تسييس الحج هدف إيراني من الخميني إلى خامنئي

تسييس الحج هدف إيراني من الخميني إلى خامنئي

_89282_zz4

جدّد الإيرانيون هجومهم “السنوي” على المملكة العربية للسعودية، بمناسبة انطلاق موسم الحج، أكثر الشعائر الدينية التي ظلّت عصية على العبث السياسي الديني الإيراني. ووصل الأمر بطهران إلى أن قررت هذا العام منع مواطنيها من أداء فريضة الحج، ومعاقبة من تخول له نفسه السفر إلى الرياض لهذا السبب عن طريق دولة ثالثة.

وتعللت إيران بأن السلطات السعودية لم تهيئ الظروفَ المواتية لذلك، ولكنّ الرياض في المقابل تؤكد أن طهران هي من تتحمل وحدَها مسؤولية قراراتها، وأن لا أحد منع الإيرانيين من أداء شعيرة الحج مثل غيرهم من الحجاج من باقي دول العالم.

وللمرة الأولى منذ قرابة ثلاثة عقود عن الحج، يغيب الإيرانيون عن الحج. وتسبب هذا القرار في إثارة سخط داخلي في صفوف الشعب الإيراني. ولما لم تنجح في تهدئة هذا السخط تصريحات المسؤولين الإيرانيين وهجومهم على السعودية معتبرين أنها هي من رفض منح الإيرانيين الموافقة على اتفاق البعثة الإيرانية للحج هذا العام، جاء دور المرشد الأعلى آية الله علي خامئني ليمتص هذا الغضب ويحوّله إلى هجوم ضدّ المملكة العربية السعودية.

وتصدّر الصحف الإيرانية والمواقع الإلكترونية ووكالات الأنباء ومختلف النشرات ووسائل الإعلام الناطقة بلسان الحكومة، يوم الاثنين، بيان خامئني، نشرت نسخته الأولى على موقعه الإلكتروني، شنّ من خلاله هجوما شديدا على السعودية داعيا “العالم الإسلامي إلى التفكير في حل لإدارتها الحرمين الشريفين وقضية الحج”، وهو يبطن بذلك مخططا لمنع إيرادات الحج والعمرة عن السعودية، التي تشكل رافدا رئيسيا، وبديلا عن النفط عند الضرورة، لتمويل مشاريع توسيع وتهيئة مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ولم يجد خامنئي، في بيانه المطول الذي أطلقت عليه وكالة تسنيم الإيرانية “نداء إلى حجاج بيت الله الحرام”، بدّا من تذكير الإيرانيين الغاضبين بحادث التدافع العام الماضي والذي أودى بحياة أكثر من 2300 شخص بينهم 464 حاجا إيرانيا.

ليست المرة الأولى التي تقع فيها مثل هذه الحوادث الأليمة بسبب التدافع خلال الحج، لكن إيران ومنذ السنة الماضية ما انفكّت تثير هذا الحادث وتحمّل الحكومة السعودية مسؤوليته في تصريحات لا تهدف إلا لتأليب العالم الإسلامي عليها.

كما استحضر المرشد الأعلى الديباجة المعتادة عند كل هجوم يشنه طرف ما على السعودية أو دولة أخرى منافسة في المنقطة، وهي تهمة “العمالة والتعاون مع إسرائيل”، حيث جدد خامنئي في بيانه مزاعم سبق أن نفتها السعودية، عن تعاقد الرياض مع شركة إسرائيلية لـ”تأمين الحجاج منذ دخولهم مطار المملكة وحتى عودتهم إلى بلادهم بأساور إلكترونية”.

مراسم “البراءة”

تسعى إيران إلى إظهار المملكة العربية السعوديـة أمام الرأي العام في العالم الإسلامي على أنها “مقصرة تجاه ضيوف الرحمن” بما يهز صورة الرياض إقليميا ويحقق لإيران مكسبا سياسيا في عدد من الملفات الأخرى، خاصة أن الحج لا تمتلكه السعودية، بل تنظمه فقط، في خطوة أكّد خبراء أنها دعوة مباشرة لتصعيد الموقف الطائفي في المنطقة والتحريض على إثارة الفتنة.

وقال محمد عبدالعاطي، رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية فـي جامعة الأزهر، لـ”العرب” إن إيران تمتلك نزعة توسعية وتستخدم التشيع رأس حربة لاختراق المجتمعات الإسلامية، بل ذهب طموحها إلى محاولة التأثير مذهبيا وسياسيا في مناسك الحج، لتحقيق تلك الأهداف.

وأضاف أن المؤامرة الحالية التي تديرها لا تقتصر على تحقيق أهداف سياسية فقط، بل الموضوع يتجاوز ذلك إلى تحقيق طموحات لم تتحقق في التاريخ الإسلامي، منها محاولة تشييع الحرمين الشريفين.

الخلافات حول مسألة الحج هي نتاج تراكم العديد من الأحداث السابقة لها، وكانت أبرزها وأكثرها خطورة أحداث مكة عام 1987

وأكد أن الحكومات والمؤسسات الفاعلة في العالم الإسلامي عليها أن تتصدى لمثل هذه المؤامرات، فالصمت لم يعد حلا مثاليا، كما أن تنامي الطموحات الإيرانية يؤدي إلى صعوبات كبيرة في التعامل بشدة وحزم مع موسم الحج في المستقبل.

وقال عبدالعاطي إن مؤسسة الأزهر في مصر تدرك هذا الخطر بالفعل، وبدأت مشاورات عدة تستهدف حماية المقدسات الإسلامية من أي تدخلات خارجية، كما أن المؤسسة في طريقها لوضع حملة دولية لتصحيح المغالطات الإيرانية.

وأعلنت هيئة كبار العلماء بالأزهر، السبت الماضي، رفضها القاطع دعوات البعض من القوى الإقليمية إلى تدويل إدارة الحرمين الشريفين في الأراضي المقدسة، واستهجانها استخدام أمور الدين والنعرة الطائفية لتحقيق أهداف سياسية. وأضافت أن هذا الطرح الغريب هو باب جديد من أبواب الفتنة يجب إغلاقه، فالمملكة العربية السعودية هي المختصة بتنظيم أمور الحج دون أي تدخل خارجي.

وتتجاوز المساعي الإيرانية للتشويش على الحج إطارها الزمني والاستراتيجي الراهن وأثره على علاقاتها مع السعودية، فقد سعت طهران منذ أيام الخميني، إلى إضفاء مراسم خاصة على مناسك الحج، تسمى دعاء “كميل” ومراسم “البراءة” و”نشرة زائر”، وهي مراسم أطلقها الخميني وألزم بها الحجّاج الإيرانيين.

ليست الأزمة الأولى

يشير باسم راشد، المحلل السياسي في المركز الإقليمي للدراسات، بالقاهرة، في دراسة له حول تسييس الحج ومقاصد إيران من ذلك، إلى أن “إعلان البراءة من المشركين” شعار ألزم المرشد الإيراني الراحل الحجاج الإيرانيين برفعه وترديده في مناسك الحج، من خلال مسيرات أو تجمعات، ويتم فيها أيضا ترديد شعارات سياسية من قبيل “الموت لأميركا” و”الموت لإسرائيل”؛ باعتبار أن الحج، من وجهة النظر الإيرانية، يجب أن يتحول من مجرد فريضة دينية تقليدية، إلى فريضة دينية سياسية.

وفضلا عن أن هذه التجمعات تُعيق حركة بقية الحجيج من دول العالم الإسلامي، فإنها تهدف إلى إبعاد الحج عن مقصده الأساسي كفريضة دينية، والعمل على تسييسه من خلال تلك الشعائر، التي اعتاد الإيرانيون على تضمينها في اتفاقية البعثة الإيرانية للحج، كل سنة، وتردّ السعودية، مدعومة بمختلف المراجع والمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، بالرفض والتحذير.

لكن السنة الماضية وهذه السنة، عمد الجانب الإيراني إلى تصعيد الموقف، واعتبار الموقف السعودي موقفا خاصا من الدولة السياسية لا من الجهات الدينية المعنية بمتابعة ملف الحج والحرص على سلامة الحجاج وأمنهم، وعلى احترام إحدى أهم الشعائر الإسلامية.

يرصد باسم راشد أن هذه الخلافات بين السعودية وإيران حول مسألة الحج ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكم العديد من الأحداث السابقة لها، وكانت أبرزها وأكثرها خطورة أحداث مكة عام 1987. وقد سبقت تلك الأحداث حوادث أخرى، ولحقتها أيضا أزمات تالية. ولعل أهم تلك الأحداث:

*أحداث موسم الحج عام 1986: عندما أحبط موظفو الأمن والجمارك السعوديون محاولة الحجاج الإيرانيين تهريب 51 كيلوغراما من مادة سي4 شديدة الانفجار التي خبأها الحجاج الإيرانيون في حقائبهم لاستخدامها في تفجير الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، كما أُثير آنذاك وأثبتت التحقيقات هذا الأمر.

*أحداث موسم حج عام 1987: وهي اشتباكات عنيفة وقعت في 31 يوليو 1987 في مدينة مكة المكرمة بين مجموعة من الحجاج الشيعة غالبيتهم إيرانيون وقوات الأمن السعودية؛ نتيجة ممارسة الحجاج الإيرانيين مراسم البراءة، ورفع شعارات سياسية معادية لأميركا وإسرائيل؛ حيث قامت قوات الشرطة والحرس الوطني بتطويق جزء من المسار المخطط للمسيرة ومنع المتظاهرين من العبور مما أدى إلى تشابك الحجاج المتظاهرين مع قوات الأمن.

وقد اشتدت حدة الاشتباك التي وصلت إلى مرحلة العنف بعد تدافع الحجاج بقوة، مما نتج عنه مقتل 402 شخص، منهم 275 حاجًّا إيرانيًّا، و42 حاجًّا من جنسيات أخرى، و85 رجل أمن سعوديًّا، فضلا عن إصابة 649 شخصا، 303 من الإيرانيين، و145 من السعوديين، و201 حاج من بلدان أخرى.

ونتيجة لتلك الأحداث الدامية، قطعت الرياض علاقتها الدبلوماسية مع إيران، وتم تقليل العدد المسموح به من الحجاج الإيرانيين من (150 ألف حاج) إلى (45 ألفا). أما طهران فقامت بمقاطعة الحج في المواسم الثلاثة التالية، إلى أن تجددت العلاقات بين الطرفين في عام 1991 بعد اتفاق يسمح للإيرانيين بممارسة فريضة الحج مرة أخرى، ووضع حدٍّ أقصى للحجاج الإيرانيين يبلغ (115 ألف حاج)، مع السماح لهم بالتظاهر، لكن في مكان واحد تُخصصه لهم السلطات السعودية. ورغم التزام الطرفين بهذا الاتفاق على مدار العقدين التاليين، فقد وقعت بعض الأحداث اللاحقة التي عكَّرت صفو ذلك الاتفاق.

*موسم حج عام 1989: حيث وقع انفجاران بجوار الحرم المكي نتج عنهما وفاة شخص وإصابة 16 آخرين، وألقت السلطات الأمنية القبض على 20 حاجًّا كويتيًّا اتضح خلال سير التحقيقات معهم تلقيهم تعليمات من محمد باقر المهري (عالم دين ووكيل المرجعيات الشيعية في دولة الكويت)، وتسلمهم المواد المتفجرة عن طريق دبلوماسيين إيرانيين في سفارة طهران في الكويت، وتمت محاكمتهم والقصاص منهم.

*موسم حج عام 1990: وقعت حادثة نفق معيصم الشهيرة في يوم عيد الأضحى، نتيجة تدافع الحجاج والزحام بينهم، ورغم اتهام البعض من الإيرانيين بإطلاق غازات سامة أدت إلى وفاة 1426 حاجا من مختلف الجنسيات فإن السلطات السعودية حينها لم تتهم أحدًا، وقالت إنه مجرد “حادث عرضي”.

*آخر تلك الأحداث حادثة تدافع منى في موسم حج العام الماضي، والتي نتج عنها مقتل نحو 2300 حاج أجنبي، من بينهم 464 إيرانيًّا، وهي أسوأ أزمة وقعت في مواسم الحج بعد أحداث 1987، والتي تستغلها إيران لاتهام السعودية دوما بعدم القدرة على تنظيم مواسم الحج، فضلا عن سعيها لتدويل القضية، ومقاضاة السعودية أمام المحاكم الدولية في مقتل حجاجها الإيرانيين.

تسييس فريضة الحج

يؤكّد الأمين العام الحالي للمجلس الإسلامي العربي في لبنان، محمد علي الحسيني، توجُّه إيران لتسييس فريضة الحج، وأن نظام ولاية الفقيه ابتكر بدعة “الحج والشعارات السياسية”.

وجاء في تصريحات للحسيني، خلال حوار مع قناة “العربية”، أن نظام طهران لديه مشروع فكري سياسي يسعى لتطبيقه على حساب دول المنطقة من خلال مد نفوذه وهيمنته فيها تحت دعاوى مذهبية وذرائع مظلومية وحجج مختلفة.

وفي ذات السياق أكّدت المشيخة الإسلامية في جمهورية البوسنة والهرسك أن نظام ولاية الفقيه يصر على الاستمرار في نهج البدع، وذلك بتسييس الحج ورفع الشعارات السياسية والتفرقة بين المسلمين في أطهر البقاع.

إعلان البراءة شعار ألزم الخميني الحجاج الإيرانيين برفعه وترديده في مناسك الحج من خلال مسيرات أو تجمعات

وقال رئيس المشيخة حسين كارزفيتش، في تصريحات نقلتها صحيفة “سبق” “كان واضحا من النظام الإيراني بعد رفضه التوقيع على محضر ترتيبات الحج (أنه يسعى) لهدف تسييس الفريضة وإبعادها عن مقصدها لأهداف لا علاقة لها بالإسلام”.

وما يؤكّد الخلفيات المسيسة لبيان رجل الدين والسياسة الإيراني، أنه جاء غداة بيان صادر عن السعودية أعلنت فيه نجاح وصول أكثر من 1129992 حاجا من مختلف بقاع العالم لأداء مناسك الحج هذا العام.

وقالت المديرية العامة للجوازات، في إحصائية لها أصدرتها الأحد، إن “عدد الحجاج القادمين عن طريق الجو بلغ 1061165 حاجا، وعن طريق البر 56184 حاجا فيما بلغ عدد الحجاج القادمين عن طريق البحر 12643 حاجا”. وكانت وزارة الحج والعمرة السعودية أعلنت عن وصول الوفود الرسمية لأكثر من 54 دولة إلى المملكة من إجمالي 75 دولة من دول العالم العربي والإسلامي وكذلك دول الأقليات الإسلامية. وأوضحت أن عدد الجنسيات المسجلة لموسم حج هذا العام بلغ أكثر من 160 جنسية من كافة دول العالم.

وأكّدت الوزارة في الوقت ذاته ترحيبها بالحجاج الإيرانيين الذين سيصلون لأداء فريضة الحج لهذا العام وبأعداد كبيرة من الدول الأوروبية وأميركا واستراليا وغيرها من دول العالم.

اكتشفت إيران أن التفجيرات لا تجدي نفعا وقد تفشل، واستخدام التوترات الطائفية عبر شيعة السعودية لا طائل منه، فقررت أن تصعّد من خطة تسييس الحج في محاولة للضغط على السعودية.

ووصل الأمر إلى حد مطالبة مسؤولين إيرانيين آخرين بتدويل الحج ورفع يد السعودية عن شؤون الحرمين في مكة والمدينة، انتهاء بالمطالبة بفصل مكة والمدينة جغرافيا وسياسيا عن السعودية نفسها. ويذهب سعيد اللاوندي، الخبير في العلاقات السياسية الدولية، إلى القول لـ”العرب” إن “المطالبات بتدويل الإشراف على الأماكن المقدسة لا يمثل رغبة إيران بمفردها، إذ أن المجتمع الدولي ليس بريئا من تلك المطالب، وهناك دول أعلنت ذلك ولكن بشكل غير صريح كالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا”.

وأكد أن تلك الدول لا تريد أن تظهر بأنها تطالب بأشياء تغضب المملكة العربية السعودية لأهداف سياسية أخرى، ولكن ليس لديها مانع في أن تظهر قوة أخرى تتبنى هذا المطلب بموافقة ضمنية منها على ذلك، على أن يتحدد موقفها بشكل علني في الوقت المناسب.

صحيفة العرب اللندنية