هزيمة الإسلام السياسي في العراق تشمل جميع الطوائف

هزيمة الإسلام السياسي في العراق تشمل جميع الطوائف

iraq-corruption-07082015-001

حسب فهمي كانسان عاش في الثقافة الإسلامية، هو أن الإسلام وافق طموحات العرب. كان دفعة حضارية وقفزة كبيرة. في البداية كان في الإسلام رجال طموحون، مثلا خالد بن الوليد وجد في نفسه الموهبة العسكرية، ولا يمكن أن يحقق طموحاته إذا بقي قائد قبيلة أو مجموعة قبائل. الإسلام حقق له أحلامه؛ جيوش جرارة وحروب دائمة، وهو عبقري الجندية الفريد. خاض 200 معركة مهمة بلا هزيمة واحدة.

الصحابة الآخرون كانوا متفهمين، فأصبحوا بالإسلام قادة وخلفاء وولاة ودعاة وقضاة وجامعي خراج وتجارا كبارا، على الهامش وبصمت نشأ رجلان؛ واحد مؤمن تماما بالإسلام بتطرف والآخر لا يبدو عليه التدين على الإطلاق، هما علي بن أبي طالب ومعاوية.

الأول ذهب ضحية هذا التصديق المتطرف للدين والآخر قام بشيء رهيب وتاريخي. خلّص الدنيا من سيطرة الدين، أصبح الدين وسيلة وأداة بيد السلطان، وليس كما كان يريد علي وغيره التطبيق الحرفي للشريعة. كان بيت مال معاوية بالشام يغص بالذهب واستعان بالنصارى والروم لإدارة المال واستثماره وتطوير التجارة، بينما خصمه علي بن أبي طالب في الكوفة يكنس بيت المال بيده كل يوم زاهدا خائفا من يوم الحساب بعد توزيع المال على الناس. يعني الرجل ورع ولا يفهم بالاقتصاد. هذا هو الموضوع ببساطة.

والسواد أي سواد الناس، أخذوا الدين كما أخذوا النصرانية من قبل، وكما كانت الوثنية في الجاهلية كعزاء ورجاء واستعانة على العذاب والضعف والحزن والمرض والخوف، وهكذا اختلطت القصة بتغسيل الموتى والولادة وبالأعياد والتجارة والفرح والحزن والشدة، حتى صارت حضارة عظيمة.

هذا الأمر اكتشفه الشيخ محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر، وهو أن الإسلام مجرد عادات وتقاليد وليس ذلك النشيد والاندفاعة الأولى نحو التوحيد التي ظهرت بسيوف الصحابة والفتوحات. التوحيد دفعة لبناء الأمم وليس مجرد تقاليد، لهذا استفادت السعودية من التوحيد في توحيد الجزيرة، كان حلم آل سعود دوما توحيد الجزيرة العربية، وضم الحجاز والأحساء ونجد ونجران وحائل. المهم عاد الإسلام إلى التقاليد وانتهى الأمر بعد توحيد الجزيرة العربية أخيرا على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن سعود.

ولكن بقي مفهوما دوما بأن الإسلام يمكن تثويره فهو خلية عظيمة نائمة، يمكن إيقاظه دوما وتحويله إلى جيش ودعوة وتوحيد، وعلى هذا قال الفقهاء بطاعة ولي الأمر ما دام يسمح بالعبادات. أي ما زال الإسلام يبقى خلية نائمة قابلة للتثوير والجهاد في حال تهددت العبادات وهجم الصليبيون. هذا هو جوهر طاعة وليّ الأمر، لأن همّ الفقيه الحفاظ على الدين وليس السياسة. وتعاهد الأمراء والفقهاء، أن يكون الله مع الغالب من الأمراء دوما، طالما هذا الغالب مسلما.

حاول أتاتورك كسر هذا النموذج، فهو أول رئيس قوي علماني بعد الخلفاء العثمانيين، حاول التحرش بالعبادات والتقاليد والفقهاء. أراد انتزاع الخلية النائمة وتحديث البلاد ولم ينجح. فقد ظهر أب جديد لتركيا اسمه أردوغان، وسيعمل الغرب اليوم وبسبب خطر داعش والتطرف والإسلام على القيام بنفسه هذه المرة على إتمام مهمة أتاتورك وإقناع المسلمين بالعلمانية.

نحن بين نموذجين؛ أبو بكر البغدادي وأردوغان، وكلاهما يطمح إلى الخلافة. إسلام البغدادي هو التوحيد، تطبيق السنة النبوية مرة أخرى، وتجديد البيعة بالتوبة والسيف والهجرة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والفتوحات والنفير والجنة والشهداء. استنساخ واضح للدعوة النبوية والسيرة.

أردوغان -بالمقابل- لا يرى الأمر كذلك، بل يرى أن هناك مشكلة في دعوة البغدادي، فهي تختلف حتى عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لأن مؤسس الوهابية لم يعلن نفسه خليفة، بل بايع أميرا دنيويا على نصرة الدعوة. البغدادي هو شيخ وخليفة في نفس الوقت، بمعنى أنّه تقمص شخصية النبي. أردوغان يريد من الإسلام أن يكون وسيلة، لإعادة الخلافة بطريقة سياسية براغماتية، أي أن طريقته تختلف.

