العملية العسكرية التركية في سوريا: الخلفيات، والسياق، والتوقعات

العملية العسكرية التركية في سوريا: الخلفيات، والسياق، والتوقعات

b08cd2b4b39f49c7a085546fb33caf47_18

المقدمة

في 24 أغسطس/آب 1516، خاض الجيش العثماني، بقيادة السلطان سليم الأول، معركة مرج دابق في الشمال السوري، مُوقِعًا هزيمة بالغة بالجيش المملوكي، وفاتحًا الطريق لضم أغلب البلاد العربية في المشرق وشمال إفريقيا للحكم العثماني. في فجر 24 أغسطس/آب 2016، عبرت كتيبة مدرعة من الجيش التركي، بصحبة أعداد من القوات الخاصة، الحدود مع سوريا. ما أُعلن في أنقرة هو أن هدف العملية العسكرية توفير الدعم لقوات الجيش السوري الحر، المتحالف مع تركيا، من أجل تحرير مدينة جرابلس السورية الحدودية من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وحماية الأمن التركي من المخاطر التي يمثِّلها تنظيم الدولة والحزب الديمقراطي الكردستاني، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حربًا ضد الدولة التركية منذ منتصف الثمانينات.

ليس من الواضح ما إن كان توقيت العملية العسكرية التركية قُصد به الاستدعاء الرمزي للذكرى المئوية الخامسة لمعركة مرج دابق. لم يلتفت الإعلام التركي للمصادفة التاريخية إلا بعد أن تنبَّه لها مؤرِّخون ومراقبون غير أتراك، وليس ثمة من مؤشر على أن عملية جرابلس مقدمة لاجتياح تركي لسوريا، أو لمحاولة تركية لحل تعقيدات الأزمة السورية بقوة السلاح.

هذه، بالطبع، ليست المرة الأولى التي يقوم بها الجيش التركي بعملية عسكرية في الأرض السورية؛ ففي أواخر فبراير/ شباط 2015، تقدمت قوة مدرعة تركية، مدعومة بقوات من المشاة، عبر الحدود التركية-السورية، وقامت بنقل ضريح سليمان شاه، جد مؤسس السلطنة العثمانية، من موقعه في عمق الأراضي السورية إلى موقع أكثر أمنًا بالقرب من الحدود مع تركيا.

ولكن الواضح، على أية حال، أن العملية التركية في الشريط الحدودي مع سوريا خطوة بالغة الأهمية، وتختلف إلى حدٍّ كبير عن عملية ضريح سليمان شاه. في المرة الأولى، لم يكن للعملية العسكرية من علاقة بحسابات القوة في الساحة السورية، أما في عملية جرابلس، فقد حملت العملية أهدافًا ذات طابع استراتيجي، ويتوقع أن تترك أثرًا ملموسًا على خارطة القوى في شمال سوريا.

لماذا قررت أنقرة القيام بعملية جرابلس؟ وفي أي سياق سياسي وعسكري تجري العملية؟ وما هو الأثر الذي يمكن لهذه العملية أن تتركه على مجريات الأزمة السورية، والمخاطر التي تحف بها في الوقت نفسه؟

الطريق إلى جرابلس

طبقًا لصحيفة حريت التركية (26 أغسطس/آب)، يبدو أن عملية عسكرية في الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا خُطِّط لها منذ عامين، ولكنها تعطلت بفعل معارضة ضباط في الجيش التركي، ثبت فيما بعد أنهم كانوا من الضباط الانقلابيين. ولكن المؤكد، على أية حال، أن توافقًا تركيًّا-أميركيًّا حول تطهير الحدود التركية-السورية، على طول الشريط غرب الفرات، من مجموعات تنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديمقراطي، قد تم التوصل إليه في يونيو/حزيران 2015. وكانت تركيا لجأت إلى مثل هذا الخيار بعد أن استمر الرفض الأميركي لفكرة المنطقة الآمنة في الشمال السوري. بمعنى، أن المنطقة الخالية من تنظيم الدولة والاتحاد الديمقراطي أصبحت، من وجهة نظر أنقرة، البديل الوحيد الممكن للمنطقة الآمنة. بيد أن المشروع لم يُنفَّذ حينها، سواء بفعل تباطؤ الأتراك أو تردد الأميركيين.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أسقط سلاح الجو التركي الطائرة الروسية، وتوترت العلاقات التركية-الروسية إلى حدِّ القطيعة؛ ولم يعد ممكنًا لتركيا التوغل داخل الأراضي السورية، لا برًّا ولا جوًّا. في 18 مايو/أيار 2016، أجرى الرئيس الأميركي أوباما اتصالًا هاتفيًّا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، استمر لسبعين دقيقة. طلب أوباما من أردوغان دعم عملية تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكِّل وحدات الحزب الديمقراطي الكردستاني المسلحة ثقلها الرئيس، لتحرير مدينة منبج وقراها من سيطرة تنظيم الدولة. كانت الولايات المتحدة، ممثَّلة بالقيادة المركزية، (المسؤولة عن منطقة الشرق الأوسط)، قد أسست علاقة دعم وتحالف مع الديمقراطي الكردستاني، ضاربة عرض الحائط بالرفض التركي لمثل هذه العلاقة، بهدف استخدام القوات الكردية السورية في مواجهة تمدد تنظيم الدولة في سوريا.

خلال الاتصال الهاتفي، وافق أردوغان على عملية منبج، على أساس أن يغادر المسلحون الأكراد، مباشرة بعد تحرير المدينة، غرب الفرات كلية، ويعودوا إلى مواقعهم السابقة شرق الفرات. منذ بداية الأزمة السورية، وتحولها إلى نزاع مسلح، أعلنت أنقرة أن الفرات هو خط أحمر أمام المسلحين الأكراد، يجب عدم عبوره إلى الغرب؛ حيث لا وجود لأية كثافة بشرية كردية سورية إلا في جيب عفرين الصغير، شمالي غرب حلب. في 31 مايو/أيار 2016، بدأت قوات سوريا الديمقراطية عملية السيطرة على منبج، بدعم تسليحي وجوي من الأميركيين. ولكن العملية لم تَسِرْ بصورة حسنة، بفعل المقاومة الشرسة لقوات تنظيم الدولة المتواجدة في منبج ومحيطها.

في 8 يوليو/تموز، وعملية منبج لم تزل تحبو ببطء بالغ، أعلنت منظمة سوريَّة لم يُسمَع عنها من قبل عن اغتيال فهمان حسين قرب القامشلي. يُعتبر فهمان حسين أحد أبرز قادة حزب العمال الكردستاني، المتمركزين في جبال قنديل، على الحدود العراقية-التركية. وقد كشف وجوده في القامشلي عن حجم الدور الذي يلعبه قادة العمال الكردستاني في بناء وتنظيم جناح الديمقراطي الكردستاني المسلح. ألمحت تقارير في أنقرة إلى أن الاستخبارات التركية هي من قام باغتيال حسين، وأن المنظمة التي أعلنت مسؤوليتها عن العملية لا وجود فعليًّا لها. إن صحَّت هذه التقارير، فيبدو أن الأتراك أرادوا باغتيال حسين توجيه رسالة احتجاج وتصميم لواشنطن، التي أكدت دائمًا على أنها لا تعتبر الديمقراطي الكردستاني منظمة إرهابية، ولا ترى صلة وثيقة بينه وبين حزب العمال الكردستاني.

لم يتم طرد تنظيم الدولة بالفعل من منطقة منبج إلا في 12 أغسطس/آب، وبعد أن تسبَّبت العملية في مقتل مئات المدنيين وتدمير جزء كبير من أحياء المدينة وقراها. وبدا، وكأن القوة المهاجمة، المشكَّلة في أغلبها من مسلحي الديمقراطي الكردستاني، لم تقصد تحرير المدينة من تنظيم الدولة وحسب، بل وتنفيذ عملية تطهير عِرقي لسكانها من العرب والتركمان.

