لماذا السلام هو السائد حتى الآن في جنوب لبنان؟

لماذا السلام هو السائد حتى الآن في جنوب لبنان؟

جندي أندونيسي من قوات حفظ السلام يراقب حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل – (أرشيفية)

بعد عشر سنوات من الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله، يقول المتحدثون باسم قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إن المنطقة الحدودية العنيفة الطويلة تقف في تناقض صارخ مع الكثير من مناطق الشرق الأوسط.
*   *   *
الناقورة، لبنان – كان جنوب لبنان منذ فترة طويلة مرادفاً للاحتلال والعنف والصراع –وهي إرث قربه من إسرائيل ووجود الجماعات المسلحة التي تعود تاريخياً إلى الفصائل الفلسطينية المسلحة التي ظهرت هنا في ستينيات القرن الماضي.
مع ذلك، ومنذ نهاية الحرب الأخيرة بين إسرائيل والمنظمة اللبنانية المتشددة، حزب الله، قبل عقد من الزمن، شهدت هذه المنطقة فترة نادرة ومرحباً بها من الهدوء. وقد تحسن الاقتصاد المحلي، ويستمر البناء الجديد في تغيير المعالم المهمة في القرى اللبنانية الجنوبية الموزعة في التلال الصخرية، ويحرث المزارعون حقول التبغ ويقطفون الزيتون في سلام، والأطفال يذهبون إلى المدرسة دون خوف من القصف اليومي والغارات الجوية.
في شرق أوسط يكتنفه الاضطراب وعدم الاستقرار، أصبح جنوب لبنان “واحة للسلام”، كما يقول اللواء مايكل بيري، القائد المعين حديثاً لقوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، والتي تعرف بالاسم المختصر “يونيفيل”.
“يونيفيل هي واحدة من أكثر بعثات الأمم المتحدة نجاحاً، ويشكل مرور 10 أعوام من السلام هنا دليلاً على ذلك. لدينا أطفال بلغوا من العمر 10 سنوات هنا في جنوب لبنان، والذين لم يختبروا الصراع الذي كان من السمات المميزة لتاريخ لبنان الحديث”، كما يقول اللواء بيري وهو يتحدث في أول مقابلة له في مقر “يونيفيل” في الناقورة، القرية الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط على مسافة ميلين إلى الشمال من الحدود مع إسرائيل.
مع ذلك، وعلى الرغم من الهدوء السائد، ما يزال احتمال اندلاع صراع جديد في المستقبل حاضراً. وقد لعبت قوات “يونيفيل” دوراً حاسماً في المساعدة في الحفاظ على السلام في جنوب لبنان. أما إذا كانت المنطقة ستنحدر مرة أخرى إلى مجاهل العنف، فهو قرار يقع مباشرة في أيدي الخصمين -إسرائيل وحزب الله. ومنذ نهاية الصراع غير الحاسم الذي استمر لمدة شهر في العام 2006، كان كلا الجانبين يستعدان بشكل محموم لخوض حرب جديدة.
في هذه السنوات، جمع حزب الله منظومات أسلحة جديدة، والتي تتيح لقادته التباهي بأن كل إسرائيل أصبحت الآن في مرمى صواريخهم. كما تضخمت صفوفه بكثافة بالمجندين الجدد، والكثيرون منهم يتلقون خبرة قتالية لا تقدر بثمن في ساحات المعارك الدامية في سورية وهم يقاتلون أعداء الرئيس بشار الأسد.
وفي المقابل، يقول محللون أن إسرائيل دربت جيشها على التعامل بشكل أفضل مع قوة غير تقليدية مثل حزب الله، وقامت بتحسين دفاعات عرباتها المدرعة، وزادت من قدراتها في جمع المعلومات الاستخبارية وضرب أهداف متعددة بالمدفعية والقوة الجوية.
ولكن، وعلى الرغم من هذه الاستعدادات، لا أحد من الطرفين يبدو في عجلة من أمره للقتال، مع قلق الطرفين من وعد الصراع القادم بأن يكون أكثر تدميراً بعدة مرات -لكل من إسرائيل ولبنان- من صراع العام 2006.
في خطاب ألقاه يوم 13 آب (أغسطس) بمناسبة الذكرى السنوية لانتهاء الحرب في العام 2006، قال الشيخ حسن نصرالله، زعيم حزب الله: “الجديد بعد حرب تموز أنه صار هناك ردع متبادل يعترف به الإسرائيلي”. وأضاف ” نحن من عشر سنوات في أمن وأمان، هذه السنوات العشر، أمن وأمان… لكن لا أحد يقدِر أن يمنّ علينا… إسرائيل مردوعة أمام بلد هي تعلم بأن المقاومة تزداد فيه عدة وعديداً وقوة وقدرة وبيئة وشعبية وثقة وإيماناً وعزماً وإرادة وإلى آخره”.
تعزيزات
