). لذا فإننا حين نهاجم طرفًا في هذه الحرب إنّما نتورّط في الجرائم التي يرتكبها الطرف الآخر، سواء الاختفاء القسريّ، الإعدامات غير القانونية، التعذيب والمحاكمات الصورية. وهذا كله لا يصبّ إلا في صالح مجرمي داعش.

صحيفة The Independent البريطانية