وعلى النقيض من الطرفين يريد العرب فصل الدين نهائيا عن السياسة. العرب لا يريدون حزبا باسم الإسلام ولا تنظيما، يريدون من رجال الدين العودة إلى المسجد، مع دعم أكبر لليبرالية والتنوير واللادينيين.

هذه ثلاثة رؤوس تتحرك أمامنا، مشكلة أردوغان أن قطع رأس البغدادي، سيجعله ضعيفا ويقوّي العرب. فالقضاء على داعش بعد خراب ينفّر الناس نهائيا من الإسلام السياسي بكل أنواعه، ويخرجهم أفواجا من الاهتمام الديني، خصوصا أن هناك نموذجا علمانيا ناجحا هو الذي اقتلع داعش وهزمهم وهو الغرب.

نلاحظ اليوم تقاربا تركيا حتميا مع إيران، فبغض النظر عن الحاجز المذهبي كلاهما مستهدف من الغرب والجوار. كلاهما يريد الاستثمار في الفتن الدينية والتطرّف والعداء لإسرائيل، كلاهما يريد من الإسلام السياسي أن ينهض. إنه تقارب على أساس المصير المشترك بين نظامين إسلاميين. أعتقد بأن المستقبل علماني. لا يمكن للدين أن يعود إلى أستاذية العالم في العصر الحديث. الشعوب يتحرك مزاجها بعيدا عن الدين وليس فقط بعيدا عن داعش. العالم يتغير نحو النور.

يريد الغرب من العربي أن يدير ظهره للفهم الديني إلى الأبد كالغربيين، وهذا سيبدأ بالعراق طبعا. الدماء التي تنزف هي شرايين المعتقدات القديمة ودموعها. سيقتلعون العناد الديني من العراق مهما كلّف الثمن. هذا هو الذي يجري، لاحظوا كيف مر موسم الحج باهتا لأول مرة في العراق، وستلاحظون كيف سيمر عاشوراء باهتا هناك. هناك تعب وتحول بالمزاج وانقلاب عراقي، حين يكتمل يتغير النظام السياسي.

لقد رأينا أكرم الناس وقد أُهينوا، أشراف الفلوجة والرمادي أفاضل الناس، ما مرّ بهم خائف إلا أمّنوه، ولا جائع إلا أطعموه، ولا مخذول إلا نصروه. ما انطفأت نارهم عبر العصور، وانطفأت اليوم بكل أسف، احترقت أشرف البيوت بالنار والصواريخ، بكت عزيزات الأنبار من القهر والمذلة، وغدا ربما تحترق الموصل، ويُهان أهل العلوم والسؤدد والمجد، أكثر مما يهانون على يد داعش اليوم. كل هذا بسبب الإسلام السياسي والتطرف.

إن الغرب ناقش هذه المشكلة قبل المئات من السنين، أعظم العقول والفلاسفة تدخلوا وقهروا السلطان الديني، ونحن كنا نائمين في نير العثمانيين والإقطاع. الغرب يقول لا نعرف سرّ الكون ولا موضوع الحياة بعد الموت ولكن بما عندنا من علوم ومعرفة نجعل من الحياة أفضل ونضمن بالفنون والحريات والفلسفة كرامة الإنسان والعقل والحرية.

الفهم الديني في العراق بدأ يتزعزع سواء السنة أو الشيعة. رجل عراقي نازح من الأنبار ويعيش في خيمة سئل فيقول أيام الحرب العراقية الإيرانية كان الإعلام العراقي مفتونا بالآية الكريمة التي تتحدث عن أن القتيل في سبيل الله “حي عند ربه” وهكذا ذهب نصف مليون قتيل، وفي حرب الكويت ربما مئة ألف قتيل، هؤلاء جميعا شهداء؟

واليوم نجد بأن العراقي الذي يقاتل مع إيران يعتبرونه شهيدا، ومع أميركا يعتبرونه شهيدا، وضد أميركا يعتبرونه شهيدا، والدواعش يعتبرون قتلاهم شهداء أيضا. هذه التناقضات هزت قناعات الناس الدينية في العمق.

ثم إن الهزيمة في حرب دينية دائما نهايتها الفتور الديني والتحول العلماني. عندما أسلم أبو سفيان بين يدي النبي قال “والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد” يقصد بأن إلهه لم ينصره.

ولما أسلمت هند جعلت تضرب صنما في بيتها بالقدوم حتى فلّذته فلذة فلذة وهي تقول “كنّا منك في غرور” بمعنى أنه لا يضر ولا ينفع. وفي العراق اليوم تمت هزيمة هؤلاء المتطرفين الإسلاميين بطائرات علمانية يقودها طيارون غير مؤمنين بالديانات.

أسعد البصري

العرب اللندنية