تتواجد قوات “يونيفيل” في لبنان منذ العام 1978، عندما تم إيفادها في إطار الاستجابة الدولية للغزو والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في آذار (مارس) من ذلك العام، بعد أعوام من الهجمات الفلسطينية عبر الحدود. ويشير حرف “ي” في “يونيفيل” بالإنجليزية إلى كلمة “المؤقتة”، وهي كلمة أصبحت بالية منذ فترة طويلة، حيث بقيت قوة حفظ السلام في لبنان لتشهد غزواً إسرائيلياً آخر في العام 1982 –والذي استهدف مرة أخرى القوات الفلسطينية المتمركزة في المنطقة- بعد 18 عاماً من الاحتلال والمقاومة قبل انسحاب الإسرائيليين من الشريط الحدودي في أيار (مايو) 2000.
بحلول الوقت الذي اندلعت فيه جولة سريعة التصعيد من الهجمات والعمليات الانتقامية في حرب تموز (يوليو) من العام 2006، كان عدد أفراد قوات “اليونيفيل” في جنوب لبنان مجرد 2000 من المراقبين المسلحين المنتشرين على طول “الخط الأزرق”، الاسم الذي أطلقته الأمم المتحدة على حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل.
في أعقاب حرب العام 2006، أعطيت قوات “يونيفيل” ولاية جديدة، وتمت زيادة حجمها إلى سقف الحد الأقصى لتبلغ 15.000 جندي. واليوم، هناك نحو 10.500 من أفراد قوات حفظ السلام في جنوب لبنان، والتي يأتي عناصرها من 40 بلداً. وهي بعثة الأمم المتحدة الوحيدة التي لديها عنصر بحري -قوة بحرية صغيرة مهمتها منع تهريب الأسلحة عن طريق البحر إلى لبنان.
تتجسد تجربة قوات “يونيفيل” الطويلة في جنوب لبنان في شخص الجنرال بيري. فقبل توليه قيادة القوات هنا في الشهر الماضي، كان بيري قد خدم ثلاث جولات مع الكتيبة الأيرلندية في جنوب لبنان، كانت أولاها قبل فترة طويلة في العام 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان. وتميزت جولاته اللاحقة في العامين 1989 و1994 بعنف الاحتلال والمقاومة، والهجمات اليومية والقصف التي جعلت الحياة بائسة للسكان المحليين.
يقول الجنرال بيري: “بالعودة إلى تجربتي السابقة هنا، كان لبنان حالة ميؤوساً منها، وفي كل مكان آخر -في ليبيا، العراق، سورية- لم تكن هناك أي قضايا كبرى… الآن أصبح لدينا العكس تماماً. لدينا عدم الاستقرار المطلق في أجزاء عديدة من الشرق الأوسط، في حين أن لبنان -وخاصة جنوب لبنان، بسبب وجود اليونيفيل- فيتمتع بفترة من الهدوء”.
مشهد من الأعلى
يبدو هذا الهدوء الذي يتحدث عنه الجنرال واضحاً في المشهد الذي تعرضه النقطة العالية على تلة الشيخ عباد التي ترتفع ما يقرب من 3000 قدم عن سطح البحر على الحدود بين لبنان وإسرائيل. وببعدها ميلاً واحداً إلى الشرق من قرية الحولة اللبنانية، وارتفاعها الشاهق فوق مستوطنة كريات شمونة الإسرائيلية وسهل الحولة، كانت هذه التلة تعتبر نقطة ساخنة في أعقاب انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان. وعلى القمة، مقسوماً بـ”الخط الأزرق”، ثمة ضريح حجري يضم إما رفات شيخ ديني محلي، وفقاً للبنانيين، أو رفات حاخام من القرن الخامس، وفقاً للإسرائيليين. وقد بنى الجيش الإسرائيلي قاعدة عسكرية مهيبة بجانب القبر، والتي منحتها الجدران الخرسانية الرمادية والهوائي السامق فوقها مظهر سفينة حربية. وعلى الجانب اللبناني، ثمة موقع لـ”يونيفيل” تشغله قوات حفظ سلام نيبالية.
يقول الرائد بهارات سينغ بيستا، الضابط الآمر في موقع “يونيفيل” هناك: “مهمتنا هنا هي الرصد والإبلاغ”.
ومع ذلك، هناك القليل من الرصد هذه الأيام في هذا المكان الهادئ الذي تعصف به الرياح. ولكن، قبل 16 عاماً، كانت حشود من الشباب اللبنانيين يؤمون الموقع لرمي الحجارة على المجمع الإسرائيلي، ويغيظون الجنود بالتلويح بأعلام حزب الله الصفراء من فوق السياج. وفي مناسبة لا تنسى، أدوا رقصة الدبكة التقليدية في لبنان فوق القبر أمام زوج من الجنود الإسرائيليين الذين يشفّون عن مظهر غير سعيد.
اليوم أصبحت تلة الشيخ عباد، مثل بقية جنوب لبنان، سلمية هادئة، ولا يزورها إلا لماماً حفنة من اللبنانيين الفضوليين، حيث تحكم القواعد الصارمة كل زيارة. ويرافق رجل حفظ سلام غير مسلح من قوات “يونيفيل” الزوار الذين لا يمكن أن يزيد عددهم على ستة أشخاص في المرة الواحدة، وهو يحمل علم الأمم المتحدة. ولا يسمح لهؤلاء الزوار بالتقاط الصور، ولا يمكن أن  يقضوا أكثر من خمس دقائق عند الضريح.
بالإضافة إلى مراقبة النشاط على طول “الخط الأزرق”، تساعد قوات “يونيفيل” في تدريب وتجهيز الجيش والبحرية اللبنانيين ليتمكنا من العمل بشكل أفضل في منطقة الحدود الجنوبية والدفاع عن السواحل. كما تقوم أيضاً بتشغيل برنامج “تعاون مدني-عسكري” شامل، والذي يضم مجموعة كبيرة من النشاطات لدعم السكان المحليين، من تحسين احتياجات البنية التحية إلى تقيم دورات في اللغة.
انتهاكات مزعومة
لكن أهم وظيفة لقوات “يونيفيل”، كما يمكن القول، هي التوسط بين لبنان وإسرائيل، وإخماد أي انفجارات في الأوضاع هناك بسرعة على طول “الخط الأزرق”. وتتهم إسرائيل “يونيفيل” باستمرار بتجاهل ما تقول إنه نشاط حزب الله العسكري الذي ينبغي أن يكون ممنوعاً في المنطقة الحدودية، وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الذي ساعد في إنهاء حرب العام 2006.
في تموز (يوليو) الماضي، عرضت إسرائيل في مجلس الأمن الدولي صورة ملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية لقرية شقرا اللبنانية الجنوبية، وعليها علامات تظهر ما يقال إنه مواقع لعشرات من مداخل الملاجئ، ومواقع تخزين الأسلحة، وقاذفات الصواريخ، والمواقع المضادة للدبابات.
وقال داني دانون، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة: “لقد تم تحويل قرية شقرا إلى معقل لحزب الله، حيث يستخدَم واحد من كل ثلاثة مبان للنشاطات الإرهابية”.
مع ذلك، لا تسمح ولاية “يونيفيل” بتفتيش الممتلكات الخاصة، وتقول قيادتها أن إسرائيل لم تقدم معلومات لها مفصلة، مثل إحداثيات الخريطة، لدعم ادعاءاتها. ويقول الجنرال بيري: “بينما كانت هناك إشارات عامة لقرى معينة، فإننا لم نتلق أي معلومات أكيدة عن وجود حالات بعينها، ولذلك من الصعب علينا أن نتصرف”.
وبالإضافة إلى ذلك، يلاحظ بيري أن إسرائيل تنتهك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 على أساس يومي تقريباً بتحليق طائرات جيشها في المجال الجوي اللبناني، وهو انتهاك تحتج الحكومة اللبنانية عليه بلا توقف.
أعمال طريق مثيرة للجدل
مرة في كل شهر، تستضيف “يونيفيل” اجتماعاً لضباط الجيشين الإسرائيلي واللبناني لمعالجة أي مخاوف تظهر في المنطقة. وفي الوقت الحالي، تنظر قوات “يونيفيل” بقلق إلى أعمال الحفر الإسرائيلية التي تجري بالقرب من “الخط الأزرق” في جنوب شرق المنطقة الحدودية، حيث تقوم إسرائيل ببناء طريق دوريات جديد يربط بين قاعدتين عسكريتين في تلال مزارع شبعا. وقد تسبب هذا العمل بعاصفة من الاحتجاجات في لبنان، حيث تقول بيروت أن الأرض، التي استولت إسرائيل عليها من السيطرة السورية في العام 1967، هي أراضٍ لبنانية. وقبل أيام، عبر المحتجون اللبنانيون “الخط الأزرق” لفترة وجيزة وقاموا بزرع الأعلام اللبنانية على الجانب الذي تسيطر عليه إسرائيل من الحدود.
وفي مساء نفس اليوم، اختفى المتظاهرون، وكذلك فعلت القوات الإسرائيلية ومعدات البناء. وأشَّر قطاع واسع من التراب المحفور بني اللون على موضع الطريق الجديد المثير للجدل على جانب المنحدر الصخري الحاد الواقع مباشرة عبر “الخط الأزرق”.
مسح جندي هندي من قوات “يونيفيل” يقف في فتحة ناقلة جنود مدرعة المشهد بمنظاره العسكري. ولم يكسر هدأة المشهد سوى أنين عالي النبرة لطائرة استطلاع إسرائيلية تحلق عالياً في دوائر، بخفاء، فوق السماء القاتمة.
ولكن، أن يكون طريق منشأ جزئياً هو المصدر الرئيسي الحالي لقلق بعثة “يونيفيل”، فإن ذلك ربما يوضح كم تغير جنوب لبنان على مدى سنوات العقد الماضي.

نيكولاس بلانفورد   – (كرستيان سينس مونيتور) 23/8/2016

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

*نشر هذا التقرير تحت عنوان:

Why peace is prevailing, for now, in south Lebanon

نقلا عن الغد الاردنية