مهما كان الأمر، فما أن أُعلن عن طرد تنظيم الدولة من المدينة حتى أخذ المسؤولون الأتراك في تذكير نظرائهم الأميركيين بضرورة مغادرة المسلحين الأكراد غرب الفرات، وترك إدارة منبج لمجلسها المحلي. أظهر الأميركيون التزامًا بالاتفاق، الذي تمت على أساسه عملية منبج، ولكنَّ انسحابًا ملموسًا للمسلحين الأكراد لم يحدث. في العشرين من أغسطس/آب، أكدت مصادر الاستخبارات التركية أن المسلحين الأكراد لم يزالوا في مواقعهم غربي الفرات، وأن ثمة مؤشرات إلى أنهم يخطِّطون للتقدم نحو بلدتي الراعي وجرابلس الواقعتين تحت سيطرة تنظيم الدولة. ولم يتردد مسؤولون أكراد سوريون في التصريح بأنهم يستهدفون تحرير كل المنطقة غرب الفرات من تنظيم الدولة، وتأسيس منطقة سيطرة كردية متصلة من شمال شرقي سوريا إلى المتوسط.

من وجهة نظر جيوستراتيجية، تعني سيطرة الديمقراطي الكردستاني على كامل الشريط الشمالي السوري، شرقي الفرات وغربه، قطع صلة تركيا نهائيًّا بسوريا، وبروز كيان كردي معادٍ لتركيا في المنطقة الفاصلة بين البلدين. مثل هذا الوضع ما كان لأنقرة أن تقبله مهما كانت التكاليف. وهذا ما أدَّى إلى إطلاق عملية جرابلس، فجر الرابع والعشرين من أغسطس/آب، بعد اجتماع غير معلن لمجلس الأمن القومي التركي. بمعنى، أن العملية تجمع بين مخططها الأصلي، أي تطهير الشريط الحدودي غرب الفرات من سيطرة تنظيم الدولة، والواقع الجديد، الناجم عن وجود مسلحي الديمقراطي الكردستاني غرب الفرات، ورفضهم العودة إلى مناطق الأغلبية الكردية شرق النهر، التي انطلقوا منها بتفاهم ودعم من الأميركيين.

السياق الإقليمي والدولي

بدأت القوات التركية عمليتها في الجانب السوري من الشريط الحدودي، التي أطلقت عليها اسم “درع الفرات”، بعد شهر تقريبًا من المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا. وقد ساد البلاد منذ فشل المحاولة الانقلابية مناخ من التوافق الوطني، انعكس في قيام الحكومة التركية بإبلاغ حزبي المعارضة الرئيسيين، الشعب الجمهوري والحركة القومية، بالعملية وأهدافها، وفي الدعم العلني الذي قدمه الحزبان للعملية. ولكن ما جعل العملية ممكنة كان أكثر من ذلك، سواء إقليميًّا أو دوليًّا.

ففي 27 يونيو/حزيران، توصلت جهود وساطة سرية وطويلة، أخيرًا، إلى كسر الجمود في العلاقات بين أنقرة وموسكو، وكانت روسيا من أوائل الدول التي شجبت المحاولة الانقلابية، كما كان الرئيس بوتين الثاني، بعد أمير قطر، الذي اتصل بأردوغان لتهنئته بفشل الانقلاب والتوكيد على تأييد الحكومة الشرعية المنتخبة. دفع اتصال بوتين بدفء جديد إلى العلاقة بين روسيا وتركيا، وهو ما بدا ظاهرًا في لقاء الرئيسيين بمدينة سان بطرسبوغ في 9 أغسطس/آب، اللقاء الذي كان اتُّفق عليه قبل المحاولة الانقلابية. ولكن، وبالرغم من اتفاق بوتين وأردوغان على عودة العلاقات الاقتصادية والتجارية إلى ما كانت عليه قبل القطيعة بين البلدين، فإن التقارير التي أشارت إلى أن الرئيسين توصَّلا إلى توافق سياسي حول سوريا، أيضًا، حملت الكثير من المبالغة. ما تم الاتفاق عليه فيما يتعلق بسوريا، على الأرجح، كان حرص الدولتين عل تجنب أي صدام شبيه بحادثة إسقاط الطائرة الروسية، وتأسيس آلية استخباراتية وعسكرية-دبلوماسية، لبحث مسائل الخلاف وتعزيز التنسيق ومحاولة التوصل لحل الخلافات حول مستقبل سوريا.

بيد أن المناخ الجديد في العلاقات بين أنقرة وموسكو، الذي وُلِد من حاجتي البلدين، أسهم في إفساح المجال أمام العملية التركية في الشمال السوري. أبلغت أنقرة موسكو مسبقًا بالعملية وهدفها، ويبدو أن موسكو لم تعارض، لأنها تعتبر تنظيم الدولة تهديدًا لأمنها القومي، وباتت ترى أن الديمقراطي الكردستاني أصبح كليًّا أداة أميركية.

