إرث الفساد الوطني

إرث الفساد الوطني

a0909c1c34

لو كان الكاتب العراقي الراحل عبود الشالجي حيا اليوم، لألف كتابا بعنوان موسوعة الفساد، يكون بمثابـة ملحق لكتابه الشهير، الفـريد من نوعـه “موسـوعة العذاب”.

فالفساد قديم في المجتمعات العربية. لم تُنخر مؤسسات الحكم إلا بسبب فاسدين أنتجتهم مجتمعات، صارت بسببهم تتعثر بخطاها، التي لا يمكن أن تصل إلى الطريق التي يمشي فيهـا البشر الأسوياء.

لم يصل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي إلى اختراع ماكنة الفساد العجيبة في العراق معتمدا على قدراته الذاتية.

كانت هنـاك خبرات متوارثة، حاول النظام الوطني الذي كان يحكم العراق بقبضة حديدية أن يضبطها، فتسربت إلى معارضته.

كانت المعارضة العراقية فاسدة حين قررت تقاسم الدولة على أساس عرقي وطائفي، وهي تقصد من وراء ذلك تقاسم ثروات البلد في ما بينها على أساس نسبة السكان الذين تمثلهم.

أما في سوريا فإن نظام الرشوة كان معمولا به منذ عقود طويلة، بحيث أن المواطن السوري كان مجبولا على دفع الرشوة في سياق تعامله مع مؤسسات الدولة.

ذلك الصلح مع الفساد إنما يشير إلى قوته التي أدت إلى تطبيعه. لذلك لم يكن متوقعا من الواقع السوري سوى أن ينتج معارضة فاسدة. ما كان يمكن أن تقوم معارضة غير فاسدة وتنجح في استمالة الشعب.

أثناء السنوات التي مرت مـن عمـر الحـرب السـوريـة اتخـذ الفسـاد أشكـالا شتى، استخـرج المستفيـدون منهـا أمـوالا مـن الهواء، سواء كانوا موالـين أم معـارضين. لذلك يجد هؤلاء وأولئك في استمرار تلك الحرب القذرة استمرارا لتدفق الأموال إلى خزائنهم الشخصية.

في ليبيا ألغى معمر القذافي الدولة فصار فئران جماهيريته يلتهمون ما يفيض من مائدته، وهو الذي كان شديد الحرص على إفساد حركات التحرر الوطني عبر العالم من خلال مزجها بالمنظمات الإرهابية التي تحظى بهباته السخية.

لقد تربت أجيال من الليبيين على تلك الآلية في العطاء الذي يستند إلى مزاج شخصي، فلم يكن غريبا أن يتقاتل الليبيون في ما بينهم، بهـدف الاستيـلاء على ثـروة قتل صاحبها الوحيد، الذي هو معمر القذافي.

قتالهم دليل على موافقتهم السابقة على ملكية القذافي لتلك الثروة. وهو ما يعني أن القذافي نجح في تطبيع الفساد. لم يكن القـذافي يرى ليبيـا ولا شعبها. وهـو ما يفعله اليوم ورثته الذين يدّعون أنهم ثاروا عليه. ربما يصاب المرء بالإغماء حين يتعلق الأمر بالفساد في مصر.

عبّر ذلك الفساد عن نفسه من خلال نكسات مصيرية شكلت محطات في تاريخ الشعب المصري، بحيث صـارت أشبه بالزلازل.

من الأسلحة الفاسدة في حرب العام 1948، إلى صفقة الغاز مع إسرائيل، مرورا بحرب العام 1967 التي أخرجت جمال عبدالناصر من ثياب البطل القومي المنقذ كان الفساد يتسلى في قطف حصاده من القيم الأخلاقية التي كانت تحفظ للمصريين توازنهم في مواجهة كوارث الطبيعة.

ليس مهما هنا مَن أفسد الآخر، المجتمعات أم الأنظمة؟

أعتقد أن الأمر المهم يكمن في أن المجتمعات العربية وقد ابتليت بالفساد من خـلال تطبيعـه لن تكـون قـادرة بقوتها الذاتية على محاربته ومنعه من ابتلاع مستقبلها.

لا أحد في إمكانه أن ينكر أن الفساد كان مرحبا به يوما ما من قبل المجتمعات العربية. كان العراقيون يتسابقون في ما بينهـم على مكرمـات القـائد صدام حسين، ولم يكـن لديهم أي شـك في ما يمكن أن يشكلـه ذلك السلـوك من خـرق فاضح للحقوق.

مؤلمة صورة المثقفين وهم يقفون مصطفين في انتظار العطايا. إن علاقة المجتمعات والأنظمة العربية بالفسـاد هي أشبه بمتاهة البيضة والدجاجة.

فهل أنتجت مجتمعاتنا أنظمة فاسدة زادت من فسادها؟ أم أن الأنظمة استطاعت أن تنشر الفساد في المجتمعات الخاضعة لها وصولا إلى درجة تطبيعه؟

من اليسير أن تحمل الأنظمة أعباء كل شيء في ظل التغاضي المريب عن ثقافة المجتمعات العربية، التي يمكن أن تكون حاضنة لكل أنواع الفساد. وهو ما لا ينفع في معالجة ذلك المرض الفتاك الذي يُسمى الفساد.

فاروق يوسف

نقلا العرباللندنية