روسيا ما بعد انتخابات الدوما 2016

روسيا ما بعد انتخابات الدوما 2016

580

يبدو أن عدم مبالاة الشارع الروسي إزاء انتخابات مجلس النواب الروسي (الدوما) 2016 هي انعكاس لقناعة غالبية الناخبين الروس بأن هذه الانتخابات لن تأتي بجديد.

فوفقا لما أعلنت عنه اللجنة المركزية للانتخابات في روسيا، في 12 أغسطس/آب الماضي، سمحت اللجنة لأربعة عشر حزبا بالمشاركة في الانتخابات، بناء على بند في قانون الانتخابات يعفي الأحزاب التي حصلت في الانتخابات السابقة على 3% من الأصوات أو التي لديها ممثل -ولو واحد- في البرلمانات الإقليمية، من عملية جمع التواقيع، بينما رفضت اللجنة تسجيل أي أحزاب أخرى للمشاركة في الانتخابات، بما في ذلك الأحزاب التي تمكنت من جمع 200 ألف توقيع من مؤيديها، وهو ما يؤهلها للمشاركة حسب بند آخر من قانون الانتخابات.

نتائج آخر استطلاع للرأي قبل الانتخابات، أجراه مركز “ليفادا” المستقل للدراسات في موسكو، أظهرت أن 9% من الشعب الروسي يتابعون بحماس الحملات الانتخابية، بينما لا يعيروها اهتماما على الإطلاق 43% من الروس.

وكان الرئيس بوتين قد أصدر قانونا يقضي بتقديم موعد الانتخابات، من ديسمبر/كانون الأول المقبل إلى سبتمبر/أيلول الجاري، على أمل أن الناخبين الروس سيكون مزاجهم أفضل بعد العطلة الصيفية، وسيقبلون بنسبة مقبولة على التصويت، لكن من الواضح أن مثل هذه المراهنة لم تطرق باب المواطنين الروس.

ربح سهل ولكن
كان من اللافت أن الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات تعاملت في حملاتها الانتخابية من منطلق التسليم بتقدم حزب “روسيا الموحدة”، الذي يتصدر المشهد الحزبي منذ تأسيسه عام 2001، بيد أن فوز حزب “روسيا الموحدة بالانتخابات، حتى لو استطاع الحصول على أكثر من 41% من الأصوات، وهي النسبة التي حصل عليها في آخر استطلاع للرأي أجراه مركز “ليفادا”، لن ينقذ الحزب من حالة تراجع شعبيته في ظل فشله في معالجة حالة الركود الاقتصادي التي تعصف بالبلاد منذ عام 2014.

ووفق تقديرات المراقبين في موسكو لم تفلح الإطلالات المتكررة للرئيس بوتين شخصيا مع رئيس وزرائه وصديقه ديميتري ميدفيدف الذي يتولى قيادة حزب “روسيا الموحدة”، في استعادة الحزب لثقة الشارع.

ومن المتوقع أن يواجه حزب “روسيا الموحدة” تحديات صعبة في المرحلة المقبلة، إذ اقترح في برنامجه الانتخابي إطلاق موجة جديدة من عمليات الخصخصة، تقلص حصة الدولة في اقتصاد البلاد، وهو ما من شأنه إثارة سخط قطاعات واسعة من الروس، لاسيما الفئات الاجتماعية الأقل ضعفا، مع تحذيرات من حدوث زيادة كبيرة في نسبة الفقر في روسيا، وهو ما أقر به رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيدف حين قال: “إن نسب الفقر التي تشهدها البلاد واحدة من أكثر الانخفاضات إيلاما”. وفي سياق متصل، تراجعت أجور المواطنين الروس بما يقارب 7% في فبراير/شباط 2016، مقارنة مع الفترة نفسها في عام 2015.

وللمفارقة، فإن تراجع شعبية حزب “روسيا الموحدة” الحاكم لم يؤثر كثيرا على شعبية الرئيس فلاديمير بوتين، فمازال بوتين يتمتع بشعبية واسعة تبلغ 80%، رغم دفاعه عن النهج الاقتصادي للحكومة برئاسة ديميتري ميدفيدف الذي يعد بنظر كثير من المواطنين الروس المسؤول عن فشل السياسات الاقتصادية في البلاد، ويرجح مراقبون في موسكو أن يدفع ميدفيدف مستقبله السياسي ثمنا لذلك، حيث أصبح استهدافه شخصيا العنوان الأبرز في الاحتجاجات الشعبية على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية.

ومن الطريف في الأمر أن أغنية ساخرة للفنان الروسي سيمون سيلبيكوف (مراجعة الشعب) لقيت إقبالا كبيرا على الانترنت، حيث حصلت على 750 ألف مشاهدة في يوم واحد، وهي مستوحاة من أحد التعليقات المثيرة للاستهجان لميدفيدف ، قال فيه “لا أموال لدينا في الفترة الحالية. عندما نجد أموالا سنحسن أوضاعكم.. تحلوا بالصبر”، في معرض رده على مطالبة امرأة مسنة بزيادة معاشات الموظفين المتقاعدين في شبه جزيرة القرم، في مايو/أيار الماضي.

الخريف بانتظارنا
أطلقت الكاتبة الروسية المعروفة، البروفسيرة ليليا شيفتسوفا، والتي تعمل كخبيرة في مركز “كارنيغي” الأميركي للأبحاث في العاصمة الروسية موسكو، جملة معبرة بات يعتبرها الكثيرون بمثابة نبوءة تدب اليوم في المنظومة الحزبية والسياسية الروسية، ففي معرض تعليقها على مجموعة من القوانين المقيدة للحريات بعد عودة بوتين إلى الرئاسة عام 2012، ومنها منع التمويل الخارجي عن المنظمات وقانون المظاهرات والتجمعات العامة وفرض رقابة على الإنترنت، اختصرت شيفتسوفا المشهد بالقول: “الخريف ينتظرنا”.

ومن مظاهر الخريف حالة التخبط التي تعيشها أحزاب المعارضة الرئيسية في روسيا، قديمها وحديثها، “الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية”، برئاسة زعيمه المخضرم غينادي زوغانوف مرشح لخسارة كبيرة في انتخابات مجلس الدوما، بفعل تراجع شعبيته وانحصارها بالفئات العمرية المسنة، ويعيش الحزب منذ سنوات طويلة حالة من التكلس في بنينه القيادية والحزبية والأيديولوجية البرنامجية، ويعيش حالة اغتراب عن قطاع الشباب.

حزب “يابلكو” الليبرالي، برئاسة إيميليا سلابونوفا، يلهث من أجل الحفاظ على وجوده في مجلس الدوما، ويخشى قادة الحزب من تكرار تجربة انتخابات عام 2003، حيث لم يتمكن الحزب حينها من تجاوز الحاجز الانتخابي 5% ودخول البرلمان. وتعصف بحزب “بارناس”، بقيادة رئيس الوزراء السابق ميخائيل كاسيانوف، انقسامات حادة أبعدت عنه قاعدته الحزبية المحدود أصلا.

الحزب “الليبرالي الديمقراطي” بقيادة فلاديمير جيرنيوفسكي هو المرشح الوحيد للحصول على نتيجة أفضل من نتائجه السابقة، منذ تأسيسه عام 1993، بحصوله على أكثر من 12% من أصوات الناخبين، لكن هذا الحزب المعروف بتوجهاته القومية المتطرفة لا يمكن اعتباره أكثر من حالة شعبوية عبثية.

ويبني جيرنيوفسكي شعبيته في أوساط المتطرفين على تصريحات تثير سخرية الشارع الروسي، على سبيل المثال لا الحصر، في اجتماع للرئيس بوتين مع برلمانيين روس، في يالطا عام 2014، طالب جيرنيوفسكي بـ”الإعلان عن عودة الملكية” إلى روسيا، وتنصيب بوتين بوصفه “الإمبراطور فلاديمير الأول”، و”ضرورة التفكير في التخلي عن علم روسيا بألوانه الثلاثة الأبيض والأزرق والأحمر والعودة إلى علم روسيا القيصرية، وتغيير النشيد الوطني”، كما طالب بـ”التراجع عن إجراء أي انتخابات بوصفها بدعة غربية”، ودعا إلى “عسكرة الاقتصاد الوطني”.

من غير بوتين؟
على ضوء ما سبق، ليس ثمة رهان من قبل المعارضة على إمكانية تحريك الشارع في مظاهرات حاشدة، فأعداد من نزلوا في المظاهرات التي دعت لها المعارضة بعد عام 2012 كانت قليلة جدا بالقياس إلى المظاهرات في عهد ديميتري ميدفيدف.

ويبدو أن هامش التحرك أمام المعارضة سيبقى محدودا في المدى المنظور، والرهان الوحيد الذي تتعلق به المعارضة هو أن تأخذ مفاعيل الأزمة الاقتصادية مداها عام 2018، وسط توقعات باستمرار انكماش الاقتصاد الروسي إذا ما استمرت أسعار النفط على حالها، وعجز في الميزانية الروسية، مما سيؤدي إلى المزيد من تقليص الإنفاق الحكومي ومخصصات الضمان الاجتماعي، ووجود مؤشرات على أنه من الصعب على الحكومة السيطرة على العجز، لأن الميزانية الروسية مازالت تعتمد على مبيعات النفط والغاز بنسبة 40 إلى50% كما أن نتائج الخطط التي وضعتها الحكومة لدعم قطاعات في الاقتصاد الحقيقي لم تكن بالمستوى المطلوب.

لقد واجه بوتين احتجاجات واسعة عشية عودته إلى الكرملين 2012، وجاء في استطلاع الرأي، الذي أجرته مؤسسة “فيزيوم” البحثية التابعة للحكومة في يناير/كانون الثاني أي قبل الانتخابات الرئاسية حينها بشهرين، أن “38% من الشعب الروسي يعتبرون بوتين السياسي البارز في البلاد”، في تراجع 17 نقطة عن معدلات الدعم التي كان يتمتع بها منتصف العام 2011.

وعبّر الكثير من الروس عن خشيتهم من أن تؤدي عودة بوتين إلى سد الطريق أمام الإصلاح الاقتصادي والسياسي، إلا أن شعبيته عادت للصعود بعد ضمه لشبه جزيرة القرم، على وقع إثارة الحدث للمشاعر القومية الروسية.

لصورة اليوم تبدو مختلفة نوعا ما فالأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة عادت لتحتل سلم أولويات اهتمامات المواطنين الروس، وهذا يفسر شروع بوتين في التحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2018.

وقد أطلق مؤخرا غريمه اللدود ميخائيل خودوركوفسكي حملة لاختيار بديل للرئيس بوتين عام 2018، علما بأن خودوركوفسكي ظل يرأس شركة النفط العملاقة “يوكوس” حتى تم اعتقاله في العام 2003 وأفرج عنه بوتين عام 2013، غير أن خودوركوفسكي لا يمتلك تأثيرا يعتد به في الشارع الروسي، ناهيك عن أن الأسماء التي من المتوقع أن يدعمها لا تحمل مشاريع تغيير حقيقية بأفق ديمقراطي تعددي.

وحتى الآن لا يجد بوتين نفسه أمام مواجهة سياسية جدية تهدد سعيه نحو ولاية رئاسية رابعة، فالنخب السياسية والاجتماعية مشتتة وتفتقر لأطر منظمة قادرة شق طريق للتغير، لكن استمرار الوضع على ما هو عليه يتوقف على مقدرة نظام حكم الرئيس بوتين على التعاطي مع المشاكل الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية حتى عام 2018، والاحتجاجات الأخيرة على الأوضاع المعيشية، وإن كانت أعداد المشاركين فيها قليلة تعطي مؤشرات ليست في صالح الكرملين، فقد اكتسب بوتين شعبيته في ولايته الأولى، بعد نجاحه في تجاوز الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد في آخر سنوات حكم سلفه بوريس يلتسين عام 1999، أما اليوم فعجلة الاقتصاد الروسي تدور نحو الخلف.

فهل ينجح رهان المعارضة على أن تأخذ الأزمة مداها حتى عام 2018؟ وهل ستمتلك المعارضة مرشحا يكون قادرا على تشكيل بديل لبوتين؟ سؤال مركب ستبقى الإجابة عليه مفتوحة خلال العامين القادمين، وعلى الأغلب سيواجه بوتين التحدي دون صديقه ميدفيدف.

عامر راشد

الجزيرة