دبلوماسية الإدارة الأمريكية ومعركة الموصل

دبلوماسية الإدارة الأمريكية ومعركة الموصل

a914cd64-3f85-46e4-a55c-4f89bccf90a4_cx0_cy8_cw0_w987_r1_s_r1

في إطار استعداد إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لمعركة الموصل ضد تنظيم داعش، وفي إطار الزيارات غير معلن عنها مسبقاً أيضا لمسؤوليها الدبلوماسيين والعسكريين في عراق بعد ظهور تنظيم داعش في حزيران/يونيو عام 2014م، وصل يوم الثلاثاء الماضي نائب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى العراق من أجل لقاء المسؤولين العراقيين، ومحاولة مناقشة المستجدات السياسية والاقتصادية والإنسانية والأمنية وتفعيل العلاقات الثنائية بموجب اتفاقية الإطار الاستراتيجي. ويرافق أنتوني بلينكن، بريت مكوريك المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، ومدير مجلس الأمن القومي لشؤون العراق جوزيف هاريس، ووكيل وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى جوزيف بيننغتون. ويزور أنتوني بلينكن اليوم، الخميس إقليم كردستان العراق، يلتقي خلالها مسعود بارزاني رئيس إقليم كوردستنان العراق وعددا من كبار المسؤولين في الحكومة المحلية لمواصلة المباحثات بشأن الجهود المبذولة من قبل قوات البيشمركة في محاربة داعش والتنسيق من أجل مواصلة الدعم لها.

يكشف الحراك الدبلوماسي الأميركي الكثيف صوب بغداد بالتزامن مع الاستعدادات الجارية لإطلاق المرحلة الحاسمة من معركة استعادة مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى من تنظيم داعش، عن مدى اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بتلك المعركة وسعيها للإمساك بزمام المبادرة فيها نظرا لأهميتها في تحديد مصير العراق ورسم خارطة النفوذ داخله في مرحلة ما بعد التنظيم داعش.

  ومن جملة ما تهدف إليه الولايات المتحدة الأمريكية من زيارة وفدها الدبلوماسي للعراق تأكيد دعمها لحكومة حيدر العبادي وتأييدها لحزمة الاصلاحات التي يقوم بها، ودعمها أيضاً لملف المصالحة الوطنية في العراق. فزيارة الوفد الدبلوماسي الأمريكي تأتي في الوقت الذي يفتقر فيه حيدر العبادي للدعم الداخلي حتى من تحالفه الوطني، إذ أخفق لغاية الآن عمليا في تشريع أي من حزمة الإصلاحات التي كان قد أعلن عنها خلال هذا العام الحالي. ومن مصلحة إدارة الرئيس باراك أوباما الحفاظ على تماسك نظام الحكم القائم في العراق تسهيلا لمعركة الموصل المرتقبة ضد داعش.

وفي مؤتمره الصحفي الذي عقده أنتوني بلينكن في مقر السفارة الأمريكية في بغداد يوم الأربعاء الماضي، أعلن أن الولايات المتحدة، والقوات العراقية، بالشراكة مع قوات “التحالف الدولي”، تمكنت من استعادة 50% من المناطق التي كانت بحوزة تنظيم “داعش” الإرهابي. وقال أنتوني بلينكن: “قبل عامين كانت كل من بغداد واربيل في خطر من داعش، والآن، وبفضل شراكة التحالف الدولي مع القوات العراقية، تم استعادة 50%من الاراضي من سيطرة داعش”، لافتا إلى أن عدد النازحين الذين عادوا لديارهم بلغ مليون شخص. وأشار إلى أن الولايات المتحدة ستقدم 181 مليون دولار للجهد الانساني في العراق (لم يحدد متى)؛ ليكون حجم المساعدات الانسانية المقدمة من إدارة الرئيس باراك أوباما إلى بغداد منذ ظهور تنظيم داعش عام 2014، مليار دولار أمريكي. وتوقع أن ينزح أكثر من مليون شخص من الموصل والمناطق المحيطة بها عند بدء المعركة المرتقبة لاستعادة مدينة الموصل من “داعش”. وأضاف: “داعش يندحر والجهود تتركز حول حملة الموصل”، مرجحا أن تتحول عناصر هذا التنظيم الإرهابي إلى “خلايا نائمة وبعض المجاميع بعد تحرير جميع الأراضي العراقية من سيطرته”.

