زارعو الفساد وحاصدوه في العراق

زارعو الفساد وحاصدوه في العراق

4581e442b631554ac1958fae152e9c7b

الفساد المالي منظومة متشابكة مع الفساد السياسي. ليست هذه نظرية تقليدية في عالمي السياسة والاجتماع، لكنها تؤسس لنظرية جديدة خلقتها الحالة العراقية بعد إفرازات الاحتلال الأميركي وما بناه من سلطة ضعيفة طائفية عنصرية تمتلك أحزابها وأشخاصها استعدادات التخلي عن جميع مقومات وقيم الوطن والناس من أجل المصالح الحزبية والذاتية.

فقد قبلت الأحزاب الدينية (الشيعية والسنية) تلك المقايضة الرخيصة حين فتحت لها قيادة الاحتلال في التاسع من أبريل 2003 أبواب وقاعات قصور صدام والدولة العراقية، وضاعت بين معمارياتها الفارهة. وكانت غالبيتها ممن يحملون جوعا قديما للسلطة والجاه.

كان الانتقاء الأميركي دقيقا للشخصيات السياسية التي تحكم. وتم التمهيد لذلك منذ أيام المعارضة العراقية في لندن حين كان أول سفير أميركي لدى المعارضة ريتشارد دوني ينظم لقاءاته المتواصلة مع الراحل الشيخ الشيعي محمد بحر العلوم وممثل المجلس الأعلى حامد البياتي قبل أن يأتي إلى لندن مهندس الاحتلال السفير (خليل زادة)، ويعقد الاتفاقية الصورية مع المعارضين الشيعة والأكراد في مؤتمر لندن للتمهيد لسلطة ما بعد صدام.

الأميركان بحثوا عن ضعاف النفوس داخل أروقة المعارضة العراقية فوجدوا من تطوعوا للعمالة فسجلوا أسماءهم ووقعوا على الأجور بعد أن تم تصويرهم للتجنيد ولا داعي لكشف أسمائهم. كانت خطة الأميركان لتسهيل مشروعهم في العراق عبور الخدمات التمهيدية لأحمد الجلبي الذي اكتشف وهو الليبرالي أن اللعبة تتطلب أن يستظل بالمظلة الطائفية الشيعية فأسس البيت الشيعي. وكانت أمامه فرصة قيادة البلد لو لم يضع نصب عينيه سرقة العراق.

كان هدفه في ساعات الاحتلال الأولى بيت المال (البنك المركزي) والاستيلاء على وثائق المخابرات العراقية لاستخدامها في مشروع اجتثاث البعث كسلاح فعال للقضاء على معارضي الاحتلال والإيقاع بهم، وتهيئة مناخ النهب، فاستولى مع القادة العسكريين الأميركان على موجودات البنك المركزي ونشب خلاف بينه وبينهم على قسمة الغنائم الأولى وحصلت مصادمات عسكرية يتذكرها العراقيون راح ضحيتها عدد من حماية الجلبي ومسؤول مكتبه العسكري الذي بقي حيا ويعيش الآن بين الحياة والموت في إحدى العواصم الأوروبية وتخلى عنه الجلبي حتى في تسديد نفقات علاجه.

واضطر الجلبي إلى تسليم السلطة للسياسيين الشيعة المرتبطين بطهران.

من جانب آخر جنّد الأميركان من أبدى استعدادات عالية للغش والتزوير فبدأوا بمقاولات التغذية والميرة للجيش الأميركي التي منحت للبعض كغطاء للمرحلة التالية من بناء صرح الفساد في العراق “المال مقابل خدمة الاحتلال والطائفية”. وانهالت العطايا المجزية على مغمورين في المجتمع كانوا يتسكعون على أرصفة المنافي في لندن وطهران ودمشق: وعود بالسلطة وقنوات فضائية وصحف ومنظمات مجتمع مدني. وجرت محاولات للضبط من قبل المفتش المالي الأميركي لكنها جمدت خوفا من انهيار العملية السياسية منذ أيامها الأولى. وتراكض أصحاب مواهب السرقة وعديمو الضمائر في المشوار الوسخ الذي أوصل البلد إلى ما هو عليه الآن، واختلطت السياسة بالفساد.

كان طبيعيا للنفوس الضعيفة أن تركب موجة السياسة بعد أن وجدت التشجيع من الأميركان. كانت اللعبة محكمة الإيقاع: استبعاد الخيرين من أبناء العراق تحت عنوان مغر للسياسيين الشيعة (لا مكان للعرب السنة في حكم العراق)، ولاستكمال المثلث الطائفي لا بد من جلب أراذل القوم من العرب السنة، أما أصحاب الهمم العالية الذين رفضوا الدخول في المستنقع فقد هُمشوا وأهينت كراماتهم وقُطعت أرزاق أطفالهم، حتى حقوقهم المدنية حرموا منها وبينهم من كان معارضا لنظام صدام واستحق الحقوق وفق قانون الفصل السياسي، في حين تم استحداث الكثير من القوانين مثل “المجاهدين والمسجونين السياسيين” لتبييض السرقة والنهب من خزينة العراق.

وفتحت الأبواب لسرقة المال العام. ونمت معادلة مركبة لم تحصل في العالم وهي المزاوجة بين الفساد والطائفية والتي أصبحت من أهم قواعد بناء النظام السياسي في العراق. كان بإمكان المحتلين الأميركان غلق جميع الأبواب التي تقود إلى الفساد.

الجنرال جاكنر كان أول قائد أميركي تم تعيينه بعد الاجتياح من قبل بوش الابن الذي لم يكن يعرف حتى موقع خارطة العراق من العالم، فأعانه اللوبي اليهودي الممتلك لمخطط تفكيك العراق طائفيا.

وأصبح من الضروري أن تكون لهذا المشروع رؤوس محلية رخيصة لكنها تحمل عنوانا طائفيا (سني شيعي كردي) ثم انسحبت مؤسسة البنتاغون بعد إنجاز الاحتلال ولم تعد لجاكنر مقاول إعادة إعمار العراق أهمية لأن الهدف لم يكن إعمار العراق وإنما تخريبه بالطائفية والفساد. فجاؤوا بببريمر الذي اشتغل بطريقة مزجت بين ما تلقاه من معلومات استخبارية سريعة مشوهة وبين الانفتاح الواسع على القيادات الشيعية وقبلها الكردية، جلب معه المليارات من أموال العراق تحت عنوان “إعماره” وتمت تهيئة الأرضية للسرقة.

وتورط الحاكم بريمر باختفاء (17 مليار دولار) من صندوق التنمية العراقي الذي كان مقره داخل السفارة الأميركية ببغداد. أفسد بريمر الحكام الجدد كل على مقاسه وحجمه. ورغم أنه ورط البعض من السياسيين بالفساد، فقد سخر منهم بعد توديعه لبغداد في كتابه (عام قضيته في العراق) ووصف أعضاء مجلس الحكم بأقسى الأوصاف في وصاياه لخليفته السفير (نيغرو بوتني)؛ “هم شرهون بإفراط تقودهم غرائزية وضيعة وستجد أن كبارهم كما صغارهم دجالون ومنافقون، شهيتهم مفتوحة على كل شيء: الأموال العامة والأطيان، واقتناء القصور، والعربدة المجنونة، يتهالكون على الصغائر والفتات بكل دناءة وامتهان، وعلى الرغم من المحاذير والمخاوف كلها فإياك أن تفرّط في أي منهم لأنهم الأقرب إلى مشروعنا فكرا وسلوكا، وضمانة مؤكدة، لإنجاز مهماتنا في المرحلة الراهنة قبل أن يحين تاريخ انتهاء صلاحيتهم الافتراضية، بوصفهم (مادة استعمالية مؤقتة) لم يحن وقت رميها”.

وبدأت مرحلة الترابط بين الفساد والسياسة حين لم تتوفر القواعد الأولى لساسة عراقيين يحملون برنامجا طموحا لبناء العراق، استخدم الشعار الديمقراطي (الانتخابات) غطاء شجعه المحتلون لإفراز سياسيين جهلة استندوا على أغطية المرجعية “الشيعية” وخدمة الأميركان والإيرانيين وتحريم وصول الوطنيين الليبراليين. وأصبح المال السياسي الوسيلة الجديدة وتشكلت داخل الأحزاب لجان اقتصادية لجباية المال المسروق والاستيلاء على مقرات وبيوت رجال النظام السابق وحولوها إلى مقرات لأحزابهم وسكن لمسؤوليهم الكبار، أما صغارهم فقد نهبوا بيوت المطاردين والمقتولين بحجة اجتثاثهم.

ومنذ عام 2004 بدأ مشوار الفساد في وزارة الدفاع حيث صفقات السلاح الفاسد بمشاركة بين البعض من منتسبي القوات الأميركية ووزير الدفاع في حكومة أياد علاوي. استمر نزيف النهب جميع هذه السنوات ونمت امبراطورية الفساد إلى درجة مذهلة، فحسب التصريحات الأخيرة لوزير المالية إن “شخصا من دولة القانون اسمه حمد الموسوي مدير مصرف الهدى الأهلي هو الذي هرب مبلغا قدره ستة مليارات وأربعمئة وخمسة وخمسون مليون دولار لحسابه الشخصي بالخارج”، كما أعلن رئيس البنك المركزي السابق سنان الشبيب أنه “تم نهب 800 مليار دولار كانت كافية لكي يعيش 30 مليون عراقي برفاه تام”.

ولا يجرأ أحد على المساءلة لأن من يقوم بذلك من داخل العملية السياسية عليه انتظار الضربة بالسلاح ذاته.

الأميركان والإيرانيون كلهم لا يريدون إسقاط العملية السياسية بركنيها البرلماني والتنفيذي كل منهم لظروفه: الأميركان لديهم الانتخابات في الأشهر القريبة ويريدون طرد داعش من الموصل في ظل الحكومة القائمة التي تعبوا في الدفاع عنها، والإيرانيون بصدد تجهيز أدواتهم الجديدة لكي تتحكم الميليشيات بعناوين سياسية براقة تقترب من عنوان حزب الله في لبنان لكن ليس برأس واحد للتحكم بسلطة بغداد.

إلا أن دخان فوضى تفكك امبراطورية الفساد يغطي على المشهد وقد يقود إلى حالات من الانفلات خارج تحكم جميع القوى السياسية. لأن الجميع خائف ويرمي بجميع أسلحته ضد الآخر. انتهت تحالفات الأمس الاستراتيجية بين الشيعة والأكراد، وهو أهم مرتكز بنيت عليه العملية السياسية، وقد يحصل الانهيار على إيقاعات غير مألوفة؛ فالأكراد لديهم أوراق كثيرة ضمن ملفات الفساد عبر وزيرهم في المالية زيباري.

المعركة ليست سهلة وفضائح الفساد هي سلاح الصراع القائم اليوم بين أركانه. من يكسب المعركة داخل مسرح الفساد؟ الجميع خاسرون أمام الشعب لكن كل طرف يعتقد أنه سيكسب المعركة، زارعو الفساد وحاصدوه كلهم إلى جهنم وبئس المصير.

د. ماجد السامرائي

نقلا عن العرب