مخاطر السياسة الأميركية في سوريا

مخاطر السياسة الأميركية في سوريا

900x450_uploads,2016,08,27,449a8e222a

قد تتعرض الحملة العسكرية الأميركية لإعادة السيطرة على الرقة، عاصمة تنظيم داعش، للإرجاء بسبب القتال القميء الدائر بين تركيا وميليشيا كردية سورية تعرف باسم «وحدات حماية الشعب».

والمؤسف أن هذا الموقف واحد من المواقف المألوفة داخل الشرق الأوسط، حيث تغلب مشاعر الشكوك والريبة المتبادلة بين القوى الإقليمية على مصالحها المشتركة في التصدي لتنظيم داعش الإرهابي. والمؤسف كذلك أن هذه اللحظة تكشف مدى هشاشة السياسة الأميركية تجاه سوريا، التي بنت خططها العسكرية فوق خط الصدع الواهي المتمثل في العداء بين تركيا والأكراد.

ولتوضيح معالم هذه القصة دعونا نبدأ بالأكراد السوريين.

كان مسؤولون عسكريون أميركيون قد أعلنوا أن الأكراد السوريين شكلوا باستمرار العنصر الأقوى في مواجهة «داعش». وبالفعل، نجح الأكراد في طرد المتطرفين من كوباني، بعد قتال دموي عامي 2014 و2015. وفي فبراير (شباط)، نجحوا في السيطرة على مدينة الشدادي، الواقعة إلى الشرق من الرقة. وهذا الأسبوع، أنجز الأكراد تطويق الرقة، عبر بسطهم سيطرتهم على منبج، الواقعة إلى الشمال.

من ناحيتي، كنت قد التقيت مجموعة من المقاتلين الأكراد، في مايو (أيار)، داخل معسكر أميركي سري للتدريب بشمال سوريا. واستمعت منهم إلى قصص بطولة وإقدام، وأدركت حينها السر وراء مشاعر الاحترام العميق التي ترعرعت في نفوس المدربين التابعين للقوات الخاصة الأميركية تجاه «وحدات حماية الشعب»، ولماذا اعتبروا هذه الميليشيا (والجماعة المظلية التي تتبعها، القوات السورية الديمقراطية) العمود الفقري للحملة المقبلة للاستحواذ على الرقة.

ومع هذا، فإن الاستراتيجية الأميركية دائمًا ما أخفت وراءها نقاط ضعف قاتلة، ذلك أن تركيا تنظر إلى «وحدات حماية الشعب» باعتبارها إحدى أذرع «حزب العمال الكردستاني» الذي تعده تنظيمًا إرهابيًا. وقد وافقت تركيا على مضض على السماح للولايات المتحدة بإجراء عمليات قصف من قاعدة «إنغرليك» الجوية، دعمًا لـ«وحدات حماية الشعب»، والسماح للجماعة بمهاجمة منبج، بدءًا من مايو . ومع هذا، ظلت الحقيقة أن هذه الاستراتيجية الهشة محكوم عليها بالانفجار عند نقطة ما.

وبالفعل، انطلقت شرارة الانهيار مع وقوع الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، الشهر الماضي. ففي 24 أغسطس (آب)، ومن دون إخطار الولايات المتحدة، شنت تركيا هجومًا داخل الأراضي السورية، لتدفع نحو التقهقر ليس قوات «داعش» في جرابلس فحسب، وإنما كذلك المقاتلين السوريين الأكراد داخل ثماني قرى على الأقل. وما زاد الوضع تعقيدًا أن الزحف التركي ضم مقاتلين مدربين على يد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) من فرقة السلطان مراد. وبذلك، وقف عملاء واشنطن في مواجهة بعضهم بعضا.

والآن، بدأت تداعيات ذلك في الظهور، حيث طالب الأتراك بانسحاب الأكراد من منبج إلى شرق الفرات. وفي المقابل، طالب الأكراد بانسحاب الأتراك إلى الشمال من جرابلس، على امتداد الحدود التركية.
ومن جانبه، وقف بايدن، نائب الرئيس، لجوار مسؤولين أتراك، وأعلن دعمه للغزو التركي لسوريا، والمطالب التركية بتراجع «وحدات حماية الشعب» من منبج. وعليه، لم يكن مثيرًا للدهشة أن تخبر قيادة «وحدات حماية الشعب» مسؤولي البنتاغون بأنه إذا لم ينسحب الأتراك، فإن الدور الكردي في الهجوم المخطط له ضد الرقة سيصبح محل شك. وللأسف، لا توجد قوة أخرى بديلة باستطاعتها تطهير العاصمة الإرهابية في أي وقت قريب، مما يعني أن المحصلة النهائية إرجاء الدخول في مواجهة «داعش».

قد يكون الأكراد السوريون قد بالغوا في توسيع دائرة نفوذهم لما وراء موطنهم الأصلي الذي يطلقون عليه «روج أفا»، لكنهم فعلوا ذلك بموافقة أميركية ضمنية. وفي الواقع، يمثل هذا جزءا من نمط تاريخي متكرر، فعلى امتداد القرن الماضي، استغلت قوى غربية المقاتلين الأكراد وقتما كان يخدم ذلك أهدافها، ثم كانت تتخلى عنهم لدى اعتراض القوى المجاورة. حدث ذلك عام 1918، عندما تجاهل الحلفاء تعهد الرئيس وودرو ويلسون بإقامة وطن كردي، وتكرر ثانية عام 1947، عندما سحقت إيران ما عرف باسم جمهورية مهاباد والتي لم تدم سوى فترة قصيرة للغاية. ووقع الأمر ذاته عام 1975، عندما وافق شاه إيران على السماح للرئيس العراقي صدام حسين بسحق الأكراد، رغم الوعود الأميركية السرية بتوفير الدعم لهم.

وفي لقاء مع زميلي في «واشنطن بوست»، جيم هوغلاند، عام 1973، قال مصطفى بارزاني، الزعيم الكردي: «أميركا قوة كبيرة للغاية على نحو لا يسمح لها بخيانة شعب صغير مثل الأكراد.. كم كان هذا الرأي خاطئًا! إن التعبير الأصدق عن الموقف الأميركي جاء على لسان وزير الخارجية آنذاك هنري كيسنجر، عام 1975، عندما قال: لا ينبغي الخلط بين العمل السري والآخر الخيري».

والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا: كيف يمكن للولايات المتحدة بناء أساس أقوى لجهود إنجاز حملتها ضد «داعش»؟

بادئ ذي بدء، يجب على واشنطن المعاونة في بناء الحكم في عالم ما بعد «داعش»، وينبغي أن تتولى رعاية محادثات السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني. وينبغي أن توضح للأطراف كلها أن المستقبل المستديم لن يتحقق سوى بنظام فيدرالي يشعر خلاله الأكراد والسنة والشيعة والتركمان والأقليات الأخرى بالملكية والسيطرة داخل سوريا والعراق.

والمؤكد أن القوة العسكرية الأميركية ليس باستطاعتها إنقاذ منزل قائم على الرمال المتحركة. وقبل أن ننطلق في جهودنا لطرد «داعش» من الرقة، ينبغي أن تصيغ الولايات المتحدة تفاهمًا واضحًا مع الدول المجاورة بخصوص المرحلة اللاحقة.

ديفيد اغناتيوس

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط