ملفات مضغوطة: لماذا تصاعدت ظاهرة “صراع الرئاسيات” في بعض دول الإقليم؟

ملفات مضغوطة: لماذا تصاعدت ظاهرة “صراع الرئاسيات” في بعض دول الإقليم؟

4902

باتت ظاهرة صراعات السلطة أو الرئاسة حاكمة لغالبية التفاعلات داخل بعض دول الشرق الأوسط، سواء تلك التي تعاني من الصراعات المسلحة أو حتى التي تشهد حالة من الاستقرار النسبي، على نحو ما يبرز جليًّا في جنوب السودان وليبيا وتونس واليمن ولبنان والعراق وأفغانستان، حيث تُساهم عدة أسباب في نشأتها، من أبرزها، تباين الخلفيات الفكرية للنخب الحاكمة، والتدخلات الإقليمية في الصراعات الداخلية، وطبيعة الترتيبات السياسية التي تشهدها بعض الدول، وتعدد مراكز القوى في عدد منها، علاوةً على تزايد نفوذ ممثلي الأنظمة السابقة. وتظل حالةُ الاستقرار السياسي والمجتمعي مرهونةً بالقدرة على تسوية هذا النمط من الصراعات الذي تحوّل إلى ما يشبه “الملف المضغوط” الذي يتضمن تعقيدات لا نهاية لها.

ظاهرة منتشرة:

تواجه العديد من دول الإقليم صراعات على السلطة والقيادة على مستويات مختلفة، ويأتي في مقدمتها جنوب السودان، حيث تعدى الصراع بين الرئيس سيلفا كير ونائبه السابق رياك مشار مرحلة الخلاف السياسي ليصل إلى مواجهات مسلحة بعد محاولة الانقلاب العسكري التي وقعت في ديسمبر 2013 وزعم سيلفا كير أن رياك مشار هو من يقف وراءها، واندلع على إثرها صراع عسكري لم يتوقف فقط عند حد الانشقاق السياسي، وإنما توسع أيضًا ليشمل أبعادًا عرقية وإثنية بعد تدخل عناصر قبيلة “الدينكا” التي ينتمي إليها كير، وعناصر أخرى من قبيلة “النوير” التي ينتمي إليها مشار. ويبدو أن الصراع بينهما يسير في اتجاه تصاعدي بعدما أعلن كير إقالة مشار من منصب نائب الرئيس في 25 يوليو الفائت، وتعيين تعبان دينق محله.

وفي ليبيا أيضًا، يبدو أن صراعًا جديدًا قد نشأ من شأنه أن يؤدي إلى مزيدٍ من التعثر في إقرار السلام فيها، ويمثل طرفه الأول المجلس الرئاسي بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج، فيما يمثل طرفه الثاني القوات المسلحة التي يقودها اللواء خليفة حفتر ونسبيًّا رئيس البرلمان عقيلة صالح، حيث رفض حفتر الاعتراف بحكومة الوفاق الوطني التي يشكلها السراج أو حتى الانضمام لها، لكونها لا تزال غير شرعية باعتبارها لم تحصل على موافقة البرلمان، كما أعلن مع عقيلة صالح رفضهما لمساعي السراج لإعادة دمج الميلشيات في القوات المسلحة، لما يمكن أن يكون لذلك من تأثيرات سلبية على بنية القوات المسلحة، وخوفًا من اختراق الجيش من قبل تلك التنظيمات.

ويبدو أن السراج يدرك أن حفتر لا يزال يمثل طرفًا مهمًا في المشهد السياسي في ليبيا، وهو ما دفعه إلى الإعلان عن عدم وجود نية لإقصاء حفتر من قيادة الجيش، لكنه -في الوقت ذاته- وضع شرطًا يتعلق بالتزامه بقرارات القيادة السياسية. ورغم أن بعض الأطراف سعت إلى التوسط بين الطرفين إلا أن ذلك لا ينفي أن الأزمة السياسية ما زالت مستمرة حتى الآن دون بروز مؤشرات تزيد من احتمالات الوصول إلى تسوية قريبة بشأنها.

ولعل تونس أيضًا تُعد إحدى حالات الصراع على قيادة المشهد السياسي، ووضح ذلك بعد نشوب صراع بين البرلمان التونسي من جانب، ورئيس الوزراء السابق الحبيب الصيد من جانب آخر، أسفر في النهاية عن انتصار واضح للبرلمان الذي استطاع الإطاحة بالصيد، وهو ما دفع الرئيسُ التونسي الباجي قايد السبسي إلى تكليف يوسفَ الشاهد بتشكيل الحكومة.

هذا، بالإضافة للحالة اليمنية التي لا تزال تمثل نموذجًا للصراع على السلطة بين الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح المتحالف مع الحوثيين، والسلطة الشرعية المعترف بها من قبل المجتمع الدولي المتمثلة في الرئيس عبدربه منصور هادي، لا سيما بعد تشكيل صالح والحوثيين لمجلس سياسي أدى إلى تعثر المفاوضات السياسية في الكويت.

كما شهدت أفغانستان تجربة صراع مماثلة في الفترة الماضية، بين المرشحين اللذين خاضا جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية الأفغانية، وهما أشرف غني، وخصمه عبدالله عبدالله، حيث رفض الأخير نتيجة الانتخابات، مما كاد أن يدخل البلاد في فاصل جديد من الصراع في وقت تعاني فيه من صراعات عديدة. لكن يبدو أن أفغانستان قد استطاعت تجاوز ذلك الصراع عن طريق الاعتماد على نمط “اتفاقات تقاسم السلطة”.

ففي ذروة الخلاف بين الطرفين، تم التوقيع على اتفاق يُرضي جميع الأطراف، والذي نص على أن المرشح الفائز في الانتخابات سيتولى رئاسة أفغانستان، بينما يتولّى الفائز الثاني المنصب التنفيذي الذي يكون بمثابة رئيسًا للوزراء، مع نقل حزمة من صلاحيات الرئيس الأفغاني إليه، علاوةً على تقاسم المناصب السيادية في الحكومة بين المرشحين على حد سواء، فضلا عن استحداث منصب رئيس المعارضة في البرلمان الأفغاني الذي سيتولاه أحد القياديين في معسكر الفائز الثاني من بين المرشحين للرئاسة، وهو ما تمخض عنه تولي أشرف غني الرئاسة، وعبدالله عبدالله منصب رئيس الوزراء، مما جنب البلاد صراعًا كان يمكن أن يؤدي إلى مزيدٍ من التمزق في البلاد.

أسباب متعددة:

كشف واقع التحولات والترتيبات السياسية التي يشهدها عدد من دول الإقليم عن وجود حزمة من الأسباب التي تمثل قوة دفع نحو نشأة الصراع على السلطة أو القيادة. وفي هذا الإطار، يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:

1- تباين الخلفيات الفكرية والعملية للنخب الحاكمة: ترجع غالبية الصراعات الناشئة لوجود حالة من التباينات الفكرية للنخب السياسية، وهو ما يتجلى بقوة في حالة ليبيا بين الفريق الذي يقوده اللواء خليفة حفتر والفريق الذي يتزعمه فايز السراج، حيث تتباين رؤية الفريقين تجاه العديد من القضايا، وأبرزها إشكالية دمج الميليشيات في القوات المسلحة، وهو الوضع ذاته في حالة جنوب السودان، إذ مثل اختلاف التوجهات السياسية بين كل من سيلفا كير ورياك مشار في تصعيد حدة الصراع بين الطرفين.

2- طبيعة الترتيبات السياسية: ففي حالات مثل تونس، لعب نمط تشكيل الحكومة ذاته دورًا كبيرًا في نشأة الصراع بينها وبين البرلمان. فعلى الرغم من أن الدستور التونسي يُعطي الحق للرئيس بأن يكلف الحزب الحاصل على أعلى عدد من المقاعد في البرلمان بتشكيل الحكومة، وهو حزب “نداء تونس”، إلا أن الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي لم يطبق تلك المادة، وكلّف شخصية غير حزبية بتشكيل الحكومة تمثلت في الحبيب الصيد في محاولة لخلق حالة من التوافق الوطني مع الأطراف السياسية الأخرى خاصة حركة “النهضة” التي حلت في المرتبة الثانية في الانتخابات البرلمانية. لكن هذه الآلية أدت في النهاية إلى تشكيل حكومة ضعيفة ليس لديها ظهير برلماني قوي يستطيع دعم تحركها ومساعدتها، أو حتى الدفاع عنها إزاء أية انتقادات توجه لها من قبل المعارضة البرلمانية. وقد أسفر ذلك عن حالة صراعية انتهت بانتصار البرلمان.

3- تعدد مراكز القوى في بعض الدول: فقد نشأت مراكز قوى جديدة في بعض دول الثورات العربية، حيث سعى كل طرف منها للسيطرة على قيادة المشهد السياسي. ففي ليبيا، ساعدت عمليات محاربة الإرهاب بقيادة اللواء حفتر على بروز دور رئيسي للنخب العسكرية، في الوقت الذي أدركت فيه كافة الأطراف أن الصراع يحتاج لحل سياسي، مما استدعى أيضًا ضرورة حضور النخبة المدنية على الساحة التي تمثلت في المجلس الرئاسي بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج، وهو ما دفع باتجاه اتساع نطاق الصراعات التي اندلعت بين الطرفين.

4- التدخلات الإقليمية في الصراعات الداخلية: تحولت الأدوار الخارجية التي تمارسها بعض القوى الإقليمية إلى أحد أسباب تصاعد حدة الصراعات الداخلية في بعض الدول، ويتجلى ذلك بوضوح في حالة اليمن؛ حيث تقدم إيران دعمًا سياسيًّا ولوجستيًّا لتحالف علي عبدالله صالح مع جماعة “أنصار الله” الحوثية في مواجهة السلطة الشرعية، وهو ما مثل أحد أسباب استمرار الصراع في اليمن.

وخلاصة القول، إن استمرار نمط صراعات السلطة قد بات يشكل خطرًا حقيقيًّا على بنية عدد من دول الإقليم، لما يفرضه من حالة عدم استقرار سياسي ومجتمعي، علاوةً على حالة عدم اليقين وغياب الثقة بين كافة الأطراف، والتي وصلت إلى حد الصراعات الممتدة في العديد من الحالات، خاصة في جنوب السودان واليمن وليبيا، والتي أسفرت عن دمار شبه كامل للبنية التحتية، وتراجع اقتصادي حاد، وعدم استقرار سياسي مزمن، فضلا عن حالة التمزق المجتمعي التي تُنذر بانهيار شامل وارد حدوثه في المستقبل القريب.

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية