إعادة تقسيم النفوذ في شمال سوريا

إعادة تقسيم النفوذ في شمال سوريا

427

عملية «درع الفرات» التركية التي بدأت يوم 20 أغسطس/ آب الماضي باقتحام دبابات الجيش الثالث التركي الحدود مع سوريا متجهة نحو مدينة جرابلس الاستراتيجية في الوقت الذي كان يتواجد فيه جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي في أنقرة لتقديم اعتذارات أمريكية لتركيا حول حيثيات الانقلاب العسكري الفاشل وتقديم توضيحات تتعلق بصعوبة الاستجابة الفورية الأمريكية للمطالب التركية بتسليم المعارض التركي فتح الله جولن لأنقرة، تعيد الاعتبار مجدداً لأسئلة كثيرة تتعلق بالرفض التركي للمطلب الأمريكي الداعي إلى دخول تركيا كشريك فعّال للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» وأسباب هذا الرفض حينذاك، وتجدد التساؤل حول أسباب كل هذا الحماس التركي للعودة إلى خيار «التدخل العسكري النشط» في سوريا.
كان المطلب التركي في البداية هو فرض منطقة حظر طيران في شمالي سوريا، والهدف الظاهري هو حماية اللاجئين من المدنيين السوريين من ضربات الجيش السوري، لكن الهدف الحقيقي كان هو تأمين خطوط انتقال المتطوعين للقتال في سوريا، سواء للانضمام إلى «داعش» أو إلى فصائل المعارضة السورية الأخرى، وتأمين دخول الإمدادات العسكرية من الأطراف الداعمة للمعارضة السورية عبر بوابات الحدود التركية مع سوريا. ثم تطور الهدف أو المطلب التركي إلى فرض «منطقة آمنة» في شمالي سوريا، أي فرض منطقة نفوذ تركي في شمالي سوريا. لم يحظ أي من المطلبين التركيين بقبول أمريكي، لذلك لعبت تركيا ورقة التفاعل مع «داعش» التي نجحت فيها بامتياز أجبر الأمريكيين على تقديم تنازلات لتركيا مقابل الحصول على موافقة أنقرة باستخدام قاعدة «انجرليك» التركية في الحرب ضد التنظيم الإرهابي.
المطلبان التركيان حفزا النظام السوري إلى إعطاء ضوء أخضر ل «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري للانخراط في الحرب ضد ميليشيات «داعش» التي احتلت أراضي تقطنها أغلبية كردية. وقتها كان يمكن القول إن تحالفاً ما تأسس بين النظام السوري وصالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لخوض حرب مشتركة ضد «داعش» وقامت الميليشيات التابعة لهذا الحزب التي أخذت اسم «وحدات الحماية» وكان المقصود هو حماية المدن والقرى التي تسكنها أغلبية كردية من تنظيم «داعش» بالدور البارز في قتال «داعش» مدعومة من النظام السوري وقتها ومن أطراف أخرى.
كان لهذا التحالف هدفين من جانب النظام السوري؛ أولهما، توظيف ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي في القتال ضد «داعش» في شمالي سوريا كي يتفرغ النظام وجيشه وحلفاؤه للقتال في الجبهة الجنوبية خاصة في درعا وحول العاصمة حيث كان الخطر شديداً في هاتين المنطقتين، أما الهدف الثاني فكان توظيف هذا الدور الذي تقوم به «وحدات الحماية» الكردية كورقة ضغط واستفزاز ضد تركيا التي كانت تقدم كل أنواع الدعم لفصائل المعارضة. أما صالح مسلم وحزبه فكان هدفهما هو استغلال ظروف غياب الجيش السوري في الشمال للتمدد وفرض أمر واقع كردي ونفوذ قوي للحزب وميليشياته تمهيداً لتأسيس كيان كردي مستقل في شمالي سوريا، وهذا ما حدث بالفعل وهي الخطيئة الكردية التي تتكرر تاريخياً دون تدبر ووعي لدروس التاريخ.
فالتورط الكردي في تأسيس فيدرالية أو كيان حكم ذاتي في شمالي سوريا أخذ اسم «روج أفا- شمال سوريا» بدعم أمريكي أدى إلى نتائج عكسية تماماً إذ إنه استفز كل الأطراف وأدى إلى تقارب في المصالح بين أعداء الأمس: تركيا مع روسيا وإيران والنظام السوري نفسه، وصل إلى درجة تصريح رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم بأن «تركيا ترغب في القيام بدور أكبر في الأزمة السورية خلال الأشهر الستة المقبلة» ومعتبراً أن بشار الأسد «هو أحد الأطراف الفاعلين في النظام». والقول «شئنا أم أبينا الأسد هو أحد الفاعلين في النزاع بهذا البلد، ويمكن محاورته من أجل المرحلة الانتقالية».
لسوء حظ الأكراد أن تقاربت تركيا مع روسيا، وزاد هذا التقارب بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، بعد تردد الولايات المتحدة في إدانتها عكس روسيا، وبعد وجود معلومات لدى الأتراك أن لواشنطن دوراً في هذه المحاولة الانقلابية، وبعد تبني واشنطن ميليشيات وحدات الحماية الكردية السورية في القتال ضد «داعش» والتحالف العلني مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري في هذا القتال ضد رغبة تركيا التي اعتبرت أنها مستهدفة من هذا التحالف الذي سيؤسس لكيان كردي في شمالي سوريا تراه أنقرة تهديداً وجودياً لأمنها ووحدتها، كما أدى هذا الخطر الكردي الجديد في شمال تركيا إلى تقارب إيران مع تركيا لمواجهة الخطر المشترك.
تحولات وتبدلات في خرائط التحالفات أجبرت واشنطن على أن تتفاهم مع تركيا وأن تدخل وسيطاً بين الحلفاء الأكراد والحلفاء الأتراك وأن توقف إطلاق النار وتقوم بدور في تقسيم الأرض بين هذين الحليفين.
وهكذا أدى التدخل العسكري التركي الذي أخذ اسم «عملية درع الفرات» إلى إعادة توزيع النفوذ في سوريا بين حلفاء واشنطن المتخاصمين: المعارضة السورية المسلحة في ريف حلب الشمالي، الأكراد السوريين وفيدراليتهم إلى الشرق من نهر الفرات، الجيش التركي على أبواب حلب، وفي المنطقة الممتدة على شطر من الحدود بين عفرين وجرابلس، وهي المنطقة التي يعتبرها الأتراك أنها «المنطقة الآمنة» التي كانوا يسعون إليها منذ أكثر من ثلاثة أعوام مضت من عمر الأزمة السورية، وبات في مقدورهم الآن، إنشاء خط تماس لأول جيش «أطلسي» مباشر مع الإيرانيين والروس في حلب وتهديد مشروع الروس والنظام السوري بتقصير أمد الحرب في حلب. هدف عنوانه مزيد من الاستنزاف لروسيا والجيش السوري على أمل أن تكون السيطرة على جرابلس خطوة للوصول منها إلى منبج والباب ثم إلى حلب.. الهدف الأسمى والأهم.. عندها سيكون قد نشأ أمر واقع جديد أكبر كثيراً من التصدي ل «الكيان الكردي».

د.محمد السعيد إدريس

صحيفة الخليج