وهذا التصريح من المسؤول الأمريكي تتوافق إلى حد كبير مع معظم التحليلات السياسية الأمريكية التي ترى أنّ تنظيم داعش سيستمرّ في “إلهام” الإرهاب كفكرة لها تداعيات مميتة. ربما لكي يضمن استمرار الترسانة الفكرية التي يقوم ببنائها رغم خسارة أراضيه، نشر التنظيم تعليقات طويلة وكتيّبات في الإرشاد الديني تزامناً مع تعرّضه لكبرى هزائمه على مدى الأشهر القليلة الماضية. لهذا فإنّ فكرة الخلافة المنتظرة سوف تستمرّ في إلهام الهجمات حتى لو لم تكن هناك أي خلافة. ولن يختفي تنظيم داعش من دون مَعقليْه في الرقة في سوريا والموصل في العراق، ولكنّه سيتجزّأ إلى فروع وأراضي إرهابية. فبإمكان جيوب داعش أن تعيد تنظيم صفوفها في مناطق غير مستقرّة في المنطقة، كما سبق وأن تبيّن ذلك في ليبيا، أو تثير المشاكل في أماكن ذات وقع رمزي، كتركيا والسعودية. بالإضافة إلى ذلك، قد تُسوّق هذه الفروع أنفسها على أنّها أكثر أصولية من تنظيم داعش الذي كان يحتفظ بأراضي، لكي تنال شعبية في أوساط الإرهابيين.

ومع ذلك، سيختلف تنظيم داعش عن جماعات التابعة لـ تنظيم «القاعدة» في قدرته على إلهام هجمات فردية، وهي استراتيجية ترويج فريدة من نوعها ابتكرها عن طريق إنشاء مجموعة من القواعد المكتوبة، ليس حول العنف فحسب بل حول أكثر الجوانب الدنيوية لتعريف التنظيم الحصري للإسلام. وبينما ستتعثّر الاستراتيجية المتعَمّدة لـ تنظيم «داعش» لبناء دولة الخلافة الاقليمية، إلا أن استراتيجيته الناشئة ستركز بشكل أكبر على كيفية إدارة صورته والترويج لها. وفي الوقت نفسه، ستزيد الجماعات الإرهابية المتفرّعة من تركيز تنظيم داعش على حشد أتباعه في الغرب والشرق الأوسط من أجل إلهامهم لتنفيذ هجمات في الخارج ضد أهداف طائفية وغربية مختارة. وستبارك قيادة الجماعة أي نشاط يُنفّذ وفق المبدأ التوجيهي الأوسع نطاقاً لـ تنظيم «داعش»، وهو “البقاء والتوسّع”. فصمود فروع تنظيم داعش وتوسّعها المقترنان بأفراد “يصبحون متطرفين ذاتياً” في الغرب، سوف تعزز رواية القتال نيابة عن المُثل الأسمى لخلافة تنظيم «داعش» بهدف إنشاء “خلافة ثانية” في أي موقع يقدّم أفضل مزيج من عدم الاستقرار الإقليمي والروح الرمزية – مثل سوريا أو ربما حتى تركيا و/أو المملكة العربية السعودية في ظل الظروف المناسبة. إذن ووفق هذه التحليلات الأمريكية التي تنسجم أو تتناغم مع تصريحات المسؤولين الأمريكيين فإن الإنسانية في مرحلة ما بعد الحداثة على موعد مع بعد القضاء على تنظيم داعش في العراق وسوريا، تنظيم داعش جديد.

وقال سليم الجبوري رئيس مجلس النواب العراقي بحسب بيان أصدره إثر لقائه مع أنتوني بلينكن:” إن التخطيط لمرحلة ما بعد داعش لا يقل أهمية عن عملية القضاء على هذا التنظيم في العراق، داعيا إلى ضرورة معالجة الأسباب التي أدت إلى ظهور التنظيم. وأكد على ضرورة المباشرة -فيما سماه- عمليات تأهيل فكري ونفسي ومجتمعي، للحيلولة دون التعرض لمثل “نكبة” تنظيم داعش “التي ألحقت بالعراق والعراقيين الأذى الكبير”. وقال إن الشغل الشاغل اليوم يتمثل بالإعداد والتهيئة لمعركة نينوى الفاصلة، مشيرا إلى ضرورة “استثمار المعنويات العالية وزخم الانتصارات الأخيرة التي تحققت، في عدم منح فرصة للإرهاب كي يتقوى من جديد”. وأضاف سليم الجبوري أن “الاستقرار السياسي ضمانة للمرحلة المقبلة، وهو يتطلب المزيد من الجهد المشترك والمعالجات السريعة والحقيقية للأزمات التي من شأنها دعم مسيرة الإصلاح التي يترقبها الشعب وهو ما نعمل لأجله ونجتهد في سبيله”.

وقد رأي محلّلين سياسيين وخبراء عسكريين المعنيين بالشأن العراقي أن زيارة الوفد الدبلوماسي الأمريكي تأتي في سياق الاستعدادات النهائية لمعركة الموصل الفاصلة على اعتبار أن إدارة الرئيس باراك أوباما قد نجحت في أن تصبح صاحبة القرار الرئيسي في الحرب بالعراق مستفيدة من ضعف حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي وكثرة الصراعات بين أطراف الحكم في البلاد. وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي إلا أنه من الصعوبة بمكان التقليل من شأن دور الإقليمي لمعركة الموصل، إذ تدرك إدارة الرئيس باراك أوباما أن معركة الموصل تكتسب أهمية خاصة لدى أطراف كثيرة معنية بالتطورات السياسية والأمنية في العراق. فالولايات المتحدة الأمريكية ترى فيها عملية حاسمة في الحرب ضد تنظيم “داعش” الذي تُعد الموصل أحد معاقله الرئيسية ورافدًا أساسيًّا لموارده المالية. فيما يراها المنافسين الإقليميين والباحثين على دور في تلك المعركة، ويسعيان -من ثمّ- لملء أي فراغ يمكن أن يشكّل مدخلهما لتعظيم مكاسبهما في العراق من خلال المشاركة في الإجهاز النهائي على تنظيم داعش هناك. فبينما يعمل النظام الإيراني من خلال محاولته الاصرار على مشاركة الحشد الشعبي الحليف له في معركة الموصل لضمان سيطرة ميدانية على محافظة نينوى المجاورة لسوريا والتي تتيح التواصل المباشر مع نظام بشار الأسد حليف طهران، ولن يكتف فقط بهذه المشاركة وهو ما يبدو جليًا في تأكيد العميد أيرج مسجدي المستشار الأعلى في الحرس الثوري الإيراني، على أن “إيران سوف ترسل مستشارين وخبراء عسكريين لدعم القوات العراقية لتحرير الموصل”.

وقد أثارت هذه التصريحات تساؤلات عديدة عن حجم الوجود العسكري الإيراني في العراق، وعن الدور الذي يقوم به قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، وعن الموقف الأمريكي من تلك المشاركة. ورغم أن ثمة اتجاهات عديدة أشارت إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية أعطت ضوءًا أخضر لمشاركة إيرانية في المعركة، إلا أن هذه التكهنات تواجه إشكاليات عديدة، في ظل إدراك واشنطن للتداعيات السلبية لانخراط الحرس الثوري في العراق ودوره في تأسيس بعض الميليشيات المسلحة، والذي مثل أحد الأسباب الرئيسية في تصاعد نشاط “داعش” في الشمال وهو ما أكدته المواجهات السابقة، إلى جانب اتساع نطاق الخلاف بين الطرفين سواء حول رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران بعد الوصول للاتفاق النووي، أو حول تطورات الأزمة في سوريا. في المقابل تعمل الحكومة التركية من خلال وكلاء لها من السياسيين السنة على ضمان وجود لها في الموصل تحقيقا لإرث تاريخي في المدينة، وضمانا لمراقبة تحركات الأكراد ولضبط ما يمكن أن يقدموا عليه من خطوات توسعية انطلاقا من إقليمهم في شمالي العراق. وعلى ضوء ذلك ربما يمكن القول أن معركة الموصل سوف تفرض تداعيات قوية ليس فقط على مصالح القوى المعنية بها وإنما أيضًا على التطورات الميدانية والسياسية في ملفات أخرى وعلى رأسها الملف السوري. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق والذي يتفرع منه سؤالين آخريين: ما الذي ينتظر العراق في مرحلة ما بعد داعش؟ هل المزيد من التشرذم والتبعثر؟ أم أن درس ويلات داعش كافية لكي تصحح العملية السياسية في العراق مسارها؟

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية