واشنطن ما بعد أوباما

واشنطن ما بعد أوباما

349
تترقب كل الأطراف المؤثرة في الشرق الأوسط نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد 60 يوماً. يراهن المتريّث، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على دونالد ترامب. يلعب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الوقت الضائع. وتنتظر المعارضة السورية خشبة خلاص هيلاري كلينتون. تنتظر الملفات من اليمن إلى ليبيا انتقال الرئيس أو الرئيسة إلى البيت الأبيض لتتكدّس على المكتب البيضاوي، بانتظار حسم أميركي قد لا يأتي.
أخطر ما في واشنطن هذه الأيام اقتناع نُخبها الحاكمة أو المؤثرة بأنه يمكن العودة بمستويات التدخل الأميركي في المنطقة إلى ما قبل باراك أوباما، ورفضها أي تلميح بأن الدور الأميركي تراجع في الشرق الأوسط. صحيح أن هذه “القوة العظمى” لا تزال قادرةً على إقامة تحالفات دولية، وفرض عقوبات مالية، وتحليق طائرات بدون طيّار متى تشاء لاستهداف إرهابيين، واختيار حلفاء محليين لإمدادهم بالغطاء الجوي، تستطيع ذلك كله، لكنها تقف عاجزة أمام التطورات الإقليمية المتسارعة، وتتعرّض لمضايقات متقطعة من حلفائها، كما خصومها.
ذريعة هذا العجز الأميركي هو عقيدة “القيادة من الخلف” لأوباما التي تخلّت عن تعزيز أدوار حلفاء واشنطن، وتركت فراغاً في الشرق الأوسط، وبالتالي، الافتراض أن هذا الانحسار كان طوعياً، وليس نتيجة ظروف موضوعية. بغض النظر عن مضمون سياسة أوباما، وما يتركه هذا النقاش من تذمر في المنطقة، ربط الانحسار الأميركي بوجوده في الحكم قراءة ناقصة لتحولات الداخل الأميركي منذ عام 2009.

خلال السنوات الأخيرة، رفض الرأي العام الأميركي بشكل منتظم كل طروحات التدخل الخارجي في كل الاستطلاعات الوطنية. اعتبر 70% في استطلاع شبكة “سي إن إن” في سبتمبر/ أيلول 2013 أن أي ضربات جوية أميركية في سورية لن تحقق أهدافها، وأن التدخل في الحرب السورية لا يخدم المصالح الأميركية. بحسب استطلاع “راسموسن” في مارس/ آذار الماضي، 58% مع ترك الأمور كما هي في الشرق الأوسط، وعدم التورط فيه على المدى الطويل أو محاولة بناء مؤسساته. هذا التعب الأميركي من الشرق الأوسط زادت وتيرته منذ عام 2011، ما أدى إلى ثلاث لاءات لمقاربة واشنطن الإقليمية: لا لدعم السعودية في المواجهة مع إيران، لا لدخول طرفٍ في الحروب الداخلية لبلدان المنطقة، ولا لانتشار قوات برية أميركية تكون بديلةً لأدوار محلية وإقليمية مطلوبة.
مع تراجع الهم الاقتصادي عند الأميركيين وبروز ظاهرة ترامب، نرى الآن بروز تحالف بين صقور السياسة الخارجية عند الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، خلف هيلاري كلينتون، في وقت اختارت فيه القاعدة الجمهورية بشكل حاسم الانعزالية التي تبناها ترامب، فيما القاعدة الليبرالية متوجسة من ميل كلينتون إلى التدخل الخارجي.
يعطي المشهد الانتخابي الحالي صورة أولية عما يمكن توقعه في واشنطن 2017. ترامب في البيت الأبيض يعني مواجهة مفتوحة ليس فقط مع الكونغرس، بل مع الحزب الجمهوري الذي يمثله؛ الإدارة الأميركية ستكون في نزاع داخلي مستمر، وستكون كلمة الفصل فيها لعائلته أو حلقته الضيقة. وإذا ما قرّر ترامب تنفيذ طروحاته المثيرة للجدل في إدارة الحكومة الفيدرالية سيعجز عن الحكم أبعد من المكتب البيضاوي. رؤساء سابقون بالطباع نفسها، مثل جون آدامز في القرن التاسع عشر، عاشوا في عزلة، وخدموا ولاية واحدة فقط.
تحدّي هيلاري ليس فقط في إعادة إنتاج مصداقيتها، بل في قدرتها على التوازن بين غريزة التدخل عندها وهذا المزاج العام الأميركي، بين غزوات جورج بوش الابن وتراجعات باراك أوباما. إذا فكّت الارتباط عن إرث أوباما ستظهر بسرعة أصوات مناهضة لها من داخل حزبها، وقد تجد نفسها أقرب إلى قيادات المؤسسة الحزبية الجمهورية. لدى جيش المستشارين الذي يحيط بهيلاري من مراكز الأبحاث في واشنطن توق للعودة إلى السلطة، بعدما وضعه أوباما على مقاعد الاحتياط ثماني سنوات. لا يزال هؤلاء يحملون الأفكار نفسها التي تفترض أنه لا بد من إعادة الحيوية إلى دور أميركا الإقليمي عبر تجديد الدعم القوي للحلفاء وردع الخصوم، على الرغم من كل التحوّلات الاستراتيجية منذ عام 2011 التي أسقطت المظلة الإقليمية العربية التي حمتها واشنطن عقوداً.
مهما كانت هوية الرئيس الأميركي العتيد، لن تختلف واشنطن عام 2017 كثيرا عن نسخة عام 2016. قد يتغيّر الأسلوب لكن القيود الداخلية والخارجية هي نفسها. هناك من يحاول في واشنطن وخارجها أن يصوّر الصراع الدائر على السلطة بأنه مواجهةٌ بين انعزالية ترامب وعالمية كلينتون. قد يكون هذا صحيحاً، لكن نظرة أميركا إلى القضايا الخارجية هي مجرّد تفصيل اليوم. ما هو على المحك في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل هو مستقبل الحزب الجمهوري وإرث باراك أوباما وميزان القوى في واشنطن عقوداً مقبلة.

جو معكرون
صحيفة العربي الجديد