الخرافة والغيبيات.. مشروع استثماري وسياسي في طهران

الخرافة والغيبيات.. مشروع استثماري وسياسي في طهران

_89815_iran3

يستند سلطان نظام الحاكم في إيران على الخرافة والغيبيّات عوضا عن استناده على العمل الجاد والهادف إلى تحقيق الرخاء والرفاهيّة للشعب. وفي تمسكّه بالخرافة والغيبيّات، يستخدم النظام الترويج والدعاية والنار والحديد والتهديد والوعيد في آن واحد، ويخصّص لذلك ميزانيّات ضخمة خارجة عن الرقابة ولا علاقة للبنك المركزي والصندوق القومي بها، أيّ أنّها تقطع من أرزاق الشعب وتستخدم إمّا لقمعه وإما لزجّه في عالم الخرافة والغيبيّات.

ويؤكّد هذا التوجه القائم على تكبيل المجتمع بالخرافات، الارتفاع غير المسبوق في أعداد الأضرحة، ففي حين كان عدد جميع الأضرحة ألفا وخمسمئة ضريح قبل حكم الخميني عام 1979، فإن هذا العدد ارتفع اليوم بقرابة السبعة أضعاف ليبلغ عشرة آلاف وخمسمئة ضريح، أي بمعدّل ثلاثمئة ضريح يقام كلّ عام في مناطق مختلفة من إيران؛ وتقع غالبيّة الأضرحة إمّا في أصفهان وإما في شماليّ البلاد، حيث أن خمسة آلاف منها تنسب إلى الإمام السابع لدى الشيعة الإثني عشريّة، وهو موسى الكاظم ابن جعفر الصادق. ومن بين الأسباب الكامنة وراء تواجد هذا العدد الكبير من الأضرحة أنه في بعض الأحيان تمرّ المشاريع الحكوميّة من البعض من المناطق المأهولة بالسكّان وخصوصا القرى، حيث أغلب الناس غير متعلمين.

حرب القبور

خمسة آلاف مزار تنسب إلى الإمام السابع لدى الشيعة الإثني عشرية، موسى الكاظم ابن جعفر الصادق

يتطلّب المشروع إزالة عدد من المنازل والقرى لإقامته، لكن عوضا عن دفع التعويضات الماليّة للسكّان أو توفير مساكن وأراض زراعيّة لهم، يتم إيهامهم بأنّ الجرّافات عثرت على حجر قديم يعود إلى ضريح أحد أحفاد الإمام موسى الكاظم فيشيّد له مزار في المنطقة وترافقه ضجّة دعائيّة ضخمة ومنظّمة من قبل السلطات يسارع الأهالي إلى تصديقها.

إلى جانب الأرباح الطائلة التي تجنيها الدولة من الأضرحة التي تُرمى لها مبالغ كبيرة من قبل الزائرين وتستولي عليها وزارة الأوقاف في ما بعد، توظّف الأضرحة لخدمة المشروع الطائفي التوسّعي الإيراني في العراق الذي شهد هو الآخر ارتفاعا في نسبة الأضرحة التي شيّدتها إيران، كما في سوريا التي أقامت فيها إيران أربعة أضرحة تحيط بمدينة دمشق من الجهات الأربع بعد العام 1980 إبّان حكم حافظ الأسد، بدءا بما يسمّى بمقام السيّدة زينب ثم بنات الحسين الثلاث، رقيّة وسكينة وأم كلثوم، وانتهاء بقبر خالد بن الوليد وعدي الكندي بمدينتي حمص ودمشق، وكان نبشهما بمثابة الإعلان عن الحرب الطائفيّة وحرب القبور التي تشنّها إيران في الوطن العربي.

ولا تنتهي الخرافة الإيرانيّة عند الأضرحة الاصطناعية بل تتواصل مع آثار الأقدام الوهميّة، كآثار قدم الإمام الثامن علي بن موسى الرضا التي بقيت شاخصة في التراب رغم أنه مر عليها أكثر من ألف ومئتي عام وفقا لرواية إيرانيّة، أو آثار أقدام الخميني وكذلك الأماكن التي هبطت فيها المروحيّة التي كانت تقلّه من مكان لآخر، بمعنى أنّ نائب الإمام يسير على الأرض فيترك آثار أقدامه على غرار الأسلاف.

إضافة إلى الخرافة، يعتمد النظام الإيراني الرسمي كثيرا على “الغيبيّات“ التي يستمد منها سلطته ويبرر من خلالها استبداده في الكثير من الحالات، وأوّل الغيبيّات يكمن في ما يسمّى بـ”المهدي المنتظر” أو “الإمام الغائب“، إذ يُروّج للحاكم في إيران على أنّه الوحيد الذي يمتلك الحكمة والفقه والعلم والمعرفة وكل هذا بفضل الغائب كون الحاكم يعد نائبا له وخليفته في الأرض، وبما أنّ المهدي معصوم من الخطأ وفقا للرواية الإيرانيّة، فلا شك أنّ نائبه أيضا يتمتّع بالعصمة.

وإلى جانب الكتاب الذي وزّع في طهران وقُم وعدد من المدن الإيرانيّة الكبرى والذي يؤكّد عصمة المرشد الأعلى الحالي آية الله علي خامنئي، فإنّ مراجع شيعة إيران وخطباء الجمعة، هم أيضا يروّجون لعصمة المُرشد، حيث يؤكّد أحمد علم الهدى مندوب خامنئي وخطيب جمعة مدينة مشهد أنّ “المجنون والعدوّ فقط هما من ينكران عصمة خامنئي”. ويرى علم الهدى أنّه لا أحد في إيران يمكنه طرح الرأي المخالف لرأي خامنئي، بما في ذلك مجلس خبراء القيادة نفسه الذي يفترض أن يتولّى مهمّة الإشراف على أداء عمل المرشد وكافة المؤسّسات التابعة له.

ويحضر “الغائب” في الدستور الإيراني ليمنح صلاحيات مطلقة ولا حدود لها لما يسمّى بوليّ الفقيه، فالمادة الخامسة من الدستور تؤكّد أنّ “إمامة الأمّة وولاية الأمر هما بيد الولي الفقيه العادل والشجاع والبصير في زمن غيبة المهدي“، إضافة إلى ما تنصّ عليه المواد الدستوريّة الأخرى من صلاحيّات مثل رد أو قبول صلاحيّات مرشحيّ الانتخابات الرئاسيّة والتوقيع على حكم رئيس الجمهوريّة وعزل وتعيين رؤساء السلطة القضائيّة والإذاعة والتلفزيون ورئيس الجمهوريّة وقيادة الأركان المشتركة والقيادة العليا للشرطة والجيش، وكذلك مجلس صيانة الدستور.

“الغائب” يحضر في الدستور الإيراني ليمنح صلاحيات مطلقة ولا حدود لها لما يسمى بولي الفقيه

وبذلك تلغي المادّة الخامسة من الدستور، جميع المواد الأخرى مهما بلغ سموّها، إذ يتربّع الوليّ الفقيه وحاشيته ومندوبوه على عرش الغائب، ولكن في الأرض لا في السماء، لينالوا جميعا الألقاب والصفات المبجّلة التي تمنحها الشرائع الإيرانيّة للأئمّة وعلى وجه الخصوص المهدي، معلنين بذلك سحق رأي العامّة على يد الذين عيّنوا أنفسهم بمكانة الخاصّة والمعصومين مروّجين إلى إمكانيّة الاعتقاد بالإمام الخفيّ رغم عدم رؤيتهم له.

عصمة المرشد

ومن الغيبيّات الأخرى التي يستمد حكّام إيران منها سلطتهم العليا على الشعب، نجد “روح الخميني” أو “نهج الخميني”، وعصمة روح الخميني عند النظام الإيراني تفوق في مكانتها حتى مكانة الخميني نفسه، وتحرّم أيّ انتقاد للنظام الحاكم الذي يسير على نهج الخميني، إذ أنها تمنع أيّ إصلاح أو تغيير حتى بعد مرور نحو 27 سنة من غيابه.

قد يتجرأ البعض على نقد الخميني خلال حياته، ولكن لا يتجرأ أحد اليوم في إيران على توجيه أي نقد للخميني بعد مماته، فروح الخميني يحملها ويحتمي بها “جنود صاحب الزمان المجهولين”، وفقا لتسميتهم في إيران، ليفعل هؤلاء الجنود ما يشاؤون من أعمال قتل ومداهمات واعتقال وتعذيب وتنكيل بكل من تساوره نفسه رفض طاعة روح الخميني.

ونجد غيبيّات أخرى يعيش منها حكّام إيران مثل “الشهداء” و”الأمة الإسلاميّة“، وكلّها مفاهيم يوظفها النظام لتبرير جرائمه، فخطباء الجمعة وقادة النظام يقولون ويفعلون

ما يشاؤون باسم الشهداء، ومن السهل جدا إباحة قتل الآخرين واعتبارهم كفّارا وخونة باسم الشهداء، ولا تزال أرواح “الشهداء” وفقا للنظام، تقاتل

وتقتل ولكن هذه المرّة ليس على الحدود وضدّ من تعتبره إيران عدوّا خارجيّا، بل في الشوارع. وتتشدّق إيران بالأمّة الإسلاميّة والدفاع عنها أولا للحفاظ على النظام وإطالة عمره وثانيا لتبرير مشروعها التوّسعي، ومن الأدوات التي تستفيد منها طهران لتحقيق هذا المشروع الخرافات والغيبيّات.

عباس الكعبي

صحيفة العرب اللندنية