وقد شهدت العلاقات التركية-الإيرانية تطورًا إيجابيًّا مشابهًا للتطور في العلاقات التركية-الروسية، سواء بفعل الموقف الإيراني الرافض للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، أو لرغبة طهران في أن لا ترى استفرادًا تركيًّا في العلاقة مع موسكو. إضافة لذلك، مع عودة الأكراد الإيرانيين المعارضين للنظام الإيراني إلى العمل المسلح، أخذت طهران تنظر بقلق متزايد إلى اتساع نطاق نفوذ الأكراد السوريين وحجم الدعم الأميركي المتزايد للديمقراطي الكردستاني. ويمكن القول: إن الموقف الإيراني من العملية التركية، أو بالأحرى غياب هذا الموقف، يعود في جانب منه إلى الخلاف المحتدم في صفوف الطبقة الإيرانية الحاكمة بين من يقولون بأن الخطر الأكبر على إيران ينبع من روسيا القريبة، ويدعون إلى علاقات أفضل مع واشنطن وأنقرة، ومن يقولون بأن الخطر كان ولم يزل أميركيًّا.

وليس ثمة شك، في أن الموقف التركي الجديد من الحل السياسي للأزمة السورية، الذي أبلغت به الأطراف المعنية منذ مايو/أيار الماضي، والذي أعلن عن تغيير موقف أنقرة من طلب تنحي الأسد منذ بداية المرحلة الانتقالية إلى القبول بوجوده خلال فترةٍ ما من المرحلة الانتقالية، قوبل بردِّ فعل إيجابي في موسكو وطهران.

خلف ذلك كله، على أية حال، كان لابد من حصول الأتراك على دعم وتأييد أميركي واضح، قبل انطلاق العملية. وربما ساعدت أجواء التوتر البالغ بين أنقرة وواشنطن في الأسابيع التالية لفشل المحاولة الانقلابية في مسارعة الولايات المتحدة لاتخاذ موقف إيجابي من العملية. أدركت الإدارة الأميركية أن ردَّ الفعل التركي الغاضب من وجود فتح الله غولن في أميركا، وعلى التصريحات التي أطلقها رئيس الاستخبارات الوطنية الأميركية وقائد القيادة المركزية حول مصير الضباط الانقلابيين، لا يقتصر على حكومة العدالة والتنمية، بل ويشمل عموم الرأي العام والمعارضة التركية كذلك. كما أن واشنطن ما كان لها أن تتناسى أنها كانت دائمًا من يحثُّ تركيا على لعب دور أكبر وأكثر فعالية في الحرب ضد تنظيم الدولة، وأنها سبق أن وافقت بالفعل على عملية تركية عسكرية في الشريط الحدودي مع سوريا.

وقد بذل نائب الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، خلال زيارته لأنقرة قبل أيام قليلة من انطلاق العملية التركية، جهودًا بالغة من أجل احتواء التوتر في علاقات البلدين، التي ولَّدتها الشكوك التركية في مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل. كما أكد بايدن، في لغة لا تحتمل التأويل، دعم الإدارة الأميركية لمطالب أنقرة بانسحاب المسلحين الأكراد من غرب الفرات. ولعل من الممكن الاستنتاج أن تأييد واشنطن للعملية التركية جاء انعكاسًا لمخاوف إدارة أوباما من الاحتمال الوشيك لأن تخسر أهم حلفائها في الشرق الأوسط. وعندما وضعت واشنطن أمام خيار قاطع بين تركيا وتنظيم مسلح مثل الديمقراطي الكردستاني، لم يكن ثمة شك أيًّا من الجانبين ستختار.

طبيعة العملية

لم يُخْفِ الأتراك في اليوم الأول من التحرك العسكري باتجاه بلدة جرابلس أن حجم القوة المشاركة في العملية كان محدودًا، وأن مجموعات الجيش السوري الحر ستتحمل العبء الأكبر من القتال ضد قوات تنظيم الدولة المسيطرة على البلدة ومحيطها القروي. ضمت القوة التركية كتيبة واحدة من المدرعات، بعدد لا يتجاوز المئتين من العسكريين، إضافة إلى عدد مماثل من القوات الخاصة. وإلى جانب الغطاء الجوي الذي وفرته طائرات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، وهي على الأغلب طائرات أميركية، شارك في تحرك اليوم الأول عدد محدود من طائرات سلاح الجو التركي. ولكن وجود الجنرال زكائي آق ساكللي، قائد القوات الخاصة التركية وأحد الضباط الرئيسيين الذين واجهوا الانقلابيين مساء 15 يوليو/تموز، على خط الحدود التركية-السورية، أوحى بأن العملية التركية قد تكون محدودة، ولكنها لن تكون محدودة جدًّا.

خلال ساعات قليلة، نجحت مجموعات الجيش الحر، مدعومة بالقوات التركية، في دخول جرابلس بدون خسائر تُذكَر، بعد أن بادر مسلحو تنظيم الدولة إلى الانسحاب من البلدة ومعظم قراها. في اليوم الثاني للعملية، شوهد الجنرال، آق ساكللي، في جرابلس يطمئن على جنوده؛ وفي الأيام القليلة التالية، استمر تعزيز القوة التركية في مسرح العمليات بالدبابات وعربات الدعم اللوجستي وجنود القوات الخاصة. وعلى خلفية من تصريحات لمسؤولين أتراك، وتصريحات لقيادات الجيش الحر، بأن العملية ستطول ما هو أبعد من جرابلس، استمر تقدم القوات التركية ومجموعات الجيش الحر جنوب وغرب البلدة الحدودية. في 25 أغسطس/آب، وجَّه قادة الجيش الحر إنذارًا للمسلحين الأكراد بالانسحاب من منبج والعودة إلى مناطقهم شرق الفرات خلال ثلاثة أيام. وفي 27 أغسطس/آب، نجحت قوات الجيش الحر في طرد تنظيم الدولة من بلدة الراعي.

لا يمكن الاستنتاج بقدر عال من اليقين بعد، ولكن ثمة مؤشرات على أن الهدف النهائي للعملية هو إقامة منطقة على طول الشريط الحدودي غربي الفرات، من جرابلس إلى إعزاز، بطول سبعين وعمق عشرين كيلومترًا، خالية من مجموعات تنظيم الدولة ووحدات الديمقراطي الكردستاني. لا يمكن وصف هذه المنطقة بالآمنة تمامًا، لأن الطائرات الروسية يمكن أن تحلِّق في سماء المنطقة متى أرادت. ولكن، وعلى اعتبار أن بطاريات الهاوتزر، المنتشرة في الجانب التركي من الحدود، يمكن أن تغطي ما يقارب الأربعين كيلومترًا من العُمق السوري، يمكن القول: إن العملية تستهدف إقامة محمية تركية على طول الشريط الحدودي. هذا لا يعني، بالطبع، أن العملية ستكون سلسة تمامًا ومضمونة النجاح؛ ولكن، في الجانب المقابل، إن نجحت في تحقيق أهدافها، فستترك أثرًا ملموسًا على مجريات الأزمة السورية.

المخاطر المحيطة بالعملية وأثارها المحتملة

وجَّهت المدفعية التركية قذائفها ضد مجموعات من مسلحي الحزب الديمقراطي الكردستاني للمرة الأولى منذ بدء العملية يوم 26 أغسطس/آب، لمنع هذه المجموعات من التقدم نحو بلدة الراعي. في اليوم التالي، وقع أول اشتباك مباشر بين مسلحي الحزب وقوة مدرعة تركية، أسفر عن مقتل أحد الجنود الأتراك.

طوال الأيام الأربعة الأولى، تقدمت القوة التركية وحلفاؤها من الجيش الحر نحو جرابلس ومحيطها بيسر. ولكن، وبالرغم من الدعوات الأميركية لمسلحي الديمقراطي الكردستاني بالانسحاب من غرب الفرات، ليس ثمة مؤشرات بعد على أن هذا الانسحاب قد بدأ بالفعل. إنْ عقدَ الديمقراطي الكردستاني العزم على عدم إخلاء منبج وقراها، فمن المؤكد أن مواجهة مسلحة ستقع بين وحدات الحزب المسلحة، من جهة، والقوات التركية وقوات الجيش الحر، من جهة أخرى. وسيكون على الأميركيين، الذين يقاتل المسلحون الأكراد بسلاحهم، أن يذهبوا خطوة أخرى في خيارهم التركي، وأن تبدأ طائراتهم بتوجيه نيرانها ضد وحدات الديمقراطي الكردستاني.

هذا من جهة، أمَّا من جهة تنظيم الدولة، فإن مدينة الباب تمثِّل موقعه الرئيس التالي بعد جرابلس. يمكن لتنظيم الدولة أن يواصل سياسة الانسحاب، التي يتبعها عادة عندما يدرك أنه في مواجهة معركة غير متكافئة، كما فعل في جرابلس والراعي. ولكن من المحتمل، أيضًا، أن يقرِّر تنظيم الدولة خوض معركة يائسة في الباب. عمومًا، يبدو الخطر الذي تمثله هجمات تنظيم الدولة على الداخل التركي أكبر من ذلك الذي يمكن أن تمثله على القوات التركية في سوريا.

مهما كان الأمر، فالواضح أن قيادة الجيش التركي على استعداد لتحمل الخسائر المحتملة للعملية، طالما أن مسرح العمليات ليس بعيدًا في العمق السوري ومتصلًا جغرافيًّا بالجانب التركي من الحدود. بعد الإهانة التي تلقتها وحدات متمردة من القوات المسلحة في المواجهة مع الشعب التركي، ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة، ترغب القيادات العسكرية والسياسية التركية، على السواء، في استعادة القوات المسلحة لمعنوياتها وإعادة بناء علاقتها بالشعب. هذا لا يعني بالتأكيد أن أنقرة ستقبل تحول عملية الشريط الحدودي إلى حرب استنزاف للقوات التركية.

ولكن الخطر الذي يتهدد العملية لا يقتصر على تنظيم الدولة ووحدات الديمقراطي الكردستاني؛ فسوريا هي أيضًا ساحة عمليات ونفوذ إيراني وروسي. في هذه المرحلة، يبدو أن روسيا وإيران ليستا بصدد التحرك ضد العملية التركية. ولكن استمرار اتخاذ إيران وروسيا موقف عدم التأييد وعدم المعارضة، الذي هو جوهر موقفهما الراهن، يتطلب تحركًا ملموسًا في المسار السياسي لحل الأزمة السورية.

ثمة مباحثات أميركية-روسية جارية على قدم وساق، ولكن تصريحات كيري ولافروف، بعد لقاء الوزيرين: الأميركي والروسي، مساء 26 أغسطس/آب، لا توحي بتفاؤل بمخرج قريب. تحدَّث الوزيران حول تقدم ما في الاتفاق حول سوريا، ولكنهما أكَّدا على وجود خلافات لم تُحلَّ بعد. من جهة أخرى، تشهد قنوات الاتصال بين أنقرة وطهران، وأنقرة وموسكو، نشاطًا كبيرًا، سواء على مستوى المكالمات الهاتفية بين قادة الدول، أو لقاءات المسؤولين الدبلوماسيين. ولكن ليس هناك ما يشير بعد إلى تقدم ملموس في محاولات الدول الثلاث التوصل إلى تصور توافقي حول حل الأزمة السورية.

الأرجح، أن موسكو لن تقدم حلًّا لسوريا إلى أنقرة أو طهران لاعتبارات عديدة، تتعلق بالخلافات في أوكرانيا وأوروبا، ستحرص روسيا على أن يكون الاتفاق حول سوريا اتفاقًا أميركيًّا-روسيًّا، أولًا، ثم تركيًّا وإيرانيًّا، بعد ذلك. وبالنظر إلى أن أيام إدارة أوباما باتت معدودة، فربما يُقدِّر بوتين أن الأفضل لروسيا انتظار الإدارة الأميركية الجديدة.

ما يمكن رؤيته الآن، على أية حال، هو أن فشل العملية التركية ستكون له عواقب وخيمة على دور تركيا في سوريا. أما نجاح العملية في تحقيق أهدافها في سوريا، بأقل خسار ممكنة، فسيعزِّز من الدور التركي في أي اتفاق سياسي حول الحل في سوريا، وربما يمكن أن تتحول العملية التركية إلى قوة دافعة للتوصل إلى الحل المنشود.

مركز الجزيرة